الأدباء يستعيدون أيام الصبا: حلاوة زمان وشُحّ النفوس الآن

حلاوة زمان
حلاوة زمان

رمضان هو الشهر الفضيل الذى أنزل فيه القرآن -المعجز- لكل بلاغة وفصاحة العرب وفحول الشعراء، وقد نزل منجمًا على رحمة الله المهداة لبنی البشر -سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- فهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، ولهذا كان استقبال المسلمين له محفوفًا بمظاهر الاحتفاء والتقدير، فإذا بالشوارع تنزين قبل مقدِمه بالورق الملون الجميل والأعلام والفوانيس، وكذلك بلكونات البيوت وواجهاتها، وكان الصنّاع يبدعون فى صناعة فوانيس الصغار من الصفيح والصاج والزجاج الملون وكانت هذه الفوانيس تضاء بالشموع ويخرج الصغار بعد المغرب وبعد العشاء ينشدون الأغانى البسيطة الجميلة التى شكلت وجداننا (آنذاك): «وحوى يا وحوى إيوحا، وكمان وحوى إيوحا، إدونا العادة حتة وزيادة». 

 

وكان المصلون يخرجون من المسجد بعد صلاة المغرب وبعد صلاة العشاء، فيضعون قطعًا معدنية أو ورقية فى أيدى الصغار حملة الفوانيس. 

هذا وقد استلهمت بعض هذه الأهازيج الفلكلورية فى عدة أغانٍ شهيرة، كان من أشهرها أغنية غنتها المطربة صباح وعلى نواصى الشوارع تنتصب أفران الكنافة البلدى التى كانت رائجة وعليها زحام كبير، وصاحبتها أيضًا صناعة القطائف، لتكون مع الكنافة أجمل ما يُقدم فى شهر رمضان. 

 

ويستعد الآباء والأمهات لتموين الشهر الفضيل بشراء (قمر الدين والتين والزبيب والبلح وجوز الهند والقراصيا والجوز والبندق واللوز وعين الجمل) وتُسمى (النقل) فهذا فضلًا عن زيادة التموين من السمن والسكر والزيت واللحوم بأنواعها. 

 

وكانت البيوت تعمر بالزيارات والإفطار، المتبادل بين الأشقاء وأسرهم وبين الأهل والأصدقاء، وكل يوم يشهد فرحة بلقاء الأهل والأحباب والأصدقاء على مائدة الإفطار، ولم يكن الفقير بمعزل عن هذا الكرم، فقد كان له نصيب من هذه الخيرات وكان أيضًا للجيران الفقراء نصيب وافر منها.

 وعندما يذهب الآباء لصلاة العشاء والتراويح يحرصون على اصطحاب الصغار بمرافقتهم إلى الصلاة فى المسجد، وكان المسحراتى صاحب الطبلة الصغيرة التى يقرعها بقطعة جلد ومعه من يمسك الفانوس، يسيران ليوقظا النائمين لتناول السحور قبل أن يداهمهم أذان الفجر، وفى آخر الشهر الفضيل يمر المسحراتى وتابعه على الناس ليعطوه هداياهم (والعيدية) امتنانًا وعرفانا بالفضل مع ابتسامة سماحة مع كلمة: «كل عام وأنتم بخير»، ولا ننسى مسحراتی فؤاد حداد وسيد مكاوى الذى أثرى حياتنا زمانًا جميلًا، لا تزال تهب علينا نسائمه، سواء فى الراديو أو فى التليفزيون. 

 

وكان أهل الصعيد يقفون على مشارف المدن يقدمون التمر والماء للسيارات العابرة وكثيراً ما تمد لركابها ولائم الطعام، لإفطار المسافرين الآتين لبلادهم وأهلهم لقضاء الشهر الكريم والعيد مع ذويهم وأحبابهم. وعندما عرف أهل الصعيد السفر إلى دول الخليج، كانوا يرتبون إجازاتهم لحضور شهر رمضان بين أهلهم وأسرهم، وحضور يوم الجائزة (يوم عيد الفطر المبارك)، وقد أحضروا معهم الملابس لأبنائهم وأهلهم، وتجىء حقائبهم محمّلة بكل ما هو جديد ونافع. 

