حكاية فانوس حارة سالم الزهيرى

فانوس حارة سالم الزهيرى
فانوس حارة سالم الزهيرى

أتذكر دائماً قصة «فى رمضان» للكاتب العظيم يوسف إدريس. قرأتها منذ زمن بعيد، وهى من مجموعة «جمهورية فرحات». صدرت عام 1956، وقدّم لها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين. ورغم أن قصصاً وأشعاراً كثيرة تستحضر رمضان، إلا أن هذه القصة تظل حاضرة بكل مافيها من تصوير لرمضان وعبقه وجوعه وعطشه وهواجسه ولمّة العائلة خلاله.
وتظل هذه القصة -على وجه الخصوص- تجذبنى وتفرض حضورها علىَّ كلما جاء رمضان، أو حتى قبل أن يأتى، ربما بسبب عبقرية إدريس فى القص، وكشفه بمتعة فنية مفرطة عن هواجس طفل فى السابعة من عمره. «فتحى» الطفل قرر أن يصوم رمضان، فالصيام مجال لإثبات الرجولة، وقوة الشخصية، والصائم يكتسب احترام وتقدير ومحبة الناس، بداية من الأقارب إلى الأهل والجيران والأصحاب، وهو كذلك يُرضى القوة الأعظم من كل هؤلاء، أى الله. لم يسر الأمر بشكل جيد، فأهل الطفل اعترضوا بسبب صغر سنّه، ودارت مناقشات ومحاورات معه لإثنائه عن الصيام أو لتأجيله إلىالعام القادم، ولكنه كان مصرّاً حتى يكتسب احترام الجميع، ويحصل على الرضا الإلهى، وربما لكى يشعر بأنه ليس طفلاً، وأنه يقدر على القيام بمهام الكبار.

بعد أن يمضى أسبوعان من رمضان، تبدأ مظاهر صناعة الكعك والبسكوت، فى المنازل، خاصة فى منازل الميسورين، فهم يمتلكون ماكينات صناعة البسكويت، ومناقيش زخرفة الكعك

يستعرض يوسف إدريس كل الظواهر الرمضانية، السحور والفطور صلاة الفجر فى حينها، وكل أشكال الاستصغار التى يوجهها الكبار للأطفال فى المسجد، لأن الطفل فتحى عندما يذهب ليصلّى، يتنمر عليه الكبار، ويحاولون التشكيك فى كل ما يقوم به من وضوء وصلاة، وبعضهم يفاجئه سائلاً: «انت استنجيت ياولد؟!»، فيرد الطفل بخجل: «نعم!»، وعندما تبدأ الصلاة، يقف فتحى فى الصف الأول كالرجال.

ولكن الكبار يعملون على إرجاعه إلى الصف الخلفى، فيعود من صف إلى صف، حتى يجد نفسه فى الصف الأخير، لكنه يكتشف متعة غير عادية من مكانه الجديد، إذ يشاهد الجميع عندما يسجدون. يظل يوسف إدريس يستدعى كل ما كان يحدث للطفل مع أهله باستمتاع شديد، وهذه المتعة انتقلت إلىَّ وتلبستنى، ولذلك تقفز هذه القصة إلى ذاكرتى كلما جاءت «سيرة رمضان»، ومن الطبيعى أن تحدث المقارنة بين الطفل فتحى، والطفل الذى كنته منذ عقود عديدة.


مازلت أتذكر «حارة سالم الزهيرى» حيث نشأتُ، والحارة عادة ما تعطى ذلك الشعور بالانتماء الأسرى رغم أن حارتنا -قبل أن يداهمها العمران- لم تضم سوى بيوت قليلة، ربما خمسة أو ستة على الأكثر.

ولم يقطن تلك البيوت سوى مالكها، فالبيت عبارة عن دور واحد. لم تكن الحارات لدينا قد عرفت ظاهرة العمارات. أتحدث عن أواخر الستينات وأوائل السبعينات، وكان عم سالم، والذى سُميِّت الحارة على اسمه، يعتبر كبير الأسرة، بحكم عمره المديد، وربما لحكمته القادرة على فض أى منازعات بين السكان، ولأنه الوحيد الذى امتلك «فرن عيش»، لم تكن للخبز فقط، فأهل الحارة استخدموها فى مآرب أخرى، مثل شواء البطاطا وغيرها.


ولا يبدأ رمضان فى يوم الصيام، إذ أن التحضير له يبدأ قبل ذلك ببضعة أيام، بشراء البلح الصعيدى. يجلس بعض أبناء الصعيد، خاصة أبناء أسوان، أمام منازلهم، وكل منهم يحمل «قفَّة»، تحوى نوعين أو ثلاثة أنواع، أهمها الأبريم، ولم ينافسه سوى بلح الأقصر.

