فن تغيير العالم

إيهاب فتحى
إيهاب فتحى

وسط زحام الأخبار التى تتدفق من وراء مشهد دولى معقد نتيجة للأزمة الأوكرانية تجد هناك خبرًا يطفو على السطح يبدو من بعيد خارج تمامًا عن السياق سواء فى توقيت نشره أو ارتباطه بالحدث الرئيسى الذى يتابعه العالم فى قلق ورعب ولكن تدفق الأحداث يعيد ترتيب نظرتك لهذا الخبر الخارج عن السياق وتكتشف أنه تمهيد لمعركة هدفها تغيير ماقبلها ورسم خريطة جديدة لما بعدها. 

قبل أسابيع اهتمت كافة المواقع الروسية  بنشر خبر موغل فى التاريخ ويفصله عن أحداث اليوم مايزيد عن سبعة عقود وكان مصدر الخبر جهة رئيسية فى صناعة السياسات الروسية الداخلية والخارجية ومدعومًا بوثائق تم الإفراج عنها حديثًا لأول مرة مما يعطى ثقلا أكبر لمحتواه.
نشرت الاستخبارات الفيدرالية الروسية عددًا من الوثائق متعلقة بالطيار الشخصى للزعيم النازى أدولف هتلر واسمه جانس باور وفى نفس الوقت كان يشغل منصبًا هامًا فى الشرطة السرية لألمانيا النازية وكانت الوثائق عبارة عن صور تجمع باور بهتلر والسيرة الذاتية الكاملة لباور كتبها بخط يده بالألمانية وتمت ترجمتها للغة الروسية وشهادة أخرى أدلى بها اثناء استجوابه فى جهاز الأمن السوفيتى فى ديسمبر من العام 1945أى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بستة أشهر. 
ووفقًا لوثائق باور فإنه فى الـ30 من ابريل عام 1945 استقبله هتلر فى غرفته بالمقر المحصن الذى كان يحتمى به فى وسط برلين وحسب وثائق الطيار جاسن باور أن هتلر صافحه واستدعاه ليقول له وداعًا ثم قدم له الشكر على سنوات الخدمة معه، تقدم وثائق باور التى نشرتهـــــــــــا الاستخبارات الروسية وصفًا دقيقًا لهتلر فى ساعاته الأخيرة فقد أصبحت تظهر على  هتلر علامات كبر السن بشدة وكان مرهقًا و يداه ترتجفان ويؤكد باور فى وثائقه «كان واضحًا لي أنه اتخذ القرار النهائي بالانتحار». 
لا تكتفى الوثائق بالوصف الدقيق لحال الزعيم النازى فى هذه الساعات الفاصلة من تاريخ ألمانيا النازية والعالم بل تقدم نص الأحاديث التى دارت بين أدولف هتلر وطياره الخاص جاسن باور، فقد أخبر هتلر باور أنه يريد أن يمنحه لوحته المفضلة كتذكار وهى لوحة الملك الألمانى فريدريك العظيم وكانت معلقة فى غرفة مكتب الزعيم النازى، ثم حاول باور إبعاد فكرة الانتحار عن هتلر فأجابه الزعيم النازى «لايستطيع جنودى الصمود ولا يريدون الاستمرار، لا يمكننى تحمل ذلك بعد الآن» وأوضح هتلر لطياره جاسن باور أن الروس موجودون فى ساحة بوتسدام على مسافة قليلة من مقره المتحصن به ويمكن للروس أن يأسروه حيًا باستخدام غاز منوم وأن آخر ماسمعه باور من الزعيم النازى قبل أن يصافحه ويغادر «سيتعين عليهم الكتابة على شاهد قبرى أننى وقعت ضحية جنرالاتى». 
توضح وثائق باور أن السبب الرئيسى الذى دفع هتلر إلى إصدار الأوامر بحرق جثته وجثة عشيقته ايفا براون التى تزوجها قبل انتحارهما بسويعات قليلة هو خوفه الشديد من أن يتم التمثيل بجثته وجثة ايفا مثلما فعل الإيطاليون بجثة موسلينى وعشيقته، وأن عملية حرق الجثث بعد الانتحار أشرف عليها ما تبقى من القوات الخاصة الألمانية فقد تم لف هتلر وايفا فى بطانيتين ثم سكبوا عليهما كمية من البنزين وتم حرقهما فى حديقة مقر المستشارية. 
