بقلم : أمينة النقاش
قبل أن تقرأ..
نشأت فى بيت كان صلاح جاهين يرتاده كما يدخل الناس المسجد دون استئذان من أحد. كان يأتى إلى منزل أبى منفردا أو مصطحبا أحد أخوى رجاء أو وحيد النقاش زميله فى العمل بجريدة الأهرام.
ويجلس بيننا ساعات طويلة. وحين داهم مرض الصفراء كبد أخى وحيد وألزمه الفراش، كان صلاح جاهين يلازمه بشكل شبه يومى فى المنزل. فى إحدى زيارته، قال له أخى الأصغر عاصم: إيه ده ياعمو. دا انت تخين قوى! شهق صلاح جاهين بصوت تمثيلى جهورى مغلف بالسخرية.
وخفة الظل ورد عليه قائلا: بقى انا بقالى شهر عامل رجيم وخسيت 15 كيلو، وتيجى تقولى أنا تخين. طب بص بقى مش أنا تخين، تعرف تعمل زيى كده؟ وانطلق صلاح جاهين يقطع صالة المنزل والطرقة الموصلة إليها رقصا وهو يغنى قصيدته البيانولا:
أنا قلبى مزيكة بمفاتيح، من لمسة يغنيلك تفاريح، مع إنى مفطرتش وجعان، ومعذب ومتيم وجريح، باتنطط واتعفرت واترقص، كدهوه..كدهوه..كدهوه... بعد سفر وحيد النقاش إلى باريس لنيل شهادة الدكتوراه قبيل أسابيع من هزيمة يونيو 1967، وموته المفاجئ هناك، أصبح بيت رجاء النقاش قبلته الدائمة مصطحبا خطيبته آنذاك الإعلامية والفنانة منى قطان، ابنة زميلته فى جريدة الأهرام الصحفية جاكلين خورى.
وصارت منى فيما بعد أم ابنته الفنانة سامية جاهين. كان جيل السبعينيات، الذى تشكل وعيه مع هزيمة يونيو 1967 ساخطا، شأن كل الثوار، على كل شىء. يعرف ما يرفضه، بينما يعم التشوش والأفكار الفوضوية معظم بدائله.
ومن بين اللحظات الساخرة على هذا التشوش، قيام مجموعات صغيرة من طلاب الجامعة بزيارة ميدانية للصحف القومية الثلاث، الأهرام والأخبار والجمهورية، نيابة عن زملائهم المعتصمين فى الجامعات، لمطالبة من يسمونهم بالصحفيين الوطنيين بالاستقالة منها، لماذا؟ احتجاجا على السياسات الاقتصادية والاجتماعية، التى محت إنجازات عصر عبد الناصر بأستيكة، وهى مقولة راجت فى تلك الأيام فى سياق معارضة نظام السادات.
وقد شاهدت بنفسى الكاتب الصحفى كمال القلش فى صحيفة الجمهورية يقول لوفد منهم: من قال لكم إن الاستقالة من الصحف تعد عملا ثوريا؟ لقد حفيت أقدامنا من أجل أن تقبل الدولة أن نعمل ونحن من قوى تنتمى لليسار فى تلك الصحف! .
فى تلك الأثناء بدأت دور السينما عرض الفيلم الاستعراضى «خلى بالك من زوزو». ويحكى الفيلم قصة فتاة تنتمى لأسرة فنية من عوالم شارع محمد على ممن يتكسبون عيشهم من إحياء حفلات الأفراح بالرقص والغناء. ولأن الفتاة تتسم بالطموح، فقد سعت لاستكمال تعليمها الجامعى.
وفى الجامعة تشتبك فى علاقة غرامية مع مخرج شاب عائد من الخارج، يدرب مجموعتها الطلابية على الأعمال الفنية المسرحية، وهو ينتمى إلى أسرة ثرية. ويبدأ الصراع حول الحب الذى ينشأ بين الفتاة الفقيرة والشاب الثرى، وهى الحبكة التى سادت السينما العالمية والمصرية منذ البدايات الأولى لنشأة الدراما السينمائية.
ولأن صلاح جاهين كاتب القصة وسيناريو وحوار وأغانى الفيلم ومنتجه، فقد كان من الطبيعى أن ينطوى على رؤية جديدة للفتاة العصرية المقتحمة، الطموح التى لا تخجل من انتمائها الاجتماعى بل تتباهى به، وتتخذ من التعليم، لا الانتماء الطبقى، طريقا للصعود الاجتماعى، ولا تخشى من الكشف عن مكنون مشاعرها.
الفيلم الذى أخرجه حسن الإمام نجح نجاحا غير معهود فى تاريخ السينما، إذ استمر عرضه لأكثر من عام. وكان من باب الصدف البحتة أن يعرض عام 1972 أثناء الاحتجاجات الطلابية والمظاهرات المعارضة للسياسات الاجتماعية الجديدة.
