قراءة في رواية «ستّى يا ستّى»

للفنان: عيد العايدى
للفنان: عيد العايدى

بقلم: سهير أبو عقصه داود

كانت الأمطار تهطل بغزارة دون توقف وسيول الماء تسحب معها كل ما صادفته فى الطريق الترابى. وبدا كأن الله لم يكتف بهذا المشهد الذى كان يشبه تصورى لنهاية العالم، فقد صاحب المطر عواصف رعدية وريحة شديدة كادت تقلع معها عمود الكهرباء فى الحارة وأشجار السرور الرفيعة فيها. كان البرد شديداً ‏وقد تكومت جدتى فى زاوية البيت قرب «الداخون» الذى لم يجد من يشعله، وهى ترتجف تحت شالها الصوفى الاسود وتتمتم بين الحين والآخر:


- يا عذرا يا أم يسوع إحمينا!
 وقد تكومنا نحن الصغار على سرير الباطون قرب الشباك الكبير ‏المسمى باب السر او الأسرار، ننظر إلى العالم الذى تحول بين عشية وضحاها إلى فيضانات وأو حال ورعد وبرق وقد ملأنا القلق. لكن قلقنا المجبول بالخوف لم يكن يشبه فى شى قلق جدتى التى ترتعب فى كل شباط‏ خوفاً من أن يأخذها معه كما فى الأمثال، فقد كانت، فى كل مرة يأتى «شباط اللّباط» ليأخذ معه «أم حسين فى غمضة عين»، تصلى لى جدتى صلاة المسبحة سبع مرات أو سبعين وكأنها تقول: « يا رب لا تجعلنى أم حسين هذا العام» . وهكذا بقيت ستى معمرة مثل شجرة الزيتون أعواما طويله عاش بها ناس ومات بها ناس وتأسست فيها دول ومحيت عن الخريطة دول أخرى واختفت أمراض وظهرت أمراض، وما زالت ‏ستى تنسى كل شى ولا تعمل حساب لأى شيء إلا لشهر شباط .


 كانت الساعة قد قاربت على الثالثة ظهراً موعد وصول أمى من عملها فى المدينة القريبة. كنا ننظر إلى الشباك فى شيْ من الشفقة والأسف لما ستضطر أمى أن تواجهه فى هذا اليوم المخيف . كانت حيطان البيت القديم قد اسودت من الداخون وقد تقشر الدهان وتساقط، والمسطبه ملساء باردة كثلاجة الموتى وكنا خمسة نتلوى من الجوع ولكن أهمية الطعام لم تكن ‏تقاس بأى شكل بأهمية وصول أمى سالمه إلى البيت. وكان على أمى التى بدأت العمل فى المدينة، هى وبعض نساء القرية بعد حرب «الأيام الستة» أن تقطع طريقاً ترابياً موحلا طويلاً من محطة الباص إلى البيت، تختبئ خلالها تحت سقوف البيوت إلى أن يهدأ المطر قليلأ وقد بدأ واضحا فى هذا اليوم أن المطر لن يتوقف وأن أمى ستواجه يومأ لا مثيل له. ولما لم أفهم علاقة الحرب المشؤومه بخروج أمى إلى العمل ‏فقد تيقنت، عندما كنت أرى أمى تعود متعبه من الكدح طول النهار ومن وقوفها فى المطبخ، أن هنالك علاقة خطيرة بين السياسة لما يحدث للفقراء أمثالنا.