وكنت أشاهد عمليات الفصال الكثيرة بين أهل حارتى وبين البائعين، عمليات فصال مضنية، يبدع فيها البائع فى تجميل بضاعته، وكذلك يحاول المشترى أن يقلل من شأنها، وغالباً ماتنتهى عمليات البيع والشراء فى رضا وسلام. يحضرُ عم سالم دائماً بحكم تجوله فى المكان، ويتدخلُ برأيه، وكثيراً ما سمعت البائع أو المشترى يقول: «خلاص، اللى يقوله عم سالم هو اللى هيمشى»، وبالفعل كان كلام عم سالم هو النهائى، لم أر أحداً يخالف ذلك الرجل الذى يتمتع بوقار نادر.


تظل الحارة كلها مترقبة ليلة الرؤية، وكان الصغار منّا يعلقون «فانوساً» كبيراً فى مدخل الحارة، وكان بدائياً جداً، ذا أضلاع من الصفيح والزجاج الملون، تتوسطه شمعة، وعندما يتم الإعلان عن بداية رمضان، نلف نحن الأطفال على بيوت الحارة، ونتجاوزها إلى بيوت أخرى قريبة، وننشد الأغنية المعروفة:
«إدونا العادة
لبة وزيادة
والفانوس طقطق
والعيال ناموا
حاللو ياحاللو
رمضان كريم ياحاللو»
وعادة مانحصد خيراً وفيراً، فهناك من يعطينا «شوية» بلح، وهناك من يمنحنا بعض المال، ملاليم وقروش قليلة، وهذه المنح والعطايا شكَّلت البدايات الجميلة لرمضان.


كان فى منطقتنا مسجد واحد فقط قبل أن تنتشر المساجد بكثافة فى شوارعنا، وكان آباؤنا يصطحبوننا معهم لصلاة العشاء، وبعدهاصلاة التراويح، ويتبادل أهل المنطقة من جميع الحارات والشوارع التهانى بروح جذابة وطيبة، وبعد ذلك يخرج الناس فى جماعات صغيرة لتبادل الأحاديث الاجتماعية.

ويظهر عم سيد «بتاع الفول»، يرفع صوته المميز بنداء: «الفول اللوز»، ينطقها أولاً بسرعة، ثم ينطقها عدة مرات بمدّ الواو، فنخرج نحن الأطفال بالصحون الصغيرة لكى نشترى منه. كان القرش ذا قيمة كبيرة، فنقول له: «بقرش فول واتوصى».

وقد مارس عم سيد نوعاً من التفكه، إذ كان حاضر البديهة، يظل مبتسماً يوزع النكات وأشكال القلش الخفيفة فصار محبوباً، بلسانه الحلو، يبيع ما فى الـ«قِدْرتين» فى وقت قياسى، ليذهب من لم يحصلوا على نصيب من فوله الذهبى إلى أول الشارع حيث المطعم الوحيد، وصاحبه عم حسن بسيونى. 

كان الأهل يحفزوننا دائماً على الصيام فى هدوء، ويبدعون فى ذكر فوائد الصيام الدنيوية، بداية من قول: «صوموا تصحوا»، نهاية بالمكافآت العظيمة التى سوف يمنحها لنا الله فى اليوم الآخر، ويبدأ والدى رحمه الله فى قراءة ما تيسر من القرآن الكريم بصوت عال، وورع. كثيراً ما جلست إلىجواره وهو يقرأ القرآن، غالباً بعد العصر، وبعدما أتابعه وهو يستعد لصناعة طبق «السلطة» المعتبر.برع فى صناعتها من كافة الخضروات مثل الجرجير والخس والطماطم والفلفل الحامى والبصل والليمون.

أخرج مع بقية الأطفال لننتشرفى الحارة منتظرين مدفع الإفطار، وبعدها يرفع الشيخ حسين الآذان فى المسجد القريب منا، بعد ذلك نسرع عائدين إلى منازلنا ونحن على استعداد لنسف كل ما يوضع على «الطبلية».

