نظرة سينمائية ثاقبة أولى لوضع فلسطيني موجع يطرحها المخرج رشيد مشهراوي في فيلمه “حتى إشعار آخر” الفائز بجائزة “الهرم الذهبي” لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ 17 عام 1993، وبقدر واقعية الصورة كانت الشاشة تنطق إلهاما محركا لفكر ومؤثرة لروح تقاوم لحظة حياتها .
في الفيلم الذي تدور أحداثه في مدينة غزة خلال الفصول الأخيرة من عمر الانتفاضة الكبرى، والتي انطلقت عام 1987، عشنا أحداث 24 ساعة وكأنها عمرا لشخصياته، عاشوه خلال حظر التجول الذي أعلنه الجيش الإسرائيلي في مخيم للاجئين الفلسطينيين عام 1993.
مع العائلة الفلسطينية التي حددها المكان والزمان تحولت البيوت إلى معتقلات صغيرة ينسجم بين جدرانها نسيج من العلاقات داخل الأسرة، وتكافؤ إجتماعي داخل الحي، تنخرط عائلة “أبو راجي” حلاق شبه مقعد يعاني من آلام عاتية في الظهر، ويمضي طيلة الفيلم تقريباً في لباس النوم وفي حركة محدودة متوجعة، في واقع تتألق فيه قيم الصمود والمقاومة، هذه هي الحياة تحت الاحتلال.
كان المعتاد أن يلعب الأطفال كرة القدم، ويمشي الناس بحرية في الشوارع، ويقوم ساعي البريد بتوصيل الرسائل من بعيد، هذه غزة عام 1993، قبل اتفاقيات “أوسلو” للسلام، ولسوء الحظ، ستتحول الحرية في هذا اليوم إلى قيود، حيث يطالب الجنود الإسرائيليون بحظر التجول الذي يحصر السكان الفلسطينيين في منازلهم، قيد بسبب الاحتلال المستمر.
نحن أيضًا مقيدون لأننا نلاحظ 24 ساعة في حياة عائلة “أبو راجي”، ونشاهد ونختبر فقط ما يفعلونه في حدود منزلهم، لكن تركيز حظر التجول على الحياة اليومية بعيد كل البعد عن العادي، حيث يصبح هذا المنزل صورة مصغرة للمجتمع الفلسطيني، والأسرة، والحياة تحت الاحتلال.. لمحة مفصلة بشكل مذهل عن حظر التجول على الواقع الفلسطيني نشأت من تجربة مشهراوي الخاصة في حظر التجول الذي استمر لمدة 40 يومًا أثناء زيارته لعائلته في “الشاطئ”، وهو اسم مخيم اللاجئين في غزة، حيث نشأ.
الصدمة الأولى عندما تتلقى أسرة “أبو راجي” رسالة من أحد الأبناء الأربعة الذي يدرس في ألمانيا، مع تجمع الأسرة حوله، يروي الأبن الأصغر “رادار”، كيف اجتاز شقيقه امتحاناته ويغادر لقضاء إجازة في جبال الألب، على الفور، تتناقض هذه الحرية مع الحياة التعاقدية لبقية أفراد عائلته (لا يمكن حتى إنهاء الرسالة)، وعندما أُعلن حظر التجول، لا يبدو أن أحدًا متفاجئ، يقول الأب: “ما الذي يهم، نحن جالسون على أي حال”، وتستمر الحياة على أنها “طبيعية”.
وتتحول هذه الرسالة في القصة إلى رمز للتواصل مع الغائب، ومع عالم الحرية التي يتنعَّم بها بعيداً عن وطء المحتل الصهيوني، وتبدو وكأنها نافذة لعالم الخلاص من هذا المحتل والشروع ببناء مستقبل الباهر يقوم على التحصيل العلمي، كما تغدو الرسالة بتكرار محاولات قراءتها، وهي لن تكتمل إلا مع نهاية الفيلم، وبعد حصول الكثير من الأحداث والمكاشفات، من رموز الإصرار والاستمرار والدأب الفلسطيني.
