حكايات الغريب

للفنانة: ليلى الشوا
للفنانة: ليلى الشوا

بقلم: عبير خشيبون

كان المجهود الذى بذلته فرح لتحافظ على توازنها كبيرًا، وسط الحشود المتزايدة أمام البوّابة المغلقة، لكنّها رغم انتظارها الذى طال حوالى السّاعة لدخول تلك القاعة فى جامعة عمّان، إلا أنّها لم تفقد هدوءها، ولم تفارق الابتسامة وجهها، بل كانت تدندن اللّحن الأخير الذى سمعَتْه فى طريقها من حدود البلاد إلى العاصمة الأردنيّة، وحتّى وصولها إلى الفندق المتواضع الذى حجزت فيه غرفة، لها وزميلتها فى الجامعة، التى جاءت كذلك لتحضر حفلة فيروز.


زميلتها انشغلت عنها بأقرباء لها من شفا عمرو التقت بهم صدفة على البوّابة منذ نصف ساعة. إنهم الآن يتحدّثون بانفعال عن الازدحام الشّديد الذى واجهوه صباح اليوم فى نقطة العبور الحدوديّة. بينما تابعت فرح وجوه النّاس وأحاديثهم، حاولتْ البحث عن معارف لها، وقد بات من الواضح أنّ هذه الحشود تتشكّل من فلسطينيّى الدّاخل بالأساس، وأنّ معظمهم أصحاب لهجات جليليّة. يكفى أن تسمع عربيّا يلفظ اسم «فيروز» بجرّ فاء قصيرة جدًا، متجاهلا السّكون على حرف الياء، لتدرك أصله الفلسطينيّ. هذا هو الحال مع كلمة «بيروت» أيضًا، فلا سكون تُسمع على يائها. ضحكتْ فرح فى سرّها حين بدأت تشعر أنّها فى حارتها رغم أنّها داخل دولة أخرى. 


لم تجد من يمكنها الانضمام إليه لحضور الحفلة، فتشاغلت عن وحدتها بمتابعة إحصاء الفلسطينيّين حولها، وإذ بشابّ يسقط فجأة أرضًا أمامها تمامًا، بفعل تدافع أناس صاخبين، فوجدت نفسها تنتشله بسرعة عن الأرض وتساعده على الوقوف إلى جانبها، على حافّة حجريّة آمنة نسبيّا، قرّرت التّمركز فيها منذ بداية الانتظار لتحمى أصابع قدميها الصّغيرتين من الانسحاق تحت الأحذية الكثيرة.


قال بلهفة سعيدة: «شكرًا! دفشونى ما عرفت كيف وصلتْ لَهُون!» ابتسمت فرح وأجابت بهدوء: «بَسيطَة. عادي. بَسّ إنتِ شِكْلَك مش.. من وين إنتِ؟»، أجاب: «أنا من سوريا، من حلب، وإنتِ؟»، رفعتْ حاجبيها بدهشة مجيبة: «أنا من فلسطين، من... الجليل، يعنى من جُوَّا»، انتقلت الدّهشة إليه: «والله؟ شو إسمِك؟» أجابت مبتسمة: «فرح، وإنتِ؟»، أجاب مبتسمًا ابتسامة كبيرة: «حسّون».


انتبهت فرح إلى حقيبة كان يحملها فوق ظهره، تشبه الحقائب المدرسيّة. يبدو لها صغير السنّ، فى الثّامنة أو التّاسعة عشرة، شعره أشقر، عيناه عسليّتان، وابتسامته عريضة لا تنتهي. خلال تمعّنها به وجدت نفسها تبادله الابتسام، كان وجهه يبعث على سعادة إضافيّة فى ذلك المساء، فقد كانت هذه هى المرّة الأولى التى تلتقى فيها بسوريٍّ شخصيّا، وهى التى طالما أحبّت سوريا والسّوريّين من خلال شاشة التّلفاز فقط. 


