محمود الوردانى يكتب | فى رحلة إلى مهد الإنسانية

محمود الوردانى يكتب | فى رحلة إلى مهد الإنسانية
محمود الوردانى يكتب | فى رحلة إلى مهد الإنسانية

أبادر أولا بالاعتذار للقارئ، فلأسباب طباعية لم أتمكن من نشر الجزء الثانى فى موعده، من المقال الذى خصصته لتناول الكتاب الهام «رحلة إلى مهد البشرية» للدكتور رشدى يوسف الصادرة طبعته الثانية عن مركز النيل للنشر والتوزيع، هذا العام، وهنا الجزء الثانى.


 وكان د. رشدى يوسف قد أمضى أربعة أعوام مبعوثا من الخارجية المصرية إلى تنزانيا بدءًا من عام 2007، ولفت نظرى فيما كتبه عكوفه وانكبابه على دراسة وفحص الأدلة العلمية والآثارية التى تؤكد أن جدنا الأول انطلق من هذا المكان تحديدا، كما لفت نظرى أيضا عكوفه وانكبابه على مسألة لا تقل أهمية وهى مجدنا وخيباتنا فى هذه المنطقة، وتحديدا فى جزيرة زنزبار التى تشكّل مع ما كان يُعرف بتنجانيقا جمهورية تنزانيا الآن.


 من أجل معرفة أمر كهذا، كان على د. رشدى يوسف أن يعود إلى الأصول، أى إلى كتب الرحالة والإخباريين العرب المعاصرين، ومن تلاهم من المؤرخين ومن كتبوا مذكراتهم، فضلا عن إسهامات عديدة لكتاب ومشتغلين بالتدوين خلال عصور الاستعمار الحافلة فى تلك المنطقة من العالم.

ولا شك أن زيارة الكاتب الشخصية وحرصه على المعرفة المباشرة للأماكن الحقيقية، التى كانت قد شهدت الأحداث والوقائع التاريخية الكبرى، هو ما منح كتابه هذه الأهمية الفائقة.


 حسبما أورد د. يوسف فإن الإخباريين العرب يشيرون إلى أن أول اتصال بين العرب وبين جزيرة زنزبار يعود إلى عام 84 هجرية، كما أن أملاك سلاطين عُمان امتدت حتى كينيا، بل إن السلطان سعيد قرر عام 1832 أن ينقل عاصمة امبراطوريته من مسقط إلى زنجبار لاعتدال جوها، فقد كانت مسقط آنذاك -حسب ابن بطوطة- بشمسها المخيفة تذيب السيف فى جرابه!


 زار د. يوسف، بين ما زار، أماكن بيع العبيد بالمزاد، والقلاع والمبانى والقصور الأثرية، وبعضها تم تحويله إلى فنادق أقام فيها بالفعل ووصفها بدقة، كما رصد بدقة التحولات المتتالية، فالسلاطين يموتون، وخلفاؤهم يمزقون ويتقاتلون ويدبرون المؤامرات، وفى الوقت نفسه هناك قوى جديدة تتقدم إلى الميدان: قوى الاستعمار الأوربى المدعوم بالأسلحة ومدافع الأساطيل والاجتياح الكولونيالى.

وسرعان ما انتقلت السيادة والنفوذ إلى الأساطيل والبوارج الأوربية. وقد شهدنا نحن هنا فى مصر جانبا لا يستهان به من هذه الدراما الحافلة على شواطئ الإسكندرية، وخرج مصطلح «دبلوماسية البوارج» إلى الوجود فى الفترة التاريخية نفسها، وهو ما انتهى بنا إلى غزو البلاد واحتلالها الوحشى عام 1882 كما هو معروف.


 كذلك يلفت د. يوسف النظر إلى الدور الذى لعبته الأميرة المتمردة سالمة بنت سعيد التى تركت لنا مذكراتها المترجمة إلى العربية، وكانت قد أحبت تاجرا ألمانيا مسيحيا تنصرت من أجله بنت السلطان وهربت معه إلى بلاده، لكنه لم يلبث أن مات فى حادث وترك لها طفلين، وعانت من شظف العيش، ولولا الحلى والجواهر التى كانت فى حوزتها عندما هربت لماتت جوعا فى بلاد الغُربة والوحشة. 


 نصل سريعا إلى القرن العشرين، قرن التحولات الكبرى والصياغة الجديدة للعلاقات الدولية فى ظل حربين عالميتين طاحنتين، ومن بين نتائج ذلك حصول زنجبار على استقلالها عام 1963 وبعد سلسلة أحداث أخرى تم توحيد زنزبار وتنجانيقا عام 1964 لتتأسس جمهرية تنزانيا المتحدة.


وفى النهاية كنت أتمنى أن يسجل لنا د. رشدى يوسف جانبا من عمله كطبيب فى تنزانيا، خصوصا وأنه استمر لأربع سنوات، وربما فعل هذا فى طبعات قادمة من كتابه الرائد والحافل.

اقرأ ايضا | محمود الورداني يكتب: رحلة إلى مهد الإنسانية «١»