أمنية

قبل الجراحة!

محمد سعد
محمد سعد

أكتب إليكم من داخل غرفة الجراحة، أعنى أننى أكتب إليكم من المستقبل، أو أقصد أننى أكتب حيثما أكون فى غضون ساعات قليلة، فمخططات الأطباء منذ 50 يومًا تبين أن جميع الحلول متضافرة لتؤدى فى النهاية إلى داخل هذه الغرفة.

أنا لست منجمًا فيما سوف أسرده ولا أنا مطلع على الغيب ولا كانت الأحداث صدفة فإنها مُخططة مسبقًا ومكتوبة عند رب العباد، كل ما فى الأمر أننى مررت بنفس التجربة عدة مرات، لذلك فأنا متقدم عنكم بخطوات على طريق الزمن، رغم أننى تمسكت بالحجج حتى وقت قريب، فتارة أقول سوف أستطيع تجاوز الكبوة وتارة أخرى أقول تمسك بالأمل ولكن تسارعت الأحداث حتى أصبحت أرى مستقبلي، نعم إننى أشاهده من هنا.

 سوف أصف إليكم - وما أضلنى من عراف - يومًا ما سوف استقبل اتصالًا من طبيبى يطلب منى التوجه الى المستشفى التى حددها، أتصنع المفاجأة لبضع دقائق، سرعان ما أحاول أتذكر أى أنواع الطعام أشتهيها، وأعمل على التهامها لأن الطعام سيصبح من الأشياء القليلة التى سيبقى بوسعى ممارستها فى الساعات المتبقية، ثم أتذكر التدخين وأننى سوف أكون محرومًا منه هذه الليلة، أتوجه إلى الغليون وأُشعل ما أستطيع من تبغ، عندما أشعر أنه لا محال من المكتوب، أُجهز حقيبتى بثبات وأنتقى إحدى روايات أحلام مستغانمى كى تعيننى على قضاء الليلة الاولى قبل الخضوع إلى مشارط الجراحين.

 أتوجه إلى المستشفى، فور إتمام الإجراءات والدخول للحجرة، أحاول تصفح شبكات التواصل الاجتماعى حتى أنفق الوقت، ثم أتجاهلها تمامًا بعد دقائق قليلة، أتناول رواية مستغانمى التى اقتنيتها بعناية، لكن سرعان ما أشعر بأننى لا  أرغب فى قراءتها، أحاول النوم لكنه لن يطيب لى الليلة، أحاول سماع الموسيقى وبعض الأغنيات التى ترفع الروح المعنوية، لكننى أشعر بالخوف، وعند مرحلة معينة، أدرك أن الأمر صعب وأكشف ذلك لمرافقي، رغم محاولتى المتكررة الكتمان فى نفسى لكى لا أُثقل عليه، سأحاول ألا أفكر فى اجتماع الموت والوحدة داخل غرفة العناية المركزة، وأهرب من ذلك الفكر وأُحصى كل الأشياء التى لست بحاجة إليها ربما أضاعت الوقت.

 عند دخول الأطباء والتمريض سوف أستعرض قدرات كوميدية لم أعرفها عن نفسى من قبل، فقط لكى لا أتأمل عبثية الحياة، أحاول ان أخفى وجهى حين تثبيت الحقن فى الوريد ولا أقاوم وأشد يدى من بين أيديهم، لأنه لا محالة من تثبيتها، أستمع إلى تعليمات الطبيب بشأن التوقف عن الطعام والشراب والتدخين، لكنى أتوسل إليه ان ألتقط آخر سيجارة، وأمام إلحاحى سوف يرضخ، لكنى أكذب عليه فسوف أدخن ما أستطيع.

 أحاول النوم من جديد لكنى أعلم مسبقًا ان النوم جافانى ولم أغفْ أبدًا، سوف أتذكر كل من عرفت على مر السنون، وأتذكر المواقف تلو الأخرى، سوف أتوقف عند من غادرونا الى حياتهم او إلى الخلود، وأتذكر أيامهم معنا، ستبدو المشاحنات والعداوات القديمة تافهة، أحاول ان أقوم من غفوتى وأتصل بمن سبق وأقسمت ألا أكلمهم ما حييت، لكن أكتشف أن الوقت تأخر، ومؤكد أنهم ذهبوا فى ثبات عميق أو مشغولون فى حياتهم.

حتمًا سوف يُقضى الليل لكنه سيكون طويلًا وثقيلًا، وسوف يسقط مرافقى لينام بضع ساعات، لكن سرعان ما يستيقظ ملهوفًا عندما يسمع طرقًا على الباب ليدخل التمريض معلنًا بداية يوم جديد أكون غائبًا عن معظم تفاصيله، حقًا هذا ما أعرفه عن مستقبلي.