سألتْه بدافع الفضول: «لحالَك؟»، أجاب بسرعة: «إيه، وإنتِ؟»، تلفّتتْ باحثة عن زميلتها، فلم تجدها على مرمى بصرها: «الهيئة لحالي»، فسألها ثانية: «أيَّ دَرَجِة حجزتِ؟»، ردّت: «الأولى» فقال بحماسة: «وأنا! مْنِقْعُد حَدّْ بَعضنا لَكان؟»، هزّتْ برأسها موافِقة، فاتّسعتْ ابتسامته أكثر وازداد تشبّثه بمكان وقوفه قبل أن يمدّ رقبته إلى الأعلى للنّظر إلى البوّابة. يبدو لهما أنّ البوّابة على وشك أن تُفتح، فقد بدآ يريان العمّال من جهتها الأخرى يزدادون، استعدادًا للتّعامل مع المدّ البشرى الذى سيجتاح ساحات الجامعة ومعابرها فى اللحظة الحاسمة المقتربة.


قال بجدّيّة: «بْتَعَرْفى إنُّه المقاعِد مانا مْرَقَّمِة؟»، فأجابتْ باهتمام: «حَكولى هيك إشى، ووين بِدْنا نُقْعُد؟»، أجاب باطمئنان: «إعتمدى عليّى، أنا دارس جغرافيِة القاعة، بس لازم نِسْبُق، راح يْحاولوا كِلُّن يِسِبْقوا، بس ما تْخافى موقعنا مو عاطل حاليًّا. إذا مْنِسْتَعْجِل بِمْسِكْ مَحَلّ مْنيح وبِحْجِز لِكْ». ضحكتْ فرح رغمًا عنها حين أنهى جملته الأخيرة، فنظر إليها متسائلًا غير مدركٍ سبب ضحكها، فأجابت: «لهِجْتَك! حاسِّة حالى قاعدِة بْمُسلسَل سوري!»، فضحك هو الآخر، و.. فُتحت البوّابة.


ازداد الصّخب أضعافًا، وتدافع الجميع باتّجاه الدّاخل. انطلق حسّون مُسرعًا بين النّاس مستغلًّا حجم جسده الصغير، ووجدتْ فرح نفسها ممسكةً بحقيبة ظهره، حتى وصلا إلى أحد أبواب القاعة المنشودة. فوجدا عاملاً أردنيًّا يسألهما: «الدّرجة الثانية؟» فصاحا به معًا: «الأولى!» أشار بيده إلى اليسار، فعادا إلى الجرى فورًا وهما يضحكان، حتى وصلا إلى الباب المطلوب. وجدا بانتظارهما صفًّا طويلًا من النّاس الواقفين بشكل منظّم، انضمّا إلى آخره وقد أمسك كلّ منهما بطاقته بسعادة عارمة. 


كانت فرح مرتاحة لتجاوزها مرحلة الوقوف العشوائيّ، فهى ليستْ من النّوع الذى يجيد المزاحمة، كما أنّها بدأت تشعر بالأمان أكثر بعد أن وجدتْ حسّون هذا. ألم يقل إنه قد درس جغرافية القاعة؟ كيف قام بذلك يا ترى؟ هل أتى إلى هنا من قبل؟ ربّما حضر حفلة فيروز التى أقيمت منذ ثلاث سنوات. هى لم تحضرها، لأن عرضها تزامن مع حالة مادّية صعبة مرّت بها، ففى ذلك الوقت لم يكن لديها ما يكفى من المال لدفع أقساط السّنة الأولى فى الجامعة، وقرّرت التّنازل عن لقاء فيروز. ما تزال تلك الحفلة كالحسرة فى قلبها. لا لن تفكّر الآن فى الحسرات، فهى على بُعد دقائق معدودة من لقائها الأوّل بفيروز. رغم هذا، يثير فضولها أن تسأل حسّون إن كان قد حضر الحفلة السّابقة. ليته لم يفعل، فهذه المعلومة فى هذه اللّحظات ستكون كفيلة بإيقاظ حسرتها القديمة بعُنف. ابتسمتْ فجأة حين تذكّرتْ إحدى صور فيروز الموجودة فى منزل جدّتها. إنّها صورة متوسّطة الحجم، فيها ترتدى فيروز الثّوب الأبيض وتظهر رافعة يدها اليُمنى وأطراف أصابعها تلامس خدّها. خالتها التى وضعتْ الصّورة فى إطار أحمر وخصّصت لها مكانًا فى غرفة الجلوس، حضرتْ تلك الحفلة الحسرة. اللّعنة على الحسرات حين تستيقظ! ترى هل كان فيها حسّون؟