ولم تكن عادة الموائد العالية «طاولة السفرة» قد انتشرت فى بيوتنا الشعبية، ولكنها كانت فى بيوت الميسورين «الذوات»، وقبل الأكل كانت أمى رحمها الله قد خصصت عدة أكواب للبلح، تضعه فى الماء منذ مطلع النهار، بعد أن تُخليه من النوى أو البذور، بعد ذلك نأكل ما لذ وطاب من لحوم أو فراخ أو سمك أو ما تيسر من طعام، والجميل أن العائلة كلها تكون مجتمعة، وهذه من فضائل الزمن القديم، كل فرد فى العائلة يكون حاضراً على «الطبيلة»، إذا لم يكن لديه مايشغله من عمل.


وبالطبع بعد الإفطار، يستعد الآباء للذهاب إلى المسجد لصلاة العشاء والتراويح، وبعد عودتهم كان الآباء يجلسون أمام بيوتهم بالتناوب، اليوم أمام بيت عم جلال، وغدا أمام بيت عم عبد الفتاح وهكذا، أما نحن الأطفال فنلفُّ بالفوانيس فى محيط الحارة تحت الفانوس الكبير المعلق فىقلبها، ولم تكن الكهرباء قد انتشرت بعد.

وبعد تلك «السهراية» يعود الأهل إلى منازلهم، وبالطبع نعود معهم شبه مضطرين أو مغصوبين لكى نستطيع أن نستيقظ فى السحور، منتظرين عم بربرى المسحراتى الذى يلفّ كل عين شمس وحده، وأحياناً يستعين بشقيقه الأصغر «عربى» ليوقظنا. يعرف عم بربرى كل أصحاب البيوت، ينادى عليهم واحداً واحداً، وأحياناً نظل ساهرين تحت البطاطين لكى نراه بطبلته الصغيرة، يضرب عليها قوياً بـ«الزخمة»، لكى تصدر صوتاً عالياً ليوقظ كل الغارقين فى أحلامهم.


السحور غالباً «فول» عم سيد، وزبادى من عم فوزى يبيعها على عربة صغيرة فى أطباق من الفخار، وكل يوم يأخذ الأطباق الفارغة، ويعطينا أخرى مملوءة، ويُحصِّل نقوده أسبوعياً، ولا ننسى طبعا الكنافة والقطايف، التىكان عم بربرىالمسحراتى، هو نفسه صانعها. يبيعها فى ورق نظيف للغاية، ولا تنسى الأمهات أن تتبادلن أصناف الأكل المختلفة، وعادة ماكانت أم زوبة ترسل بعضاً من المحاشى والكنافة تصنعها بطريقة خاصة، فقد كان من عادة أهل حارتنا أن يمنحوا الجيران نصيبهم من أى زيارة تأتى لهم من «البلد».


رمضان كريم كما تعودنا أن نقول، وبالفعل هو شهر التسامح، والجميع حريصون على نسيان مشاكلهم وخلافاتهم فيه.بدت الحياة أكثر بساطة، والأمور غير معقدة كماهى الحال الآن، لم تكن هناك أشكال من التعصب الدينى المزعج، أتذكر أن زملاء العمل المسيحيين كانوا يجهزون لنا بمحبة خالصة طعام الإفطار عندما كان دوامنا مسائياً، وراعوا ظروفنا، فلم يتناولوا أمامنا الأكل أو شرب الماء وهكذا. مدَّ رمضان ظله على الجميع، دون أن يفتعل طرف أى شكل من أشكال الورع.


بالنسبة لى بعد أن صر تفى عمر الشباب، وأصبح الكتاب رفيقى، خصصت وقتا لصيام لقراءة ما لم أستطع قراءته فى الفترات السابقة، قررت مثلاً قراءة نجيب محفوظ بشكل كامل، أو أعمال الدكتور طه حسين، وكان الوقت المتاح كبيراً للدرجة التى يستطيع المرء أن يعد لنفسه برنامجاً مثل هذا. كانت القراءة هى الثمرة الأعلى التى أقطفها فى شهر رمضان، وكان النهار هو المخصص لذلك. لم ينشغل الناس وقتها بهوس المسلسلات، لأن التلفزيون نفسه لم يكن منتشراً فى بيوتنا، تابعنا فقط الراديو وبرامجه الخفيفة المشهورة، ومن أشهر تلك البرامج «موهوب وسلامة»، بطولة فؤاد المهندس، وهو برنامج لطيف جداً، وناجح للغاية، وهادف على المستوى الاجتماعى، وبالتالى استمع الجميع له، وأحبوه، وانتظروا حلقاته بشكل يومى.

