حديث الاسبوع

اجتماعات الهـدر والتعتيـم

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

كان مفاجئا للرأى العام العالمى أن شغلت منظمة التجارة العالمية نفسها بقضايا لم تعد تحظى بنفس الراهنية التى تميز قضايا أخرى فرضتها تطورات الأحداث المتسارعة فى الأوضاع العالمية الراهنة.

إذ فى الوقت الذى يواجه فيه المجتمع الدولى أزمات مركبة ومعقدة أفرزتها تطورات تكتسى خطورة بالغة نتيجة تداعيات جائحة كورونا التى هزت أركان الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى جميع أرجاء المعمورة، وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية التى اشتد سعيرها بين القوى الكبرى المتحكمة فى مسار العلاقات الدولية، وما ترتب عن كل ذلك من خطر حقيقى ينذر بوقوع أزمة غذائية عميقة، وباستفحال غير مسبوق للمجاعة، خصوصا فى الدول الفقيرة والسائرة فى طريق النمو، ارتأت منظمة التجارة العالمية أن تشغل نفسها فى اجتماع وزارى لها التأم قبل أيام قليلة بمدينة جنيف السويسرية، بقضايا سواء تلك التى لم تعد لها نفس الراهنية التى كانت لديها قبل فترة وجيزة مضت، من قبيل الحسم فى ملكية براءة الاختراع المتعلقة باللقاحات المضادة لفيروس كورونا.

و هى و إن كانت قضية حظيت باهتمام كبير فى توقيت معين حينما كان الرهان معقودا على هذه اللقاحات لوضع حد لهذا الفيروس اللعين، وطرحت معها إشكالية (العدالة اللقاحية) والتى كشفت مرة أخرى عن الوجه البشع للنظام العالمى السائد، فإنها اليوم لم تعد لها نفس الأهمية، بعدما تأكدت محدودية جميع اللقاحات التى تم التسويق والترويج لها بنظام دعائى تجارى محض فى التصدى للفيروس و القضاء عليه، وصارت كميات هائلة من هذه اللقاحات مكدسة فى المخازن و معرضة للتلف بعد انتهاء صلاحياتها، بعدما لم تعد محل ثقة من طرف الأشخاص فى مختلف أنحاء المعمورة.

بعد كل هذا تعود منظمة التجارة العالمية لتشغل نفسها بهذه القضية التى لم تعد ضمن أولويات انشغالات شعوب العالم.

بل و الأدهى من ذلك لم تجد هذه المنظمة من قضية أخرى ذات راهنية غير التداول فى الدعم المالى الذى تقدمه بعض الحكومات لما سمته (الصيد الجائر) للسمك، وكشفت مصادر وثيقة الاطلاع أن الاجتماع تدارس مسودة نص تدعو إلى إلغاء الدعم المالى المتعلق بالصيد غير القانونى أو الجائر للسمك، و هى القضية التى شغلت اهتمام المنظمة طيلة أكثر من عشرين سنة دون أن تلقى لها تسوية محددة بسبب الخلافات العميقة لمجموعة من الدول الأعضاء حولها.

وهذه قضية وإن بدت تهم الأمن الغذائى فى العالم بما يحتمه الأمر من ضرورة ترشيد والحفاظ على الثروة السمكية، إلا أنها قضية لا توازى قضايا أخرى تكتسى خطورة بالغة تهم الأمن الغذائى العالمى الحقيقي، التى لم تجد لها موقعا متقدما فى جدول أعمال هذه المنظمة العالمية .

