فى ذكراه الـ 45.. محمد فريد أبوحديد.. عاشق التاريخ الذى لا ينسى

محمد فريد أبوحديد
محمد فريد أبوحديد

كتب: حسن حافظ

تمر هذه الأيام ذكرى وفاة أحد مثقفى مصر الكبار، الذى طوته الأيام رغم منجزه الضخم والمتنوع، ولم يعد يتذكره أحد إلا فى مواضع قليلة رغم أنه يستحق أن يُقدَّم كنموذج للمبدع الأصيل صاحب المشروع الفكرى المتكامل، وصاحب الرسالة التربوية والنضالية التى يجب أن يُحتفى بها، وهو الأديب الكبير محمد فريد أبوحديد، الذى تمر ذكرى وفاته الـ 45 فى 18 مايو من كل عام فى هدوء، فلا أحد يناقش منجز الرجل ولا يتعرض لدوره كمثقف بارز شارك بالتأليف الروائى والترجمة وكتابة المقالات فى الحياة الثقافية المصرية على مدار عقود حتى وفاته فى مايو 1973.

 

يعد محمد فريد أبو حديد من مبدعى مصر الكبار فى النصف الأول من القرن العشرين، فالرجل الذى ولد فى أول يوليو 1893، سرعان ما شق طريقه بعد الحصول على ليسانس الآداب والتربية من مدرسة المعلمين العليا 1914، وتولى عددا من المناصب أبرزها وكيل دار الكتب المصرية، ووكيل وزارة التربية والتعليم، وسكرتير عام جامعة فاروق الأول (جامعة الإسكندرية حاليا)، وعضو مجمع اللغة العربية، كما شارك بقوة فى الحياة الثقافية وتأسيس الصحف والمجلات ذات الصلة، خصوصا مجلة (الرسالة) لصاحبها أحمد حسن الزيات، كما كتب فى مجلة (السياسة الأسبوعية) التى أسسها محمد حسين هيكل، فضلا عن تأسيسه لمجلة (الثقافة) والتى تولى رئاسة تحريرها، وقد كرمته الدولة المصرية فى عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فحصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1963، إذ يعد من أبرز الروائيين الذين اهتموا باستخدام الأدب كأداة لشحذ الهمم وإيقاظ النفوس فى مواجهة الاحتلال البريطانى ومواجهة أعداء الأمة.

 

وقدم أبو حديد روايته الأشهر "أنا الشعب" (1958)، وهى رواية تعد من أوائل الأدب الواقعى المصري، كما سيظهر فى الروايات ذات البعد الاشتراكى خلال تلك الفترة، إذ انحاز بوضوح للطبقات المهمشة فى المجتمع المصرى عبر تحليل للأوضاع المأساوية لمصر قبل ثورة 23 يوليو 1952، عن طريق استعراض قصة الفتى سيد الذى مات والده وهو ما يزال طفلا فى المدرسة، ليبدأ فى مواجهة الحياة القاسية ويحفر طريقه فى الدنيا الصعبة وصولا إلى تحقيق حياة على الكفاف فى زمن الإقطاع الصعب، ويصطدم بالواقع عندما تتعلق به فتاة ثرية فى قصة حب مستحيلة على الطراز التقليدي، فهل تحمل الثورة الحل لسيد ولغيره من المظلومين؟ هذا ما يعالجه أبو حديد فى أقوى رواياته وأكثرها نضجا ونجاحا وخلودا فى ذاكرة تأريخ الكتابة الروائية فى مصر والعالم العربي، وقد عاد إلى الواقعية فى روايته "أزهار الشوك" (1953)، والتى قدم من خلالها فكرة الخوف والصدمة من عالم المدينة عبر قصة شاب ريفى يسافر إلى المدينة، لكنه يعود إلى القرية فى نهاية الرحلة.