عندما فكّرت أن تسأله وجدته منشغلًا بمتابعة وجوه النّاس من حوله، وكأنّه يتوقّع التّعرّف إلى أحدهم. قالت فى نفسها إنّها إذا كانت هى التى تنتمى إلى غالبيّة النّاس المتواجدين فى هذا المكان غير قادرة على إيجاد أشخاص تعرفهم، فهل سيجد هذا السّوريّ الصّغير أشخاصًا يعرفهم؟ «كإنَّكْ عَمْ بِتْدَوِّر على حدا؟»، توقّف عن البحث والتفت إليها، «إيه! على رِفقاتى من موقع فيروز دُوتْ أُورْغْ، كِنّا مِتِّفْقين نِلْتَقَى بالحفلِة، هِنِّى من عندْكُن عَفكرَة»، اندهشتْ فرح وسألتْ من جديد، «من عنّا؟ من وين من عنّا؟» فأجاب مستمتعًا بإدهاشها، «فلسطينيّة من حيفا، ومن الجليل، ما بعرف شكلُن، بِحْكيلِكْ عَنُّن لمّا نْفوت»، ونبّهها إلى أنّهما باتا يقفان خلف الشّخص الأخير الذى قُطعت بطاقته، وأنّ دورهما قد حان للدّخول أخيرًا، وأشار بيده للعامل الواقف على الباب لأخذ بطاقة فرح قبل بطاقته. ابتسمتْ فرح كعادتها حين تتلقّى معاملة «السّيّدات أوّلا» دون النّفاق المعهود الذى تستشعره غالبًا من شباب هذه الأيّام، يبدو هذا الحسّون لطيفًا حقًّا. قدّمت بطاقتها إلى العامل، فقام بربط شريط ملوّن حول معصمها، قائلًا إنّ هذا اللّون هو ما سيميّزها عن جمهور الدّرجات الأخرى خلال فترة العرض إذا ما غادرتْ القاعة فى الاستراحة واحتاجتْ الدّخول مرّة ثانية. رُبط شريط يحمل اللّون ذاته حول معصم حسّون، ودخلا مسرعيْن. 


كانت القاعة كبيرة، وكان النّاس ينتشرون فى أجزاء منها بشكل لم تفهمه فرح. صاح حسّون طالبًا منها أن تلحق به، ففعلت دون تفكير. كان سريعًا جدًا فلم تحاول إدراك سبب اتّخاذه لهذا الطّريق دون سواه، وما لبثت أن وجدت نفسها إلى جانبه جالسة على مقعد فى الصّف الأوّل من الشقّ الجانبيّ اليساريّ لخشبة المسرح. نظرتْ أمامها وحولها بتمعّن. زاوية الرّؤية رائعة. لن تكون هناك رؤوس يمكنها تعطيل المشاهدة خلال العرض، لأنّ سلسلة المقاعد التى اختارها حسّون مرتفعة عن موقع المقاعد الأماميّة، التى تبدو مخصّصة للشّخصيّات المهمّة جدًا. شعرتْ فرح كم هى محظوظة بلقائها به. ربّ صدفة خير من ألف ميعاد، وخير من ألف موقع على شبكة الإنترنت. ابتسمت للجملة الأخيرة التى عبرتْ عقلها. نظرتْ إلى شاشة هاتفها الخليويّ، فكانت السّاعة تشير إلى السّادسة والنّصف، هذا يعنى أنّ لديهما ساعتيْن قبل بدء العرض. حان الوقت لتسأله كلّ الأسئلة التى تدور فى رأسها، ولم تتردّد فى طرح السّؤال الأقوى حضورًا داخلها: «كُنِتْ بْحفلِة الـ 2004؟» فأجاب بحزن اعتراه فجأة، «لا والله، كان عندى بكالوريا»، فتنفّست الصّعداء وأجابت مبتسِمة أكبر ابتسامة يمتلكها وجهها: «وَلا أنا!» فابتسم من فوره كأنّه أدرك ما مرّ بها حين فرحتْ فجأة، ولم يلبث أن انزاح عنه حزنه، فعرض عليها أن يُسمعها شيئا. نظرتْ فرح إلى ما بيده فوجدتْ جهازًا حديثا لم ترَ مثله من قبل، موصولًا بسمّاعات للأذنيْن، وضع حسّون إحداها فى أذنه وناولها الأخرى، فوضعتها فى أذنها، وانفصلا عن ضجيج الناس المتواصل حولهما.