تبدأ الـ«عزومات» بالطبع فى الأسبوع الثانى من رمضان، عند الخال والعم والجد، تبارى كل هؤلاء فى تقديم أشهى المأكولات، رغم أن الدنيا لم تتح لنا ذلك التعدد فى المأكولات. لم يكن الطعام نوعاً من التظاهر و«الفشخرة» بقدر ماكان نوعاً من الإكرام الحقيقى، لذا صارت العزومات وقتها مناسبات للتواصل الاجتماعى الحقيقى، ونوعاً من التقارب وتبادل الحوارات، وكنا نحن كأطفال نفرح بذلك المناخ، رغم أننا كنا نخرج فى الشارع وننشد أنشودة تقول كلماتها:
«ياصايم رمضان 
ياعابد ربك
الكلبة البيضة 
تبوسك من خدك
يافاطر رمضان 
ياخاسر دينك
الكلبة السودة 
تقطع مصارينك».
كانت هذه مجرد كلمات نرددها، ولا نتمثّل معانيها بشكل دقيق أو حرفى، لأن ظاهرة الفاطرين لم تكن موجودة أصلاً، وكان الأهل عندما يرون أحداً من الناس يجاهر بإفطاره، يقولون له بدون تجريح: «إذا بُليتم فاستتروا»، معتبرين الإفطار فى رمضان نوعاً من البلوى والكبائر، ورغم ذلك لم يتجاوز التعنيف النصح والإرشاد والموعظة الحسنة، فلم يكن هناك أى نفوذ لتلك الجماعات المتطرفة، التى زرعت تلك الضغينة بأشكال أخرى غير آدمية على مدار عقود سابقة.


حتى فى المدارس، كنا سعداء بصومنا، وكان مدرسونا غير متعصبين، ونقتل الوقت بإجراء اختبارات صغيرة لبعضنا البعض، يقول أحدنا للآخر: «انت صايم ولا فاطر؟»، وكانت الإجابة بالطبع: «صايم»، فيعود الآخر قائلاً: «طب ورينى لسانك»، فإذا كان لون اللسان أبيض، فهذه علامة على أن «الريق» جاف، وبالتالى فصاحبه صائم، أما لو كان أحمر فهو فاطر. كانت هذه الألاعيب الصغيرة منتشرة بيننا.


كان كل بيت يُخرج بعضاً من طعامه للغلابة، فى تكتم شديد، إذ اعتقد الكثيرون أن الإشهار يفسد خير هذه الحسنات، أما الجانب الآخر فهو أن يتم الأمر فى سريّة وتستر، لعدم الكشف عن فقر الآخر، سادت هذه الأخلاقيات قبل انتشار ما يُسمَّى بموائد الرحمن، والتى أصبحت -فى غالبيتها- نوعاً من التظاهر بالتدين وادعاء الغنى، وكذلك تغذية الذوات المريضة التى يتمتع بها بعض الأثرياء الجدد.


كان رمضان بالفعل شهر الخير والتسامح والعطاء فى كل ظواهره وجوانبه، دون أى افتعال. الصلوات والصوم واجب دينى دون أن يبذل أحد أى جهد أو مواعظ لحث الناس عليهما، حتى المرضى كانوا يصومون فى رمضان، ويقولون: إن رمضان شهر البركة وشهر الخير، ولا يمكن أن تزداد العلة أو يتفاقم المرض خلاله، معتقدين بشكل راسخ أن الله سيخفف عنهم آلامهم طالما هم يقومون بتلك الفريضة الدينية الواجبة.


أما الزكاة، فكانت تتم بأشكال فردية، قبل أن تنشأ جمعيات لجمعها وإعادة توزيعها بطرق ليست معلومة، فكان صاحب الزكاة، يعرف بعضاً من الفقراء الحقيقيين، لا يتظاهرون بذلك، ويتم منحهم الزكاة فى هدوء وصمت.


وبعد أن يمضى أسبوعان من رمضان، تبدأ مظاهر صناعة الكعك والبسكوت، فى المنازل، خاصة فى منازل الميسورين، فهم يمتلكون ماكينات صناعة البسكويت، ومناقيش زخرفة الكعك، ترسلنا أمهاتنا لشراء الفانيليا والبيكنج باودر وكافة مستلزمات صناعة ذلك الطقس الجميل، ثم نذهب إلى بيت أحدهم، لنرصَّ البسكويت والكعك فى «صوانٍ» من الصاج مخصصة لذلك، نحملها على رؤوسنا ونوصلها إلى الفرن.هذه بعض مظاهر رمضان فى عوالمنا القديمة، لا زال عطرها يسيطر على عقولنا ويمنحنا بهجة طفولية جميلة نشتاق إليها.

اقرأ ايضا | إقبال كبير لأداء التراويح بساحات المسجد البدوى