أخر الأخبار

«هالة» تطوى الألم بالحكايات

«هالة» تطوى الألم بالحكايات
«هالة» تطوى الألم بالحكايات

تأثر المفكر الكبير والناقد القدير د. سعيد توفيق الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة وأستاذ الفلسفة بآداب القاهرة بالرواية الجديدة للأديبة المتميزة د.هالة البدرى التى صدرت منذ أيام وحملت عنوان «طى القلم»، فخصنا بإهدائنا هذه الإطلالة النقدية التى تلقى الضوء على زوايا تفرد هذا النص الروائى المبدع.

الأديب الحقيقى هو مَنْ تعلَّم أن ينطق بصوته الخاص فيما يكتب، وهذا ما تتميز به هالة البدرى فى سائر كتاباتها، وإن كان يتجلى بوضوح فى روايتها «طى الألم». ذلك أن موضوع هذه الرواية مثير للتحدى فى الكتابة الروائية، على الأقل فى صورتها التقليدية، فليست هناك شخصيات متخيلة تشارك فى صنع أحداث تتنامى لتصنع حبكة درامية؛ بل إننا نجد أنفسنا إزاء حدث واحد أفصحت هالة عن موضوعه ابتداءً من الصفحة الأولى: فقدان زوجها وحبيبها ورفيق عمرها فى فترة مبكرة من حياتيهما.

وهو ما ترك فى نفسها ألمًا عميقًا، هذا حدث شخصى محض ربما لا يهم ولا يكون مشوقًا للآخرين، فليس فيه ذلك التنوع والتشويق من خلال الأحداث والشخصيات التى تشارك فيها. وهذا نفسه هو ما توجست منه هالة وأفصحت عنه فى روايتها؛ ولهذا تركت ما كتبته عشرين سنة من دون نشر إلى أن أفرجت عن هذه الكتابة فى النهاية.

ولعل هذا التوجس يكون مشروعًا إذا كنا ننظر إلى الحدث على المستوى الواقعي، أعنى على مستوى ما يجرى فى الحياة الواقعية كل يوم، ولكن الحدث حينما يصبح موضوعًا لفن الحكى ينتقل إلى مستوى آخر، حينما يصبح هذا الفن قادرًا على أن يرفع ما هو شخصى محض إلى حالة أو تجربة عامة يمكن أن يشارك فيها الآخرون.

وليس هناك ما هو أقرب إلى النفس البشرية من تجربة الألم؛ لأن الألم- كما تعلمنا من شوبنهاور وغيره- هو الأصل فى الوجود الإنساني، وليست السعادة تكمن سوى فى القدرة على التحرر من الألم (كما أنبأنا أرسطو من قبل)! وهكذا تحاول هالة أن تطوى الألم؛ وهذا الطى لا يعنى التخلص من موضوع الألم، وإنما يعنى استبقاءه فى الروح فى الوقت ذاته الذى تسعى فيه إلى تجاوزه فى الحياة، وهذا هو موضوع الرواية أو الحدث الرئيس فيها الذى تدور حوله سائر الأحداث والمواقف الأخرى.

والسؤال الآن: كيف تناولت هالة هذا الموضوع الإشكالى ليصبح عملًا روائيًا، لم تعبأ هالة فيما تكتب بالشكل الأدبى لما تكتب: هل هو رواية أو سيرة ذاتية أو غير ذلك، وتأملت حقيقة ما تكتب، وقالت لنفسها: «لا يهم شكل الكتابة، او إلى أين تقودني، إلى رواية، إلى قصيدة، إلى سيرة ذاتية، سأكتب فحسب ما حدث حتى لو كان هذا بشكل تقريري» (ص. 43).

ولكنها -فى واقع الأمر- لم تكتب بشكل تقريرى أبدًا: نعم هناك وقائع شخصية تحكيها، ولكنها تكتبها من خلال التأمل الانعكاسى Reflection، أعنى من خلال التأمل الشعورى للأحداث التى تجرى فى الخبرة الشخصية.

وهذا ما عرفته أيضًا فى كل كتابات الكبار، والطابع الغالب على فن الحكى فى هذا العمل الأدبى -الذى تتداخل فيه الأنواع الأدبية- هو الكتابة من خلال تتداعى الشعور: ولهذا نجد أن فصول الرواية هى تنويعات على الحدث الرئيس (حالة الفقدان) من دون ترتيب زمنى متصاعد، بل نجد هناك عوالمَ زمنية متباينة حول الشعور بهذا الحدث: هناك تقرير حول الحدث نفسه.

وهناك تأمل شعورى حول الحدث يجرى فى أزمنة مختلفة، أهمها الفترة التى تم فيها دعوتها إلى قصر «شاتو لافيني» بسويسرا الذى يستضيف كبار الكتاب فى العالم كل سنة من أجل التعارف وقضاء إجازة أو منحة تفرغ للكتابة.

وهى الفترة التى أفاضت فى وصفها باعتبارها المناسبة التى قررت فيها أن تكتب عن تجربتها الشخصية: تجربة الفقد والألم المقترنة بالألم. ليس هناك ترتيب زمنى للأحداث، وإنما هناك استدعاء لها عبر أزمنة متعددة: هناك ما يشبه تقنية «الفلاش باك» السينمائية فى السرد الأدبي.

بالتزامن مع خبرة «طى الألم» تتأمل هالة أحداث عديدة تصب فى التجربة نفسها التى تتطلع إلى الأمل من خلال الألم، وبين الخبرتين وشائج قُربى عديدة (وكلتا الكلمتين فى العربية البليغة منسوجة من الحروف نفسها). من بين ما استوقفنى فى هذا الصدد وصف هالة لعلاقتها بالنبات بالتوازى مع خبرتها بالألم والفقد.

ومن ذلك -على سبيل المثال- وصفها لشجرة المانجو العليلة فى حديقة بيتها، التى لم تكن مثمرة، والتى ظلت ترعاها مع زوجها الراحل على أمل أن تثمر، والتى أثمرت فى النهاية برعايتها فى وقت متزامن مع رحيل زوجها: تلك هى الحياة نفسها: موت وميلاد متجدد.

اقرأ ايضا | مناقشة «مولانا فى بلاط صاحبة الجلالة» بملتقى السرد العربى