محمود عبده يكتب عن: «قلب البراح»

قلب البراح
قلب البراح

بقلم : محمود عبده 

غير بعيد من قلب البراح، فى أول صباح رطب امتلأ بقطرات الندى وتغريد العصافير، لان غصن وهفهفت أوراقه بعد سكون، جَلَسَت عليه بوزنها الرهيف، ترسل عينيها فى كل الأنحاء، بيضاء كالزغب، كندفة ضوء فرت من شمس، ترف على جبينها خصلة كأنها تريد أن تطير، بين برهة وأخرى تتكثف أمام وجهها غيمة صغيرة من زفيرها لا تلبث إلا قيلاً حتى تتبخر، تذوب فى الهواء وتمنحه رائحة رائقة لا مثيل لها.


كنت صغيرًا وكنت أحب أن أتأمل الكون وما فيه، فى الصباح أعبر على مهلٍ إلى المرسى الضئيل عند أقصى المدينة، أخوض فى شبورة البكور وأمشى محاذيًا ساحل البحيرة الصغيرة التى  تفضى إلى قناطر عتيقة يعبر من فوقها الناس ومن تحتها تتفرع قناتان. على المدى تبدو البحيرة كساحة  مغطاة بزجاج سميك متماوج، فوقها هواء وتحتها خلق ودنيا أخرى، أسماك وأصناف من مخلوقات غير التى تمشى على الأرض،  أُطِلُّ على النخيل البعيد المُغبَّر وعلى الشجر القريب المتشابك تتدلى منه ضفائر رقيقة مورقة كزخرفة فارسية يراقصها النسيم وتتمنى الماء ولا ترتوى أبدًا.


برفق أرتقي، تنفتح فى بدنى أسرار لا حكم لى عليها ويتسلمنى الفراغ فأطفو كريشة تحملها هبة هواء، أصل إلى هامات الشجر أو أعلى  قليلاً، أنتهك سكون العصافير واليمامات خلف الأستار، تظل ترسل أغاريدها من هناك، شيئًا فشيئًا يتكشف لى بعض ما خفى فيمتلئ صدرى بشغف إلى مزيد، يجتاحنى الهواء البارد ويخترق ضلوعى لأرتجف ثم لا يلبث إلا قليلاً حتى يذيبه تيار دافئ. تنفسح الأرجاء حتى تصير إلى لا منتهى.


لا يمكننى الآن ـ بعد أن مضى وقت طويل ـ أن أجزم إن كان جناحاها الرقيقان صنعهما خيالى الجامح أم صنعا حقًا من مادة شفافة تدعمها  فى مواجهة هبات النسيم شعيرات متشعبة صلبة على دقتها، وهى تمد أصابع بالغة الدقة فى الفراغ الذى يقابل حضورها اللطيف وتلتقط من الهواء ما لا يراه سواها، بعض من مكوناته، تكثفه وتنسج منه رسومات بديعة لمخلوقات لم ير أحد مثلها من قبل توشك أن تتحرك، لم يُعرف لها من قبل اسم أو صفة، ثم لا تنتهى قبل أن تضحك الدنيا لضحكها وتنسجم الأكوان فتحرك أصابعها المرهفة من جديد، تضرب بها ضفاف النسيم فيذهب ما صنعته ويخلى براحًا جديدًا لبدائع أخرى تطلقها فى كونها الصغير.


ثم غامت ثم غابت ولم يملأ فراغها شيء إلا أسئلة بلا حصر، هل كانت ملاكًا نورانيًا! طيفًا بلا جسد! وهل كان مدى إدراكى متسعًا بما يفوق ما اعتاده البشر العاديون! وهل ضاق فيما تلا هذا حتى لم أعد أراها!


هل ذهبت بملء إرادتها أم أن قدرًا محتومًا فرض عليها الرحيل!
هل كان وجودها واقعًا يدركه الآخرين كما أدركه أم كنت وحدى المخصوص بها وكأنها خلقت من ضلعى أو من خواطري! 
ثم مضى وقت طويل إلى أن غلبنى الفقد فابتعت حقيبتين، ملأت الكبيرة بالأمل حتى انتفخت وصارت ثقيلة وملأت الصغرى بأوراق رسم وأقلام وريشات وأحبار ملونة ومستلزمات ارتحال وسافرت إلى بلد غريب وبلد أكثر غرابة وإلى بلاد كثيرة بعضها قريب وبعضها بعيد.


فى البلد البعيد حديقة يرتادها ناس وطيور وكائنات أخرى، لها فى كل جانب باب وعند بابها البعيد جدار عال ومصمت، لم أعرف أن السقوط من فوقه أمر مريع إلا عندما صعدت ومشيت فداخلنى خوف، وكنت متعجلاً وكنت شغوفًا بشيء لا أعلمه، نثرت حفنة من أمل فوق رأسى وخطوتُ بلا ثقة، يلفح الهواء وجهى وتحت أقدامى زيت وماء، لو لم أنتبه للحظة لانزلقت، ورأيت رجلًا نحيلًا يجلس فوق حجر وينظر إلى شيء لا أراه وينتظر، ورأيت رأسًا فوقها طائر والطائر يغرد والرأس يستمع وينتظر، ورأيتُ حصانًا يلوى رأسه للخلف ويحك ذقنه برقبته الجميلة وينتظر وفى الفراغ القريب منه سمكة خضراء وثمرة كمثرى، ورأيت الأرض ممتدة سمراء وفوقها تتناثر نجمات بحر بيضاء تنتظر، ورأيتُ بيوتًا ملونةً  وقصرًا أبيض وشجرًا طويلًا تخرج منه عصى رفيعة أكبر قليلاً من أشواك فى غصن وردة تنتظر، ولكننى فى النهاية اعتدت المكان فصرت أجوبه كل يوم، فأما الحديقة فقد وقع عشقها فى قلبى وأما البلد الغريب فقد ألفته حتى صار كأنه وطن.

اقرأ ايضا

 «البوكر العربية».. منافسة بين الناشرين لا الكُتَّاب