قطعت أمى حبل الغليان الداخلى وهى تقترب من البيت كجبل لا تهزه ريح‏، ولا يقدر عليه أحد محملة بالأكياس وقد تبللت من رأسها إلى قاع رجليها المتوحله. وإندفعنا نحو الباب لاستقبالها. حتى ستى التى كانت تبدو كتمثال ‏متحجر نفضت جسدها من تحت الشال، ودبّت فيها الحياة فجأة، وقامت تكرج مُرحبه:
 ‏- اهلاأ أهلأ ليش تأخرتى؟ فكرت مش رايحه ترجعى..
‏وتنظر إليها أمى معاتبة وكأنها تقول:
‏-الله يسامحك يا مرت عمى!
‏ولكن أمى لا تقول شيئا فى حين تحاول أن تخلع معطفها المبلل، فنأخذ من يديها الأكياس وجزدانها ‏‏القديم ونركض كل إلى اتجاه، إحدانا تجلب منشفة لتجفف أمى وجها وشعرها، أخرى لتجلب لها حذاءها البيتى، وأخرى ‏كأس ماء، ثم نتكوم حولها فى سعادة ليس لها حدود. وتسألنا أمى ووجها ‏يلمع كتفاحة جولانيه حمراء:
- ‏اكلتو؟ 
ونردد واثقين:
- ما جعنا!
وتتوجه أمى مباشرة إلى الزاوية التى يرقد فيها الغاز والبراد، وتبدأ بتحضير وجبة طعام، لا أزال أذكر طعمها حتى هذا اليوم. 
وتحول البيت فجأة إلى جنة صغيرة ودبّت به الحياة حتى نسينا ما يحدث فى الخارج نهائياً . كانت أمى توقد «الموقده» بالحطب الجاف المكوم فى الزاوية، والذى جمعه أبى قبل ذهابه إلى العمل فى المدينة البعيدة، حيث كان يأتى إلى البيت فى نهاية كل أسبوع. وعادت ستى إلى كرسيها وتحت شالها، وقد نسيت شباطاً، وتذكرت أن تنهرنى بين ‏الحين والآخر عندما نضحك بصوت عال وتقول:
- حطى إيدك على تمك لما تضحكى، عيب البنت يبينو أسنانها!
 وقد لاحظت المعلمة إنى اضع يدى على فمى عندما أضحك وعندما أتكلم وعندما أبتسم ‏فنهرتنى قائله: - قيمى إيدك عن تمك».

 وتحيرت!
 نظرت أمى إلى الخارج وقالت:
- خلقتِ بعد زوال الحكم العسكرى بقليل، فى مثل هذا الطقس. ما زارنى أحد فى المستشفى ولا حتى أبوك.  كانت الدنيا ثلج وما حدا تكلف يقول مبروك لبنت ثانيه!
‏وتتنهد أمى وتضيف:
- وأنا وضعت راسى تحت باللحاف وصرت ابكي.
تذكرت عندما ولد أخى بعد أربع بنات. فبعد انتهاء الدوام وقفت اثنتان من عماتى على بوابة المدرسة كل واحدة من جهة مثل ضباط العسكر توزعان الحلوى على المعلمين والعابرين. 
‏‏وحين وصلت إلى البيت فى هذا اليوم، وكان الطقس حاراً، وجدت بقية عماتى وعلى رأسهن ستى يذبحن الدجاج ويسلخن ريشه استعدادا للوليمة احتفاء باليوم العظيم. حتى أمى التى خرجت من المستشفى فى هذا اليوم، كانت تقف على «المجلى» وتغسل الصحون وقد بدا عليها التعب لكنها لم تجرؤ على التذمر.
‏وسمعت أمى تقول شيئاً عن أيام الحكم العسكرى يشبه: 
- من يومها ما ارتحنا ولا تغير حالنا ولا ارتاح حتى الاموات فى قبورها. 
ولم يعجب ستى حديث أمى فترد:
- لماذا تحشرين الأموات الآن؟
وهكذا كان الكلام بين أمى و ستى، حتى أن أحدا لم ينتبه إلى أن المطر قد توقف، وتوقفت معه العواصف والرياح وإلى أن ألغيوم انقشعت، والشمس ‏قد تسللت إلى البيت وأضاءت ‏جدرانها العتيقه، فبدا كتحفة أثرية، ‏وكأن يداً سحرية أرادت لهذا اليوم نهاية جديده. 


