محمد ممدوح يكتب : أحزان منتصف الليل

محمد ممدوح  يكتب : أحزان منتصف الليل
محمد ممدوح يكتب : أحزان منتصف الليل

الواحدة منتصف الليل.
انتهتْ «باقة النت» على هاتفك. لم يعد لوجود «الواى فاى» فائدة بالبيت الذى تركه إخوتك بالزواج. لم يبقَ فيه غيرك مع أمك وجدتك، اللتين تراهما فى إجازاتك المتباعدة. ألحّ عليكَ خاطرٌ بالخروجِ من حجرتك لتقفَ أسفل شرفة صديقكَ؛ لعلّ هاتفك يلتقط شبَكَتَه. 


 أغلقتَ نور الحجرة. تركتَ باب البيت الحديدى موارِباً إلى الشارع، تناثرتْ على جانبيه قِطعُ طينٍ جآفة كحيواناتٍ ميّتة، وثلاثة أعمدة بإضاءة بيضاء شحيحة. 
أُغلقتْ أبواب ونوافذ البيوت بإحكام. تقاربتْ الشُّرفات، فبانتْ السماء كخطٍ أسود خشيتَ أن يسقطَ فوق رأسك.


وحيدٌ فى صمت شارعكم الموحش كأنّك تراه لأولّ مرّة. كلّما تقدّمتَ خطوة إلى الأمام أصبح الشارعُ خلفكَ بلا نهاية، فتخشى عدم الرجوع إلى البيت.
وقفتَ أسفل عمود إنارة. .


أرسلتْ السماءُ زخّتى مطر؛ فابتسمتَ بمرارة وخبّأت الهاتف فى جيبك.
تذكّرتَ لعبة الملك الصالح»، وركضكَ مع زملائكَ لساعاتٍ على أمل أن يملَ أصدقاؤكم المنتظرينَ عند «الميس» ليقبضوا عليكم قبل أن تلمسه أصابعكم؛ لكنهم كانوا يقبضونَ عليكَ كل مرة قبل أن تلمسَ شيئاً.  


 أخرجتَ الهاتف من جيبكَ. 
 تعملُ الشَبَكَة جيداً، لكنها انقطعتْ بعد دقيقتين من بدء تحميل فيلمكَ المُفضّل. أيغلق صديقكَ «الراوتر» عندما يكتشف أنّ الشبكةَ أبطأ من المعتاد. 


 تسارعتْ دقّات قلبكَ عندما رأيتَ ظل جسدٍ يتحرك على الأرض. رَفَعْتَ رأسكَ فوجدتَ ريحاً تحرّك سجّادة بيتٍ فوق سور الشرفة، ثم تداعبَ شرائطَ فضّية عُلّقتْ بين حائطين، فأصدرتْ نشيجاً مكتوماً أصابكَ بالكآبة.  


آلمتكَ رقبتكَ المحنيّة على الهاتف، ففضّلتَ أن تسندَ رأسكَ إلى حائط الدكّان على بعد خطوتين.


أغمضتَ عينيكَ، فأصدرتْ الشرائط الفضّية بكاء طفل. 
 اعتدلتَ فى جلستكَ فوق مصطبة الدكّان. عيناكَ موجّهةٌ إلى حيث وقفتَ طفلاً وسط دائرة من خمسة أشخاص يكبرونكَ سناً، عليكَ أن تتعرّف من بينهم على الذى يضربكَ على مؤخرة رأسك. توسّلتَ ألاّ يفعلوا حتى يخرجَ أبوك من الشارع؛ لكن حقيراً هوى بكفه عليك، فاستدارَ يسألك ماذا حدث؟ لتجيبه بدموعٍ محبوسة أنّ الضربةَ لم تكن موجهة إليكَ. 


عاد تحميل الفيلم بعد انقطاعه.
واستعادتْ الريحُ أصواتَ بشرٍ وحيوانات يلامسون جسدك. ازدادَ رعبكَ، فلم ترفع عينيكَ عن هاتفكَ تقلّب عشرات المواقع والصور، تلوم نفسكَ على خروجك التافه، ويزداد شككَ فى العودة إلى بيتكم سالماً. 


اختفتْ الأصوات فجأة. 
 وانقطع تحميل الفيلم؛ ليزدادَ إصراركَ على عدم مغادرة الشارع، ولو ظللتَ فيه حتى الصباح. انطلقَ سعالٌ متقطع خلف أحد الجدران، وابتهالاتٌ دينية من مذياع بعيد فاطمأننتَ قليلاً. خايلتكَ ملابس منشورة فى الشرفات، حرّكتْ أذرعها، نادتكَ، وأطلقتْ صفيراً صَمّ أذنيك.  


وضعتَ هاتفكَ بجواركَ. 
تضمُ ساقيكَ إلى صدركَ وتدفن فيهما رأسكَ باكياً. تغفو قليلاً. عند استيقاظكَ يمر أمامك رجلٌ لم تتبيّن ملامحه، لم يُلقِ عليكَ السلام ولم يتوعدكَ بالأذى. 
التقطتَ هاتفك.


نهضتَ من فوق مصطبة الدكّان ونفضتَ ملابسك. رأيتَ قِطَع الطين تركضُ باتجاهك، ثمّ توقّفتْ عند عمود إنارة، بينما هرُبْتَ لتلتقطَ أنفاسكَ أسفلَ شرفة صديقك. 
فى مواجهتكَ نافذةُ بيتٍ أغلقتْ بإحكام. 


أوقفتَ تحميل الفيلم مؤقتاً. 
 بحثتَ عن ممثلتكَ الإباحيةَ ذات الجسد الممشوق والأثداء الكبيرة. كتمتَ الصوت على تأوهاتها الشبقة واستمتعتَ بالمشاهدة، لكن شعرتَ أنّ عيناً تتلصص عليك من خلف النافذة المغلقة. خذلتكَ قدماكَ الثقيلتان عندما فكّرتَ بالهرب، قبل أن يطلق عليكَ المتلصصُ النارَ ويرديكَ قتيلاً. 


فى تلك اللحظة.
وقف أمامكَ قطيعُ كلابٍ، كان أكبر حجماً من الذى حاصركَ أمام بيت جدتكَ طفلاً، وقد رجوتها أن تترككَ سالماً وستمنحها ما تريد. ضحكتَ لعرضكَ المغرى لكلابٍ لا تفهم ما تقول. 
تشممتكَ وانصرفتْ فى هدوء، فتبولتَ فى ملابسكَ من الخوف. انتظرتَ لحظة فتح النافذة وإطلاق النار عليكَ، بينما فكّرتَ فى قطيعِ الكلابِ المتسلّل من الباب الحديدى الموارِب ليلتهم أمكَ وجدتكَ النائمتين.  

اقرأ ايضا | الشاعر الأميركى كريستوفر ميرل: أحمل أحلام نجيب محفوظ معى فى كل مكان