إذن بعدما تعذر على المنظمة عقد اجتماعاتها طيلة أكثر من أربع سنوات بمبرر التدابير الاحترازية التى فرضتها جائحة كورونا، تعود إليها الحياة لتشغل نفسها بقضايا لا تهم مصائر البشر فى العالم، لأن الظرفية كانت ولاتزال تحتم عليها التركيز فى انشغالاتها الراهنة على قضية الأمن الغذائى العالمى فى ضوء الاختلالات الفظيعة التى عرفتها سلاسل الإنتاج والتسويق العالمي، و فى ضوء الارتفاع المهول فى أسعار العديد من المواد الاستهلاكية والخدماتية من قبيل الحبوب و الزيت و الحليب والمحروقات التى ارتفعت أسعارها إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، تجاوزت خطورتها ما عاشه العالم إبان أزمة النفط العالمية فى سنة 1973، لأن الأزمة آنذاك لم تتطاير شراراتها لتطال مواد استهلاكية اساسية كما هو عليه الحال فى الوقت الحالي، و هى أزمة أضحت تهدد الاستقرار فى العالم، وتنذر باستفحال غير مسبوق للمجاعة، خصوصا فى الدول ذات الأيادى القصيرة فى الإنتاج الغذائى و فى الإمكانيات المالية .

كان الأمل فى أن يخص الاجتماع الوزارى لمنظمة التجارة العالمية القضية المركزية التى تهم مصير وحياة البشر بأهمية استثنائية.

كان من المفروض أن تكون أولويات هذه المنظمة ملائمة لانتظارات الشعوب، وتستجيب للحاجيات الملحة المعبر عنها فى الظروف الحالية، من قبيل إعادة النظر فى العديد من التدابير والإجراءات التى قد نعتبر أنها كانت مناسبة لظروف معينة سابقة، لكن التطورات المتسارعة جعلتها اليوم متجاوزة، وأن تداعيات الجائحة اللعينة، وتأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية تفرض معالجة مغايرة تحتم إلغاء العديد من القيود المفروضة على تصدير واستيراد المواد الغذائية فى العالم، وتحتم إلغاء استثنائيا لحزمة الجبايات المفروضة على استيراد هذه المواد ونقلها والتأمين عليها.

ولعل مسؤولى هذه المنظمة يعلمون أن كثيرا من المواد الاستهلاكية مكدسة فى موانئ معينة، محملة فى بواخر عجزت عن مغادرة المرافئ بسبب تداعيات الحرب الطاحنة التى تدور رحاها بين القوى العظمى فى العالم، وكان من المفروض أن تبحث هذه المنظمة عن حلول تمكن نقل هذه الحمولات من الوصول إلى المستهلكين، وأن تعبد مسالك و طرق مساراتها .

ومهم أن نسجل بأن اجتماع مسؤولى المنظمة وممثلى الدول الأعضاء فيها لم يعر أى اهتمام للرسالة المفتوحة التى وجهتها إلى هؤلاء من المفوضة السامية لحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة، والأمينة العامة لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة و الصناعة فى هذا الصدد، حيث دعت الرسالة بما يلزم من وضوح الدول الأعضاء فى المنظمة إلى عدم فرض قيود على صادرات المواد الغذائية لتفادى مخاطر أزمة غذائية عالمية قد يتسبب فيها ما سمته الرسالة ب ( الغزو الروسى لأوكرانيا ).

يحق لنا فى ضوء كل ما سبق أن نعتبر بأن منظمة التجارة العالمية مارست مغالطة حقيقية حينما أدرجت فى جدول اجتماعاتها قضايا لا تكتسى أهمية تذكر فى الراهن العالمي، وكشفت عن منسوب عال من العجز فى التعاطى مع القضايا الحقيقية التى تهم مصائر الشعوب، وهى بكل ذلك قد تكون مشاركة، أو على الأقل مباركة، لمنهجية استخدام الأمن الغذائى العالمى كسلاح قوى وفتاك فى الحرب الطاحنة التى تدور رحاها بين القوى العظمى فوق الأراضى الأوكرانية. و قد تكون كشفت، بكل وضوح عن امتثال كامل للشروط التى تفرضها الجهات التى تدير و تدبر الحرب الدائرة.

نقيب الصحافيين المغاربة