وكان دوار كل عائلة أو (كل مجموعة من العائلات) يتفقون مع مقرئ يحيى معهم أيام وليالى شهر رمضان، لتلاوة القرآن الكريم، وتُقدم للحضور الحلوى والكنافة والقطائف والمشروبات الساخنة والمثلجة كالخشاف وغيره، وربما أصبحت هذه العادة الطيبة هى الوحيدة التى لا تزال باقية وتتجلى بشكل ملحوظ فى ريف الصعيد. 

 

دار الزمان دورته، واقتحمت حياتنا السوشيال ميديا ووسائط الاتصال الحديثة، وشُغلنا بها، لتنشأ غربة جديدة بين أفراد الأسرة الواحدة، فكل واحد منها يعيش مع عالمه الافتراضى الذى يختاره.

 

ولم تعُد لمّة الطبلية أو حول السفرة فى المدن، حيث يتجمع الأبناء حول الوالد والوالدة حاضرة، فكل له شأن يغنيه، وصدق الفنان القدير ابن صعيد مصر ابن مركز المنشاة بمحافظة سوهاج الراحل الكبير الفنان حمدى أحمد حينما كتب مقالًا فى جريدة الأخبار من بين مقالاته التى كان ينشرها بالجريدة وبمجلة حريتى، عن اغتراب الأسرة المصرية، بسبب استخدام وسائط الاتصال الحديثة التى أصبحت وسائط الانفصال الحديثة. 

وكان قد سبق ذلك تحول الفوانيس بصناعتها من البلاستيك وبها لمبات كهربائية صغيرة تُضاء بالحجارة حسب حجم الفانوس، وقد برعت الصين فى صناعتها وتصديرها للبلاد العربية والإسلامية بأشكال وشخوص متنوعة. 

 

صاحب هذا التغير انتشار الأفران الحديثة بمخابز «العيش الفينو»، فصارت «الكنافة الشَعر» هى التطور السائد، وانقرضت الأفران البلدية، ليست فى كل شارع وحارة كما كانت، لتصبح فى أماكن بعينها ومن شاء أن يحصل على كنافتها فليذهب إلى حيث توجد، لأنه ما زال هناك من يعشقون هذا النوع من الكنافة، وأحيانا كانت تُصنع فى البيوت، خصوصًا فى ريف صعيد مصر أو فى ريف الوجه البحرى. 

 

ومع الحالة الاقتصادية بظروفها الصعبة، بدأت تقل موائد الرحمن التى سادت زمانًا، وبالتالى يقل أعداد من يقفون على مشارف المدن والقرى يقدّمون التمر والماء للمارة والمسافرين ويدعونهم لتناول الإفطار، واستتبع ذلك قلة دعاوى الإفطار المتبادلة بين الأهل والأصدقاء، واقتصرت على بعض الأسر المتمسكة بتقاليد الماضى الجميل. 

واكتفى البعض بمكالمة على الموبايل للتهنئة بشهر الصوم، والتهنئة بالعيد أو لمجرد السؤال عن قريب أو صديق مريض، وبالتالى قلّت جلسات السمر فى المدن والقرى بعد صلاة العشاء والتراويح، فالبعض مشغول بمسلسلات رمضان والبعض الآخر يعيش مع عالمه الافتراضى والسوشيال ميديا. 

وأصبح المسحراتى المبدع نادرًا، وحسنًا فعل بعض الباحثين من أبناء سوهاج مثل الباحث أشرف أيوب والباحث أشرف الخطيب وغيرهما، بتسجيل أغانى المسحراتى (صوت وصورة)، وكذلك فعل الكثيرون من أبناء الوجه البحرى. 

 

وانفرطت عرى التواصل الإنسانى بين الناس رغم ما يأمرنا به ديننا الحنيف، فهل صارت السوشيال ميديا والوسائط الحديثة لعنة؟ أم مؤامرة علينا بكل ما نجنيه من أشرار نراها كل يوم، فى صورة حوادث الابتزاز والتحرش وهتك الأعراض وتعرية بنات بريئات، نادتهم نداهة الشهرة الزائفة، فسقطن فى المستنقع يشوّه أهلًا فضلاء لا ذنب لهم إلا أنهم وفروا (موبايلات حديثة) لبناتهن، أم تُرى أننا أخذنا من السوشيال ميديا والإنترنت وغيرها الجانب المظلم السيئ ولم نسخّرها للعلم والمعرفة؟! أم أنه شُح أصاب القلوب والنفوس فلم تعد كما كانت؟ 

اقرأ ايضا | علاء عبد الهادي يكتب : مولاى يا مولاى