اختار أغنية، وبدأت الموسيقى تنساب بسحر يلامس أعمق ما فيها ويثير دموعًا مختبئة منذ آلاف السّنين، «سكّروا الشّوارع، عتّموا الشّارات، زرعوا المدافع، هجّروا السّاحات. وَيْنك يا حبيبي؟ بعدك يا حبيبي؟ صرنا الحبّ الصّارخ، صرنا المسافات...» كيف يمكن لهذا الشّاب الذى لا يعرف عنها شيئًا أن يختار بهذه السرعة أغنيةً هى من المفضّلات لديها؟ ظلّت صامتة للحظات غارقة بدهشتها وبذلك اللّحن، هى التى اعتادت أن يحبّ الناس من حولها أغانى مختلفة لفيروز عن تلك التى تحبّها هي. قالت له هامسة بأنها لا تعرف هذا التّسجيل، فقال إنه من حفلة بوسطن عام 1981، فأخبرته أنها قد لاحظتْ اختلافه عن التّسجيل الذى تسمعه عادةً من حفلة باريس عام 1979. انتهت الأغنية، فبدأ حسّون بسرد الاختلافات بين التسجيليْن، وكان شرحه مغمورًا بالتّفاصيل الكثيرة الصّغيرة إلى درجة أفقدتْها تركيزها بمضمون حديثه، ولكنّها لم تفقد إحساسها بما يسكن داخله. كان يتحدّث دون توقّف ويحرّك ذراعيه بشكل طفوليّ، وينتقل من تسجيل إلى آخر، ومن أغنية إلى أخرى، كأنه طيْر يحلّق فى سماء لم يصلها أحد بعد. بدا لها أنّه يعيش داخل الأغانى، كما تعيش.


تتالت الأغانى، واستمرّا بالاستماع إليها من خلال جهاز حسّون الذى جاءه هديّة من أخ له يعمل فى الخليج، هذا ما أخبرها به. لم تستطع فرح فى تلك الأثناء ألّا تفكّر بسلام، صديقتها التى تعرفها منذ سنتين من خلال الإنترنت، وبدأت تحدّثه عنها، قائلة إنّ لديها صديقة سوريّة لم ترها، هى فى الأصل من «ضيعة» اسمها الجْدَيْدة، سكنت فى حلب مع أهلها، حتى زواجها، ثمّ سافرت إلى البرازيل مع زوجها، وما تزال هناك. لديها ثلاثة أولاد، وتحبّ فيروز. سلام تعرف بوجودها هنا فى هذه الحفلة، وتنتظر منها حين عودتها إلى البيت أن تسمع منها الأخبار، فسلام لم تر فيروز بعد، أما هى فستفعل اللّيلة. وفكّرت فرح لو كانت سلام هنا الآن، لربّما تشاركت مع حسّون فى حديث طويل عن سوريا. سلام تشتاق كثيرًا إلى سوريا. لسلام ثلاثة أحلام فى هذه الحياة، العودة إلى سوريا، زيارة فلسطين ولقاء فيروز. هل ثمّة علاقة بين هذه الأحلام؟ 