“رادار” يمارس حقيقة دور الرادار، يراقب الجند، وينقل الرسائل، ويتسلق الجدران، ويعتلي الأسطح، ويعرف أنواع الطلقات من صوتها، وينفِّذ المهمات السرية، فضلاً عن محاولاته قراءة رسالة أخيه الذي يدرس في ألمانيا للأسرة، مرَّة تلو الأخرى
في سرد الفيلم يتعرف الجمهور ببطء على الطرق البديلة التي تمكن هذه الأسرة والمجتمع من البقاء على قيد الحياة، على الرغم من حظر التجول، نظرًا لأنهم لا يستطيعون تعليق ملابسهم بالخارج، فإن لديهم “حبل غسيل خاص بحظر التجول” نصبه في الفناء، هناك أيضًا نظام للتجارة بين الجيران، عندما يحتاج أحد الجيران إلى الحليب، فإنهم ببساطة يخبرون الأسرة بذلك، وتمرر الأموال عبر نافذة أخرى إلى صديقه المجاور، الذي يمرر الحليب بسرعة، يعمل نظام دعم الجوار المعقد هذا على ترميز - ليس فقط - المرونة المستمرة للشعب الفلسطيني، لكن التدفق الهائل للدعم والتواصل الذي يكمن في جوهره، ومع ذلك لا تزال الحياة في منزل “أبو راجي” لها تصرفاتها الشخصية.. “أكرم”، الأبن الأوسط المتهور، حريص على القتال ضد المحتلين، ويجب على شقيقه الأكبر، “راجي”، ووالده تذكيره بإستمرار بواجبه تجاه الأسرة، كما لا يخفي مشهراوي المعاملة غير المتكافئة للمرأة في المجتمع الفلسطيني.. وتوضح “أمل”، الأبنة الوحيدة، أنها لا تهتم بحظر التجول: “لا يمكنني الذهاب إلى أي مكان على أي حال، عندما أخرج يسأل الجميع عما أفعله، وإلى أين أنا ذاهب”، حتى شقيقها الأصغر يتمتع بحرية أكبر مما تتمتع بها، تتذكر “هدى” زوجة “راجي” أنها أرادت دائمًا الدراسة في الخارج، لكنها تزوجت في سن مبكرة، جارة أخرى تحاول الهروب من حياتها الأسرية التعيسة، تشرح: “أنا لست آلة., أنا إنسان”، لكن سرعان ما استدعيت للعودة إلى المنزل بسبب واجباتها كأم.
سجلت كاميرا مشهراوي الرائعة - وغير المزعجة - الحدث الدرامي بحرص، وفي بعض الأحيان تبدو وجهة نظرنا منفصلة، كما لو كان برنامج حظر التجول فيلمًا وثائقيًا، من خلال عيون الشخصيات المرسومة بشكل جيد، لا يرى المرء إلا ما في وسعه من خلال النظر إلى جدار منزلهم (منزل يتم هدمه)، وأخذ جار من قبل الجنود الإسرائيليين، وولادة طفل، وتستمر الحياة، حتى في ظل هذه الظروف المقيدة.
رشيد مشهراوي اسم معروف في الفيلم الفلسطيني منذ ما يقرب من عقدين، إلى جانب العمل في صناعة السينما منذ سن الثامنة عشرة، كان مشهراوي أيضًا عضوًا مؤسسًا لمركز الإنتاج السينمائي والتوزيع في عام 1996، وحاز شهرة دولية للعديد من الأفلام الروائية والوثائقية .
حتى إشعار آخر كان أول فيلم روائي لمشهراوي ومحاولة أولى مثيرة للإعجاب، منذ صدوره فاز بالعديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة “اليونسكو” في مدينة “كان” عام 1994.