يوميات الأخبار

تهديد للواقع.. وضياع للمستقبل

محمد بركات
محمد بركات

الحقيقة هى أننا تركنا الزيادة السكانية تكبر وتتضخم، حتى أصبحت كارثة تلتهم التنمية وتهدد الواقع وتضيع المستقبل

فى كثير من الأحيان وربما فى أغلبها لا يعنى النظر إلى الوراء الرغبة فى التراجع إلى الخلف، أو الزهد فى التقدم للأمام أو الحنين إلى الماضى هربا من واقع مؤلم أو غير محتمل،..، كما لا يعنى أيضاً عدم القدرة على استشراف المستقبل أو العجز عن التطلع للغد الأفضل.

بل على العكس من ذلك قد يكون الالتفات إلى ما كان والنظر إلى ما جرى ضرورة واجبة فى أحيان كثيرة، للتدقيق وأخذ العبرة وتجنب تكرار الأخطاء والعمل على تجاوز العثرات التى أعاقت الخطى أو عطلت المسيرة.

وفى هذا السياق قد يكون من المهم أن نلقى نظرة فاحصة ومتأملة على ما كانت عليه الأحوال فى مصرنا المحروسة، منذ عدة سنوات لا تزيد كثيرا عن نصف قرن من الزمان، فى محاولة منا للوقوف على حقيقة الصورة وطبيعة الأشياء وكيف كنا فى ذلك الحين وكيف أصبحنا على ما نحن عليه الآن.
وانطلاقا من ذلك سنقوم بالخطو معا عبر سنوات الزمن الماضى القريب، وصولا إلى نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضى، لنتعرف على واقع الحال وحقيقة الأوضاع فى القضية السكانية خلال تلك الفترة الزمنية، التى لا تبعد عنا سوى بضع عشرات من السنين لا أكثر.

20 مليون نسمة

وخلال تلك النظرة قد تصيبنا الدهشة إذا علمنا أنه فى نهاية الخمسينيات وقبل بداية الستينيات من القرن الماضى كان تعداد الشعب المصرى لا يزيد كثيرا عن عشرين مليون نسمة،..، أى أن كل المصريين من الإسكندرية وحتى أسوان فى داخل مصر وخارجها كانوا أقل من ربع عددهم الحالى الذى يزيد قليلا عن المائة مليون نسمة أو على وجه الدقة «104 ملايين نسمة».

وفى هذا الوقت كان أهل القاهرة يرونها مزدحمة بالسكان بالمقارنة بما كانت عليه قبل ذلك بخمسة عشر عاما فقط، هذا بالرغم من أن تعداد القاهرة فى تلك الأيام لم يكن يزيد عن ربع سكانها الحاليين، لكن هذا الربع كان يعانى بعض الزحام والاختناق ويشتكى من زيادة السكان.

ومهما شطح الخيال بسكان القاهرة أو حتى زوارها فى ذلك الوقت من بقية المدن والقرى المصرية، لم يكن أحد منهم يستطيع أن يصل بخياله الجامح إلى توقع الحالة التى عليها القاهرة الآن، من تكدس وزحام واختناق، يفوق كثيرا حدود التصور ويتعدى كثيرا حدود الخيال فى هذا الحين.

 ولمن لا يعرفون أو لم يعاصروا نهاية الخمسينيات ولا بداية الستينيات فى القاهرة، نقول إنها كانت بالفعل مدينة جميلة، تحيط بها الحدائق والمزارع من كل جانب،..، وقد يندهش هؤلاء إذا قلنا لهم إن منطقة المهندسين لم يكن لها وجود، ومدينة نصر كلها لم تكن قائمة، وأن الكتل الخرسانية الهائلة وملايين المبانى والمساكن التى نراها الآن، فى مناطق حدائق القبة والزيتون وكوبرى القبة وغيرها لم تكن موجودة، وأن شارع فيصل والهرم والمعادى الجديدة والقطامية والمقطم، و.. و.. وغيرها لم يكن لها وجود، بل كانت أراضى زراعية وحدائق غناء.