اختار حسّون أغنية جديدة، وتابع حديثها التى كانت قد بدأته عن سلام، وأخبرها أنه فى الأصل من «ضيعة» قريبة من الجْدَيْدة، اسمها الشْفَتْلَك. سكن مع أهله فى حلب حتى بداية دراسته الجامعيّة التى اضطرته إلى السّكن فى الشّام. قال إنّ الشّام أحلى. فرح تعرف الشّام من قصائد تغنّيها فيروز، ومن قنوات التّلفاز. فيروز تحبّ الشّام وتغنّى لها، وتحبّ فلسطين وتغنّى لها، وتحبّ لبنان، وطنها، وتغنّى له. هل يكون غناء فيروز ذاته فى كلّ مكان وزمان؟


فضولها لا يكفّ عن ولادة الأسئلة الجديدة، وحسّون لا يهدأ. يتكلّم كثيرًا، ويجيب عن كلّ أسئلتها. لديه أختٌ توأم يحبّها كثيرًا. يدرس الصّحافة والإعلام فى جامعة دمشق. لديه صديقة فى مثل عمر فرح، تسكن فى الشّام، تحبّ فيروز ولم تستطع الحضور معه. يجيد صنع شموع الزّينة ويبيعها. وحين ردّت على ذلك قائلة إنها تحبّ الشموع، وعَدها بصُنع شمعة جميلة من أجلها، ابتسمتْ ولم تردّ. من أين لهما أن يلتقيا ثانيةً على سطح هذا الكوكب؟ لطالما حلمت فرح بزيارة الشّام وبيروت، المدينتين اللّتين تعيشان فى القسم الآخر من العالم، القسم الذى لا يستقبل جواز سفرها. لم يستوقفه شرودها واستمرّ بسرد تفاصيل رحلته إلى هنا، فعرفتْ أنّه قد وصل اليوم إلى عمّان، وأنّه عائد اللّيلة بعد الحفل مباشرة. هل الشّام قريبة إلى هذا الحدّ؟ سألها عن نفسها فأخبرته أنّها وصلت اليوم، وأنّها عائدة غدًا، لأنّها خطّطت لشراء بعض الكتب، فثمنها هنا أقلّ مما هو عليه فى البلاد. هزّ رأسه متفهّمًا، وراح يبحث عن شيء آخر فى جهازه ليُسمعه لها. ألقتْ نظرة حولها فوجدت مقاعد القاعة قد امتلأت من كلّ جهاتها. كانت القاعة تضجّ بأصوات الناس، فكلّهم كانوا يتحدّثون، كأنّهم جميعًا يعرفون بعضهم بعضًا ولديهم أحاديث طويلة عليهم إنهاؤها قبل بدء الحفل. لا عجب، فهى بعد مضيّ ساعة واحدة فقط قضتها مع هذا الغريب بدأت تشعر أنها تعرفه منذ زمن طويل، وأن المسافة التى تفصلهما قصيرة جدًا، تشبه المسافة التى تحتاجها يد بخمسة أصابع، أو كلمة، بخمسة حروف، فيروز مثلا. ابتسمتْ.


«حاسِس إنِّك مبسوطَة كْتير! هَيْ أوّل مرَّة راح تِحضَرى فيروز؟»، يعجبها كيف يقول «فيروز»، السّوريّون كذلك يتجاهلون السّكون فوق الياء، ولكنّهم يمدّون الكسرة تحت الفاء. «أوّل مرّة»، فلمعتْ عيناه وكأنه رأى فيروز ذاتها فى تلك اللّحظة، «وأنا كمان! يا الله! مانى مْصدِّق! إنتِ مْصدّْقَة؟» فضحكتْ من كلّ قلبها دون أن تفهم لمَ، «ولا نِتْفِة، شغلِة بْتِتْصَدَّقِشْ يا زلَمِة!»، وتدحرجت ضحكتها كأنها تذكّرتْ فجأة سبب وجودها فى هذا المكان، ضحكتْ طويلا فضحك هو الآخر. ضحكتها كانت تزيد من لمعة عينيه الجميلة.