 

استعادة التاريخ كأداة لاستنهاض الأمم كان حاضرا بقوة فى مشروع أبوحديد، لذا لم يكن غريبا أن يكون من أوائل المصريين الذين ألفوا عن السلطان صلاح الدين الأيوبي، فى كتابه "صلاح الدين الأيوبى وعصره" عام 1927، ويقول عن سبب تأليفه للكتاب والحديث عن صلاح الدين الأيوبى تحديدًا، "لأنه مؤسس دولة مصرية عظيمة يمكننا أن نعدها أولى الدول المصرية العظمى التى لا شبهة فى مصريتها. فإن الدول التى سبقتها لم تكن دولًا مصرية بحتة، وذلك أن دولة الطولونيين والإخشيديين لم تكن دولة بالمعنى الصحيح، بل كانت محاولات أولية، ولم تكن الدولة الفاطمية بمصر دولة وطنية بالمعنى التام، إذ جاء الفاطميون فاتحين بعد أن تأسست دولتهم فى شمال أفريقيا، وحتى بعد أن أصبحت مصر مركزًا لدولتهم كان المذهب الشيعى حائلًا بينها وبين المصريين من أن يندمج بعضهم فى بعض كل الاندماج ويكونوا حكومة وطنية صحيحة، فكانت دولة صلاح الدين بمصر أول الدول الوطنية العظمى التى جعلت لمصر مكانها العالى بين دول العالم فى القرون الوسطى"، وربما من أجل ذلك خصص أبو حديد أحد كتبه عن (زعيم مصر الأول السيد عمر مكرم).

 

هذه الرغبة فى استخدام التاريخ بجميع أشكاله كقوة محفزة للمصريين من أجل شحذ هممهم فى حربهم ضد الاحتلال البريطانى طلبا للاستقلال، دفعت أبو حديد إلى الكتابة الروائية عن شخصيات تاريخية لتمرير رسائله السياسية والاجتماعية، فنراه يكتب رواية "زنوبيا.. ملكة تدمر"، وهى عن الملكة العربية التى حكمت مملكة مستقلة وواجهت الغزو الرومانى الأوروبى ردحًا من الزمن، كما كتب رواية "عنترة بن شداد.. أبو الفوارس"، ورواية "المهلهل سيد ربيعة"، ورواية "ابنة المملوك"، ورواية "الملك الضليل أمرؤ القيس".

 

 والملاحظ أن كل هذه الشخصيات التاريخية التى أعاد أبوحديد استخدامها روائيا هى مشغولة بسؤال الحرية ولا تقبل الانكسار أمام الظروف ولا تخضع أمام القوى القاهرة، هى نماذج استخدمها أبوحديد بمهارة للمناداة بالحرية كرسالة لجميع المصريين فى وجه الاحتلال البريطاني، وهو ما يظهر بوضوح فى تعريف روايته "الوعاء المرمري" (1951): "قصة جهاد بطل وأمة، من حياة سيف بن ذى يزن بطل اليمن"، ذلك البطل الذى حارب الاحتلال الحبشى لليمن وتمكن من تحقيق حلم الاستقلال لليمن السعيد، ويضيف أبو حديد فى تقديمه للرواية: "أكتب هذه القصة تذكارًا لقطعة عزيزة من حياتي، وأهديها إلى هزة الشباب الكبرى فى عام 1919... وهذه القصة التى أكتبها اليوم بعد مضى أكثر من ثلاثين عامًا على تلك الأيام البعيدة ما هى سوى تحية، أؤديها لذكرى اللحظات المجيدة التى كنا نجاهد فيها بأنفسنا ونسخو فيها بأرواحنا، لا نسأل أحدًا عليها أجرًا ولا شكرًا".

 

لم يتوقف مشروع محمد فريد أبوحديد على إنتاج روايات ذات بعد تاريخى وتربوى فى الآن نفسه، بل نراه يعمد إلى الترجمة لنقل بعض عيون الأدب الإنجليزى مثل ترجمته لمسرحية "ماكبث" لشكسبير، وترجمته لملحمة "سهراب ورستم" للكاتب الإنجليزى ماثيو أرنولد، بالتوازى مع تقديمه لقصة "خسرو وشيرين" المستوحاة من الأدب الفارسي، والتى قدمها فى شكل مسرحى شعرى موزون، لكن يظل أعظم ما قدمه أبوحديد فى مجال الترجمة هو ترجمة كتاب "الفتح العربى لمصر" للمؤرخ الإنجليزى ألفريد بتلر، والكتاب يقدم دراسة هى العمدة فى بابها فيما يتعلق بفتح العرب لمصر، وجاءت ترجمة أبوحديد على مستوى الكتاب المهم، فجاءت سلسة شديدة الدقة والتمكن، وأظهر من خلالها أبو حديد قدرة عظيمة على تشرب النص الأصلى وترجمته إلى العربية بصورة لا تشعر معها أنك تقرأ نصا مترجما.