تتوقف هنا وثائق جانس باور عن كشف ساعات هتلر الأخيرة ولم توضح الاستخبارات الروسية فيما نشرته من وثائق مصير جانس باور نفسه فهل تم إعدامه بعد محاكمته أم تم سجنه ثم أطلق سراحه؟ نأتى بعد ذلك إلى سياق نشر هذا الخبر فوسط التدفق الإخبارى حول المعارك الروسية الأوكرنية تهتم وسائل الإعلام الروسية بهذا الخبر وتسلط الضوء عليه وتعيد نشره فى أزمنة متقاربة خلال ساعات يمكن إرجاع النشر لاقتراب ذكرى انتصار روسيا فى الحرب العالمية الثانية وانتحار هتلر لكن من طبيعة المعلومات والوثائق المفرج عنها والشخصية صاحبة الوثائق والتى يتم لأول مرة  نشر وثائقها كل هذه العوامل تؤكد أن الروس لاينشرون خبرًا عن الذكرى أو لمجرد النشر بل يريدون إحداث ضجة بهذه المعلومات وجاسن باورالشخصية التاريخية الجديدة.
يصدر هذا الخبر إشارات هامة أولها أن روسيا  وريثة الاتحاد السوفيتى تعرف كافة التفاصيل عن ماحدث لهتلر فى ساعاته الأخيرة وتاريخيًا فالقوات الروسية هى أول من دخلت هذا المقر المحصن لهتلر واستولت على بقايا جثته وجثة ايفا براون واحتفظت بهما.
 طوال تاريخ الاتحاد السوفيتى وروسيا الحالية لم يأت تصريح واضح ومؤكد عن مصير هتلر النهائى وماتوصل إليه الروس بعد دخولهم مقر هتلر المحصن، نعم على فترات زمنية متباعدة كانت هناك محاولات إعلان من السوفيت وبعدهم الروس عن مصير هتلر وانتحاره لكنها كانت محاولات تثير الشك أكثر مما تصب فى مصلحة الحقيقة حول مصير الزعيم النازى عكس هذا الخبر المنشور فالوثائق التى كشف عنها والجهة التى أعلنت الاستخبارات الروسية تؤكد على انتحار هتلر وحرق جثمانه. 
اعتمدت الدعاية السوفيتية وبعدها الروسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على التشكيك فى وفاة هتلر بل دائمًا ما أكدت على هروبه إلى بلد فى أمريكا اللاتينية ولم يكن أشخاص عاديين هم من أثاروا هذه الشكوك بل كان الجنرال جوكوف قائد القوات السوفيتية الى برلين والزعيم السوفيتى جوزيف ستالين نفسه الذى أنكر أمام الرئيس الأمريكى هارى ترومان فى مؤتمر بوتسدام وفاة هتلر.
بسبب آلاعيب الدعاية السوفيتية ظهرت آلاف من نظريات المؤامرة حول هروب هتلر ولآخر وقت أذاعت الفضائيات  الروسية وثائقيات و لقاءات مع ضباط استخبارات سوفيت سابقين تشير معلوماتهم إلى التشكيك فى انتحار هتلر. 
كان الغرض الرئيسى من الدعاية السوفيتية ثم الروسية المشككة فى انتحار هتلر ثم ترجيح هروبه هو تشويه الخصم الاساسى للروس أو الولايات المتحدة واتهامها عن طريق هذه الدعاية بأنها ساعدت النازيين على الإفلات من العقاب وعلى رأسهم زعيمهم هتلر من أجل الاستفادة من نقل خدماتهم فى مجال التكنولوجيا الألمانية المتقدمة إلى الولايات المتحدة بمعنى آخر هذه الدعاية تقول إن الولايات المتحدة هى راعية النازية المتوحشة فى العالم وما ثابت ومعروف أن الولايات المتحدة نقلت الكثير من علماء ألمانيا النازية وكان على رأسهم عالم الصواريخ الألمانى فون براون الذى أنشأ برنامج الصواريخ الأمريكى لاستكشاف الفضاء لكن أن تقوم الولايات المتحدة بمساعدة هتلر على الهرب فهو أمر غريب ولذلك من أجل الرد على الدعاية الروسية قامت أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية  والمباحث الفيدرالية الأمريكية بعمل أبحاث وتحريات موسعة لإثبات انتحار هتلر وكذب الروس. 