نظرت إلى ساعة هاتفها الخلويّ فكانت تشير إلى السّابعة وأربعين دقيقة، لم تشعر بمرور الوقت، حتى وحدتها الدّائمة تبدّدتْ تمامًا. قرّرت أنّها حين تعود فستخبر سلام عن حسّون، الذى كان يمكن أن يكون جارها لو لم تهاجر كلّ تلك السّنين، أو لو أنّها هاجرت قليلًا ثم عادت. لماذا يهاجر النّاس من هذه البلاد؟ هذه البلاد التى تغنّى فيها فيروز؟ الغربة تخلق فجوات من الفراغ الحزين يصعب ردمها. نحن هنا، رغم كلّ شيء، حين نمتلك فسحة لقاء واحد، نستطيع أن نكون معًا، وأن نتقاسم كلّ أنواع الفرح والحزن معًا، دون الحاجة إلى خلفيّات ونظريّات وتصاريح ولغات أجنبيّة وتبريرات وتفسيرات. فرح وُلدتْ فى بقعة صغيرة من الأرض يسكنها شعبان ما زالا يحاولان (أو لا يحاولان) دراسة إمكانيّات العيش سويّةً، منذ قرنٍ من الزّمان. ما فائدة البطاقة الزّرقاء التى تجمعهما، إن كانت حتى الآن لا تعرف كيف تقول صباح الخير لجارها الرّوسى الذى انتقل إلى جوارها منذ شهريْن فى مساكن الطّلبة؟ وماذا يعنى أن تجد نفسها فى هذا المكان، تتشارك القصص والتّجارب الشخصيّة بعفويّة هكذا، مع شاب سوريّ لا تعرفه وقع أرضًا أمامها صُدفة على بوّابة ما، فى بلد ما، قبل بدء حفلة ما؟ لا ليست «حفلة ما»، إنها فيروز. نظرتْ إلى وجهه فكان منشغلًا بالبحث عن شيء داخل حقيبته، وكان يدندن كلمات الأغنية التى استمعا إليها فى تلك اللحظة، «سكّنوها قصور، خَلِف سبْع بْحور، وزْغيرِة الأميرَة وكبيرِة البْوابْ. خِدنى يا حبيبى عَ بيْت مالُه بْوابْ، خدنى يا حبيبى ع قمر الغِيّابْ، انسانى بالغفى، بإيّام الصّفا، تَـ تِرجَع اللّيالى، ويِرجَعوا الأحباب، يا حبيبي...»، كان يلفظ الكلمات كأنّه يتنفّس، كما تفعل هى حين تستمع إلى فيروز وتقوم بأشياء أخرى. انتبهتْ إلى أنه أخرجَ نصف محتويات حقيبته، دون أن يجد ما يبحث عنه، ودون أن يُخطئ فى حرف واحد من الأغنية. ربّما كان صوته ليس جميلًا فى الغناء، وربّما انحرف أحيانًا عن النّوتة، وصنع نشازًا لذيذا فى اللّحن، إلّا إنّها شعرتْ كم هى محفورة كلمات هذه الأغنية فى قلبه، كما فى قلبها. واكتشفتْ أنّها لا تحتاج إلى كثير من المعادلات لفهم ما حدث بينهما، فحين يلتقى الماء بالماء، لا يسأل كيف يعود نهرًا واحدًا.

 


انتبه إلى أنّها تراقبه، فتوقّف عن البحث كأنّه يئس ووضع الحقيبة تحت المقعد. عاد بظهره إلى الوراء، أسند رأسه على ذراعه، التفتَ إليها وسألها أن تحدّثه عن نفسها، فأخبرته أنّها تدرس علم الاجتماع فى جامعة حيفا، وتعمل فى مشروع تربويّ، هى مديرته، ويهدف المشروع إلى مساعدة طلاب المدارس الّذين يحتاجون إلى دعم ما، اجتماعيًّا وتعليميًّا، فيحصل كلّ ولد وبنت على مرشد أو مرشدة. المرشدون طلّاب فى الجامعة، يرافقون طلّاب المدارس المسؤولين منهم طوال السّنة الدراسيّة، ومقابل ذلك يحصل الطّالب الجامعيّ على منحة تخفّف عنه أقساط الجامعة. قاطعها فجأة بسؤاله: «حِلوِة حيفا؟»، فابتسمت بحنان، «حِلوِة كتير!»، ابتسم وصمت قليلًا، ثمّ قال إنّه سيزورها يومًا. اتّسعتْ ابتسامتها، وتذكّرت أمنيتها التى اعتادتْ أن تكرّرها لسلام دائمًا، بأنّها ستزور الشّام يومًا. أين هى سلام الآن؟ الأمنيات أيضا تلتقى فى هذا العالم، كما البشر.