وبالطبع كل الامتدادات والتوسعات والتكدسات فى القاهرة الجديدة والتجمع الخامس لم يكن لها ظل على أرض الواقع، بل كانت فى علم الغيب،.. وكل المساحات كانت فضاء وجزءاً من الصحراء.

العشوائية.. والتشوه

ليس هذا فقط، بل نقول أيضا إن طريق مصر الإسكندرية الزراعى كان طريقا زراعيا بالفعل، يشق الحقول والمزارع التى تحيط به من الجانبين، وبامتداد البصر،..، ولم يكن كما هو الآن مكدسا بالقرى والمدن العشوائية المتلاصقة والمتلاحمة فى سلسلة بشعة من البيوت والمبانى الممتدة والمتصلة بلا انقطاع من داخل القاهرة وحتى الإسكندرية، عبر شبرا الخيمة والقليوبية والمنوفية وطنطا وكفر الزيات ثم البحيرة وصولا إلى البحر المتوسط حيث الإسكندرية.

 ولم يكن حال بقية المدن والمحافظات فى ذلك الوقت يقل كثيرا عن القاهرة،..، ولكن كلها ودون استثناء نالها جميعا ما نال القاهرة من تشوه وعشوائية وقبح، يتساوى فى ذلك الإسكندرية التى كانت عروس البحر المتوسط، أو المنصورة، أو دمياط أو رشيد أو غيرها من المدن.

كل ذلك التشوه وكل تلك العشوائيات، تعود فى أحد أسبابها الرئيسية إلى تلك الزيادة الهائلة فى السكان التى ظلت تضاف سنويا إلى تعداد سكاننا،..، والتى حولت المزارع والحدائق والفراغات إلى غابة من المبانى الأسمنتية المكدسة فى كل مكان، وخلقت المناطق العشوائية فى القاهرة والإسكندرية وبقية المدن المصرية من عواصم المحافظات المختلفة وكذلك فى كل القرى بطول مصر وعرضها.

تلك هى الحقيقة التى يجب أن نقولها بصراحة، والتى يجب أن نعترف بها دون مواربة إذا ما نظرنا نظرة فاحصة وموضوعية إلى الصورة التى كنا عليها فى بداية الخمسينيات والستينيات فى القرن الماضى، وقارناها بالصورة التى أصبحنا عليها حاليا.

وهى الحقيقة التى يجب أن نعمل بكل الجهد على تغييرها وعدم تكرارها على الإطلاق، بل يجب التخلص منها حتى نستطيع أن نحقق ما نطمح إليه ونخرج من عنق الزجاجة الضيق الذى حشرنا فيه أنفسنا.

الحقيقة المؤلمة

وما يجب أن نعرفه ببساطة ووضوح بُعد النظر والتأمل فيما كنا عليه وما أصبحنا عليه، هو أننا تركنا مشكلة الزيادة السكانية تكبر وتتضخم حتى أصبحت الآن غولا يأكل الأخضر واليابس على أرض مصر كلها، وأصبحت تمثل بالفعل تهديدا خطيرا لكل خطط وبرامج التنمية والتقدم فى مصر،..، وهذا لا يليق ولا يصح  ولا يجب السكوت عليه بعد الآن،...، بل وما كان يجب السكوت عليه طوال الأعوام الماضية.

وما يجب أن نعلمه بوضوح هو أن غول الزيادة السكانية المنطلق بعشوائية ودون سيطرة أو تنظيم أو ترشيد ألقى إلينا بملايين الأطفال الذين يزيدون فى كل عام، ويحتاجون إلى عشرات بل مئات الآلاف من المدارس الجديدة، وعشرات الآلاف من المدرسين والآلاف من وسائل النقل والمواصلات، وعشرات الآلاف من المستشفيات، وشبكات الاتصالات ومئات الآلاف من المساكن الجديدة، والمزيد من المدن والقرى الجديدة، وزيادة هائلة ومستمرة بصفة دائمة وسنوية من شبكات المياه والصرف الصحى، والطرق والكبارى وغيرها وغيرها من الاحتياجات الخدمية الأخرى،...، فما بالنا بالاحتياجات الإنتاجية الأساسية واللازمة لحياة هؤلاء ونموهم وكفايتهم إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا.