بعد نشر الروس للتقرير المدعوم بوثائق جانس باور الذى يؤكد بشكل كبير انتحار هتلر يبقى سؤال هل أراد الروس مثلا بعد كل هذه السنوات والدعاية المشككة فى وفاة الزعيم النازى فى مقره المحصن تبرئة الأمريكان من تهمة رعاية النازية ؟ بالتأكيد الروس ليسوا على هذه الدرجة من البراءة والطيبة والحب لخصومهم الأمريكان خاصة فى ظل حالة العداء المعلنة بينهما بسبب الأزمة الأوكرانية والتى وصلت فى حدة عدائها بما يتجاوز فترة الحرب الباردة. 
عند النظر فى سياق آخر لهذا الخبر المتعلق بتأكيد انتحار هتلر وامتلاك الروس أغلب المعلومات عن ما حدث للزعيم النازى من خلال أقرب المقربين له كما ظهر فى وثائق باور وفى الأغلب الروس يمتلكون مزيدًا من الوثائق قد ترتبط بتفاصيل أخرى حول أدولف هتلر، سنجد وقت النشر تزامن مع تصاعد سوء العلاقات بين روسيا وإسرائيل فمع بداية الأزمة الأوكرانية حاولت تل أبيب أن تكون على الحياد بين الطرفين وأرادت القيام بدور الوسيط لكن مؤشرات تل أبيب تحولت كليًا تجاه الغرب وأوكرانيا بل واتهمت موسكو بأنها ترتكب جرائم حرب فى الأراضى الأوكرانية. 
علق الروس تعليقات بسيطة متهمين تل أبيب بإنكار الجميل وظنت إسرائيل أن هذا أقصى رد يمكن أن تقوم به موسكو وفى نفس التوقيت نشر خبر وثائق باور وكان خبر باور هو التمهيد النيرانى للقصف الكاسح الذى قام به وزير خارجية روسيا سيرجى لافروف فى حواره مع فضائية إيطالية فقال لافروف تعليقًا على رعاية نظام كييف لأفكار نازية وميليشيات تتبنى هذه الأفكار وبتشجيع من زيلينسكى رئيس أوكرانيا « ماذا يعنى كون فلاديمير زيلينسكى يهوديا فهتلر كان دمه يهوديًا « ثم ألمح لافروف عن وجود العديد من التأكيدات حول يهودية هتلر بمعنى آخر أشار لافروف دون أن يصرح إلى امتلاك موسكو وثائق على ما أعلنه وزير خارجيتها وطبعا كان هناك نموذج تم نشره قبل قنبلة لافروف متمثلا فى وثائق جاسن باور. 
الرد الروسى على خروج إسرائيل من حالة الحياد كان مزلزلا لإسرائيل وللغرب بأكمله فالرد الروسى لم يكن ردًا سياسيًا بل ردًا فكريًا يقوض كافة المزاعم التى تم تأسيس إسرائيل على أساسها وروج لها الغرب ثم اقتنع بها، فاضطهاد اليهود قام به يهود مثلهم وأن معادة السامية يقوم بها يهود أيضا. 
لم تكتف موسكو بالزلزال الناتج عن تصريحات لافروف فبدأت وزارة الخارجية الروسية تظهر أحداثًا تاريخية ووثائق عن تعاون اليهود مع الأفكار النازية والنازيين لاضطهاد بنى جلدتهم من هتلر إلى زيلينسكى . 
رغم محاولات إسرائيل والغرب السيطرة على الزلزال الفكرى التاريخى والمؤثر فى الحاضر  الذى حركته موسكو إلا أن آثار هذا الزلزال وتوابعه ستغير خرائط وتعيد ترتيب مراكز وثوابت على مستوى العالم.