 


عاد حسّون إلى تفتيش حقيبته. القاعة أصبحتْ مليئة تمامًا. نظرتْ فرح إلى السّتارة السّوداء الكبيرة، فأحسّتْ بوجود حركة ما خلفها. بحثتْ بعينيها، دون أدنى أمل، عن زميلتها المفقودة، فلم تجدها. «وأخيرًا»، قال حسّون. التفتتْ إليه، فرأته يناولها قلم حبر، ويطلب منها كتابة بريدها الألكترونيّ على قطعة ورق صغيرة، ففعلتْ، وكتب لها بريده، على قطعة أصغر، فخبّأتها فى جيبها. رغم أنّ التّواصل من خلال شاشة الحاسوب لا يُعادل اللّقاء الشّخصيّ، إلّا أنّ حسّون محقّ، فلن يكون من المنطقيّ الاعتماد على الصُّدف وحدها من أجل أن تعيش هذه الصّداقة، بعد عودة كلّ منهما إلى بيته. هل هى صداقة حقًّا؟ وإن كانت كذلك، هل تدوم؟ صداقتها مع سلام علّمتها أنّ المسافات بين الناس ليست تلك المرسومة فى خريطة العالم بين الدّول والقارّات، بل هى شيء آخر تمامًا، شيء لا يمكن وصفه وتفسيره، فقط يمكن عيْشه، كفيروز.


السّاعة قاربت الثّامنة والنّصف، وجهاز حسّون لم ينضب من الأغانى، وصاحبه لم يهدأ، وفرح لم تملّ. موعد الحفلة اقترب، نظرتْ إليه، كانت عيناه على السّتارة الكبيرة السّوداء، وكان يرافق الأغنية بصوته الخافت، «أنا أعطيتُ هذا اللّيل أسمائى وهاجرَ بى، جعلتُ نجومَه كتبًا، رسمْتُكِ نجمة الكتبِ. كتبتُ إليكِ من عتبى، رسالة عاشقٍ تَعِبِ، رسائلُه، منازلُه، يُعمِّرها بلا سببِ». انتهتْ الأغنية، وقبل أن تبدأ أغنية أخرى، اُطفئتْ أنوار القاعة، ساد العتم، فخفق قلب فرح بشدّة. انتزعتْ السمّاعة من أذنها، ناولته إيّاها، وطبعتْ قبلة على خدّه، فابتسم مرتبكًا. لم تدرِ إن كان ارتباكه من قُبلتها، أم من المسافة القصيرة التى باتتْ تفصلهما عن فيروزتهما. أمسك يدها بيده، وعيونهما معلّقة على السّتارة المُسدَلة، كأنّهما بانتظار الدّخول إلى العالم الآخر، إلى الوطن الذى ليس يُسلب.


صدحتْ الموسيقى من كلّ الجهات، بدأ التّصفيق، تحرّكتْ السّتارة إلى الأعلى، ومن خلفها تسرّب ضوء أصفر، تهيّأ لفرح أنّه يشبه الصّباح.

ولدت عبير خشيبون عام 1984 فى حيفا، ونشأت فى الجليل، وتعيش منذ العام 2018 فى برلين. تحمل عبير شهادة بكالوريوس فى علم النفس، وشهادتى ماجستير، وهى حاليًّا طالبة دكتوراة فى كلية اللاهوت فى جامعة همبولت فى برلين، وتتركز أبحاثها على الفلسطينيين المسيحيين النازحين داخل الأراضى الفلسطينية المستعمرة عام 1948. حظيت مجموعتها القصصية «سعادات صغيرة» بتنويه خاص من جائزة عبد المحسن قطان للكاتب الشاب عام 2012.

اقرأ ايضا | ابداع من فلسطين للفنان صالح المالحى