 وقد يتصور البعض أننا نبالغ فيما نذكره، ولكن ذلك تصور خاطئ حيث لا مبالغة على الإطلاق فى ذلك،..، بل يجب أن نعرف أننا حين نزيد كل عام حاليا ومنذ سنوات ما يزيد عن ٢٫٥ (اثنين مليون ونصف المليون) طفل سنويا، فإن معنى ذلك أن هناك إضافة قدرها 25 (خمسة وعشرون مليون نسمة) خلال عشر سنوات فقط، وهو ما يعنى خمسة وعشرين مليون إنسان جديد يحتاجون إلى الطعام والشراب والملبس والتعليم والعلاج والانتقال والسكن والعمل والزواج أيضا كل عشر سنوات.. وهذه الزيادة تحتاج إلى المزيد من المصانع المختلفة والمتنوعة، وتحتاج إلى مساحات هائلة من الأراضى الزراعية، لتوفير الغذاء اللازم لهذه الأفواه الجديدة ويحتاجون أيضا إلى مصادر جديدة للمياه والكهرباء و.. وملايين من فرص العمل.

وكل ذلك يحتاج إلى مليارات بل تريليونات من الجنيهات والدولارات للاستثمار فى الصناعة والزراعة والمشروعات القومية الضخمة لسد هذه الاحتياجات،..، وهو ما لم يتوافر عندنا خلال السنوات الماضية، ومن غير السهل ولا الميسور توافره حاليا، نظرا لكون مصر حاليا لاتزال فى مراحل انطلاقها الأولى نحو التنمية الشاملة، وتحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد والعمل الشاق لترسيخ قدمها على الطريق، والانطلاق بثبات واستمرارية نحو النمو والتقدم،..، وهو ما يحتاج إلى السيطرة والترشيد للزيادة العشوائية الهائلة والخطرة للسكان، والتى تلتهم كل محاولة جادة للنمو إذا ما استمرت على تلك المعدلات المنفلتة وغير المرشدة من الزيادة السكانية السنوية.

الأمل والتفاؤل

وقد تبدو هذه الرؤية من وجهة نظر البعض قاتمة أو تشعر أن بها بعض القتامة، وقد تبدو بالنسبة للبعض الآخر غير مضيئة بالقدر الكافى، أو غير متفائلة على الإطلاق، وربما يراها البعض تجميلا لصورة الماضى على حساب صورة الحاضر، ولكن ذلك غير حقيقى بالمرة فلقد كنت ومازلت آمل أن يكون الواقع فى هذه القضية بالذات أكثر إشراقا وجمالاً مما كان عليه فى الماضى، وكنت ومازلت أتمنى أن تكون القاهرة والإسكندرية وبقية المحافظات أفضل كثيرا مما كانت عليه فى الخمسينيات والستينيات وأقل زحاما وأكثر جمالا مما كانت عليه،..، ولكن الحقيقة للأسف غير ذلك.

ونحن بالقطع لا نريد أن نفقد الأمل أو نشيع جوا من عدم التفاؤل، بل على العكس من ذلك نسعى لتسليط الضوء على هذه القضية الخطيرة ذات الأثر البالغ فى السلبية على جميع مناحى الحياة والذى ألقى بظلاله الرمادية وغير الإيجابية على كل صور النشاط الإنسانى والاجتماعى والاقتصادى.. وذلك بهدف واضح وهو الدفع للمواجهة الجادة والعمل بإصرار على التصدى والمواجهة سعيا للعلاج والنجاة من الخطر.