علي جمعة: النبي أبهر الجميع بختلف انتماءاتهم في تأسيسه للتعايش مع الآخر

علي جمعة
علي جمعة

واصل الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومفتي الجمهورية السابق، حديثه عن الدروس والعبر المستفادة من توقيع صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة.


وقال علي جمعة، من خلال منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" : بعد أن تم صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة‏,‏ رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة مطمئنا إلى وعد الله له بفتح مكة من ناحية‏,‏ واطمأن إلى تأمين الدعوة في ربوع شبة الجزيرة العربية والعالم من ناحية أخرى.

وأضاف علي جمعة: بدأ بإرسال مكاتباته إلى الملوك من العرب والعجم ورؤساء القبائل والأساقفة والمرازبة وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام، مستطردا أما رسائله إلى ملوك العرب ورؤساء القبائل فكان أبرزها إلى ملوك البحرين واليمامة والغساسنة, ففي سنة ثمان قبل فتح مكة بعث العلاء بن الحضرمي برسالته إلى ملك البحرين, وكان نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي, سلام عليك, فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله... أما بعد: فإني أذكرك الله عز وجل, فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه, وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني, ومن نصح لهم فقد نصح لي, وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك, فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه, وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم, وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك..», فقال المنذر لابن الحضرمي: (قد نظرت في هذا الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة, ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا, فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الممات, ولقد عجبت أمس ممن يقبله, وعجبت اليوم ممن يرده, وإن من أعظم ما جاء به أن يعظم رسوله وسأنظر), فأسلم المنذر وحسن إسلامه. (عيون الأثر).

وأشار علي جمعة ، إلى أنه النبي ﷺ كان يخاطب كل ملك أو أمير قبيلة بما يتناسب معه وبما يعرف عند علماء البلاغة بمراعاة مقتضى الحال, فيختار كلماته المفعمة باللين والرحمة, فتقع من عقل المتلقي بمكان قبل قلبه, فينجذب بتأثير الرفق والحكمة مع نور النبوة, وهو ما أكده المنذر بن ساوي في رده على ابن الحضرمي.

وتابع: وأما كتابه ﷺ إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة، فأرسله مع سليط بن عمرو العامري, وقال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي, سلام على من اتبع الهدى, اعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر, أسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك»، فلما قدم عليه سليط بكتاب النبي ﷺ مختوما أنزله وحباه وقرأ عليه الكتاب فرد ردا دون رد وكتب إلى النبي ﷺ: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك), وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر, فقدم بذلك على النبي ﷺ فأخبره, وقرأ النبي ﷺ كتابه وقال: «لو سألني سيابة -أي بلحة- من الأرض ما فعلت, باد وباد ما في يديه».

واسترسل: فلما انصرف النبي ﷺ من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة قد مات فقال ﷺ: «أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي», فقال قائل: يا رسول الله من يقتله؟ فقال له رسول الله ﷺ: «أنت وأصحابك» (الطبقات الكبرى).

وأكد علي جمعة: لقد كان هذا نموذجا آخر عكس الأول تجبر صاحبه وتكبر أن يتبع الرسول خوفا على ملكه أن يزول, ولكن سرعان مازال وتحققت نبوءة الرسول ﷺ حين خرج مسيلمة الكذاب يدعي النبوة ويخرج على المسلمين فيقتل في حروب الردة.

وبين أنه برغم أن الرسول ﷺ كان حريصا على الحكمة والموعظة الحسنة في مكاتباته ومراسلاته, فقد وجد معارضة وانتقادا واستهزاء من بعض الملوك والأمراء, وهو ما يظهر جليا في رد الحارث بن أبي شمر الغساني على كتاب الرسول ﷺ, حيث لم يدخل عليه شجاع بن وهب حامل الكتاب إلا بعد ثلاثة أيام, فلما أذن له بالدخول وقرأ كتاب رسول الله ﷺ رمى به, وقال: (من ينتزع مني ملكي أنا سائر إليه, ولو كان باليمن جئته)، وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال لشجاع: (أخبر صاحبك بما ترى) وكتب إلى قيصر يستأذنه في المسير, فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه ألا تسر إليه واله عنه ووافني بإيلياء, ولذلك دعا عليه النبي ﷺ فقال: باد ملكه (تاريخ دمشق).

وأردف : وفي المقابل نجد حاجب الحارث الغساني رجلا روميا يدعى مري بكي عندما سمع من شجاع بن وهب عن النبي ﷺ ما وجده في الإنجيل فرق قلبه، وأكرم شجاعا, وقال له: (اقرأ على رسول الله ﷺ مني السلام وأخبره أني متبع دينه) (زاد المعاد).

واختتم قائلا: "تلك بعض الأمثلة لمعاملة الرسول ﷺ ملوك ورؤساء العرب غير المسلمين في مكاتباته ومراسلاته, وهي أصل لما بات يعرف بإدارة العلاقات الدولية بين الدول, مقدما بذلك نموذجا أبهر المنصفين على اختلاف انتماءاتهم في تأسيس التعايش السلمي مع الآخر خارج حدود الدولة في إطار من السلام والرحمة والدعوة إلى الخير".

اقرأ أيضا:أيهما أفضل العشر الأوائل من ذي الحجة أم الأواخر من رمضان؟.. علي جمعة يجيب