ولم ننتبه أيضا لدخول جارنا الختيار‏ تسبقه عكازه ملقياً علينا السلام.  ونعود نركض لنجلب لجارنا كرسياً لينضم إلينا قرب الموقد. ويقول جارنا بصوت قوى ‏لا يتناسب مع عمره: 
- سبحان الله قادر على كل شىء.  اللى بشوف الدنيا  الصبح بشوفها العصر؟  
ولا ينتظر جارنا ردا على سؤاله فيستطرد: 
- اللى قال شباط البلاط ما كذب. 
وجارنا هذا مشهور فى الأمثال ويعرف الكثير من القصص والحكم. وهو يقول أن الحياة اكبر مدرسة، ومن يوم أن كان ولد ورأى بعينيه التى تشبه عينى الصقر، ولم تعرف البكاء إلا يوم اشتغلت «تربيخا» بالنيران سبعة أيام وسبع ليالى، زيتونها وزرعها وبقرها وكبوش الدخان، ورأى أهلها يهربون فى حين التهمت النيران عجوزة كسيحة  لا يزال صوتها يرن فى أذنيه وهى تنادي: «يا محمد»! ومن يوم أن تهجر هو وجميع من فى قريته القريبة المسماه «أقرث» بعد أن فرّ جيش الإنقاذ والذى يسميه جارنا جيش الركاض ‏وهو لا يصدق السياسيين ولا الأحزاب ولا الوعود، أنه يؤمن بشىء واحد فقط وهو كما يقول: «سنرجع لا محالة».


 وجارنا هذا يعتبر من أهل البيت، وما زال ممشوقا كالشباب على الرغم من أنه يحتفظ بالحطه والعقال، الشىء الذى لم يعد مألوفًا ‏فى مثل قريتنا.
‏وهو بارع فى السرد وقصته هذه بالذات تجذبنى، وإيمانه الغريب أن الحق لا يضيع ولو بعد ألف جيل 
تضع نهاية طبيعية للقصة تنتهى بالسعادة والهناء.


‏وترد ستى قائلة «أن اليهود أحسن من غيرهم على الأقل يدفعوا تأمين.» وتصر على أن «اليهود أحسن من الأتراك الذين ركبونا على الحمير ومن الإنجليز الذين شنقوا شباب البلد».
 ولكن جارنا لا يوافق.


 هو يقول إن «اليهود أظلم ناس وأقساهم. فاليهودى لا يعمل معروفاً إلا ووراءه مصلحة، والتأمين مصلحة لهم أيضا».  جارنا هذا لا يحتاج إلى قراءة التاريخ ولا إلى سماعه فقد رآه بنفسه: كيف بُقرت بطون الحوامل، وكيف اغتصبت بنات، وقتل الرجال فى طريقهم لتحصيل لقمة العيش، كيف اصطف الأولاد والشيوخ مرفوعى الأيدى منكسى الرؤوس على الجدران‏ فى انتظار المصير البائس، وكيف بسياسة: «اقتل اللى فى البور يربى اللى بالزرع» دمرت قرى ومحيت قرى ودب الرعب بالناس وكان ما كان. 


وتبدأ ستى بالبكاء وكأنها تذكرت فجأة ما كان. ‏ولأول مرة أسمعها تقول الله:
-الله راح يستد لنا.


ويؤكد جارنا أن الله سيترد للشعب المسكين الذى لم يقترف ذنباً ولا جريمة، وأن التاريخ دائما فى صف الشعوب. ويغادر جارنا، ويتأخر الوقت، فنذهب للنوم وستى لا تنام، بل تعقد يديها على صدرها وتكرر وكأنها أسطوانة لا تنقطع:
- الله كبير رايح يستّد.
فى هذه الليلة خطف شباط  ستي. ‏كانت ترقد فى فراشها بهدوء، مطمئنة قانعه كأنها رأت فى آخر أيامها المستقبل. كانت جدائلها البيضاء تتدلى على المخدة، ويداها معقودتين فوق صدرها تماماً كما رأيتها آخر مره. الغريب أنه حين التم  العالم لموت ستى كنت أرى شفتيها تتحركان، وأستطيع أن أجزم بكل ثقة‏، أنها كانت تنطق الكلمات الاخيرة التى سمعتها منها فى هذه الليلة.

سهير أبو عقصة داود هى كاتبة وأستاذة جامعية من قرية معليا فى الجليل الغربى. تشغل حاليًّا موقع أستاذة العلوم السياسية فى جامعة كوستال كارولاينا فى الولايات المتحدة؛ لها أربعة كتب فى الأدب والشعر، وتنشر مساهماتها منذ عام 2006 فى مجلة الآداب البيروتية.

اقرأ ايضا | عبير خشيبون| الغريب