ولأن بعض أحداثه تدور فى الحرم الجامعى، فلم يسلم من تفسيرات الطلاب الثائرين، من أن الهدف منه هو تشويه حركتهم والتشويش عليها. وبعد أقل من ثلاث سنوات وفى عام 1975 يظهر فيلم «أميرة حبى أنا» وفى أحد مشاهده تغنى الفنانة سعاد حسنى من كلمات صلاح جاهين، أغنيتها التى باتت من أيقونات الثراث الغنائى والسينمائى «الدنيا ربيع والجو بديع قفلى على كل المواضيع».
وبهذا الفيلم ترسخت التفسيرات الشعبوية التآمرية أوساط الحركة الطلابية، وبينها أن صلاح جاهين بقصته للفيلم الأول، وأغانيه للفيلم الثانى، يستخدم مواهبه لإلهاء المجتمع عن حركته الاحتجاجية، وإلا ما معنى جملة «قفلى على كل المواضيع»؟ وكأن أمور تصوير الفيلمين وانتهاء إخراجهما وتوقيت عرضهما كلها رهن بإرادة صلاح جاهين بمفرده.
وانطلاقا من هذا الفهم الذى يهوى تفسير الأمور استنادا لمنهج المؤامرة، كتب أحمد فؤاد نجم قصيدته التى يهجو فيها صلاح جاهين، مع أنه كان من كبار محبيه، لكن رغبته فى إرضاء الطلاب الساخطين، غلبت محبته لجاهين، فكتب واحدة من أسوأ قصائده، لما تنطوى عليه من نظرة عنصرية تمييزية لممتلئى البدن، وبدأها بالقول: «شاعر بيتخن من بوزه، يمكن تخوف بيه عيالك، نازل يقزقز أزا أوزو، حتتك يمينك وشمالك، بقى مليونير واللى يعوزه، يلقاه فى إيده عقبالك، وخلى بالك من زوزو، وخلى زوزو من بالك».
فى عام 1975 ألقى القبض على عدد من الكتاب والمثقفين والطلاب والشعراء كان بينهم أحمد فؤاد نجم، فيما كان يعرف آنذاك بقضية اليسار الجديد. وفى السجن قرأ نجم خبرا فى جريدة الأهرام عن عودة صلاح جاهين من الولايات المتحدة بعد إجراء عملية قلب مفتوح. وكما يروى نجم فى أحد مقالاته، علق أحد الطلاب على الخبر قائلا ربنا ياخدهم كلهم، فرد نجم عليه، لأ.. إلا صلاح جاهين.
وكتب قصيدته التى تعبر عن رأيه الحقيقى فى جاهين الذى كان يعشق شعره ورسومه وكاريكاتوره اليومى ويصفه بـ«الطفل الإلهى» وهى تكشف عن المكانة الرفيعة التى يحملها له فى نفسه وروحه، وقال فيها: حمدالله ع السلامة، وسلامتك يا جميل، ياريته كان ف قلبى شريانك العليل، نفسى أكتب لك قصيدة، زيك ملهاش مثيل، حراقة وبنت نكتة، أزعه وبلسان طويل، وتكون بعيون كحيلة فيها حزن الأصيل، ع الشاعر اللى ولى، والشعر السلسبيل، الله يرحم زمانك، يا شاعر يا علم، حمد الله ع السلامة، وسلامتك من الألم.
والحوار التالى مع صلاح جاهين أجريته فى أبريل عام 1976، بتكليف من سيد خميس الذى كان فى ذلك الوقت قد أسس مع صلاح عيسى مكتبا، يمد الصحف والمجلات العربية بتحقيقات وتقارير وحوارات صحفية، وحمل اسم الوكالة العربية للصحافة، بعد أن تم فصل صلاح عيسى من عمله فى جريدة الجمهورية.
وسدت كل منافذ النشر داخل مصر أمامه وأمام سيد خميس. وكانت أجواء السخط العام من سياسات السادات تتصاعد والاحتجاجات الطلابية لا تتوقف. وحين أعدت قراءة هذا الحوار بعد أكثر من أربعة عقود على إجرائه وأنا أعده للنشر، شعرت بوخزة ألم لما بدا أنه كان يخاطب -فى مقدمته على الأقل- حالة السخط والاحتجاج السائدة، أكثر مما يعبر عن ذائقتى المغرمة بظاهرة صلاح جاهين الشعرية والصحفية والإبداعية والإنسانية المتفردة، ولكنه نزق الشباب وجموحه.
اقرأ ايضا | صلاح جاهين.. فشل في تحقيق أمنية والده مع المحاماة