الشيخ محمد محمود الطبلاوي:أنا ابن سلطان دولة التلاوة

الأب والابن.. رحلة متميزة فى عالم التلاوة
الأب والابن.. رحلة متميزة فى عالم التلاوة

هانئ مباشر

فى شهر رمضان الكريم الذى أنزل فيه القرآن الكريم.. قدر الله أن تنتهى حياة آخر العظماء فى دولة التلاوة المصرية بل أميرها المتوَّج، الشيخ محمد محمود الطبلاوي.. وقدر سبحانه وتعالى أيضًا أن يكون ذات الشهر الكريم هو بداية رحلة "الشيخ محمد الطبلاوي" الصغير فى دولة التلاوة.. سائرًا على نفس خطى ودرب "الطبلاوى الكبير"!.. رحلة وحكاية بدأت منذ ٢٥ عامًا بالتمام والكمال..

 

"ومن نوره مشكاة ذاتى أشرقت علىّ فنارت بى عشائى كصحوتى فأشهدتنى كونى هناك فكنته وشاهدته إياى والنور بهجتي"... يرفع "سيدنا" يده إلى السماء شاكرًا وحامدًا على نعمة الإسلام وكرم الله.. بعد أن فرغ من الصلاة، وبعد أن مارس هوايته المحببة إلى قلبه وهى الإنشاد وسط مجموعة من محبيه ومريديه المقربين، يسند ظهره إلى أحد أعمدة المسجد الذى بناه أسفل منزله الواقع فى منطقة الهرم الذى تقيم فيه زوجته الثانية، وأنجب منها التوأم أحمد ومحمد، اللذين أتما سن الخمس سنوات قبل أيام قليلة، يقتربان منه بهدوء وببراءة الأطفال.. يحتضنه أحدهما من رقبته بينما جلس الثانى على حجره..

- بسم الله ما شاء الله يا مولانا.. "محمد" و"أحمد" كبروا، ربنا يجعل فيهم القبول ويشيلوا "الراية".. يؤمِّن خلف الداعى بصوت خفيف، قبل أن ترتسم على وجهه ابتسامة خفيفة.. ابتسامة من تذكَّر شيئًا ما كان قابعا فى ذاكرة القلب..

أضواء المسجد تزداد توهجا.. ويحدث الرجل نفسه:-

(فينك يا "شيخ غيم يا راوي".. يا ريتك كنت موجود كنت علّمتهم وحفّظتهم القرآن كما أُنِزل... عليك ألف رحمة ونور يا شيخ.. أيامك كان للكُتَّاب هيبته ومكانته التى تصل إلى القدسية ومافيش حد يخرج منه إلا وهو حافظ القرآن وقراءته.. كتاتيب اليومين دول إن كانت موجودة زرع لا جذور له، ولا فايدة فيها.. لا بُد من استخدام الشدة)..

وينوى "مولانا" استكمال الرسالة..

سيحفظ الصغيران القرآن الكريم، رغم انشغاله، كما فعل فيما مضى مع بقية إخوتهما!

ويقوم ليغادر المسجد.. وأحدهم فى يمينه والآخر فى شماله.

                                                                                           <  <  <

يستيقظ الأب من نومه، وما بين قيامه من على السرير والخروج من غرفة النوم، يتهادى إلى سمعه صوت ابنه وهو يحاول أن يقلد الأذان بصوت الشيخ محمد رفعت الذى كان يُذاع فى التلفزيون.. ويحدث نفسه: "يااااه.... قادر على كل شيء يمكن يكون مقسوم له أو واحد من ١٣ ولد وبنت أو نسلهم يشيل الإمامة ويكمِّل المشوار".

- ينادى عليه: يااااااا محمد تعااااالى..

انحنى الابن فى احترام نحو قدمى والده وألبسه خفًا "صعيديًا" يُستخدم كمداسٍ منزلي، ثم جلس على السجادة فى أدب ليواجهه:

< قولى يا محمد نفسك تطلع إيه لما تكبر؟

- يرد الطفل الذى أتم للتو عامه السابع كما أتم حفظ القرآن كاملًا: عايز أكون زيك يا بابا.

< بس لازم تجتهد وتتعب وتعتمد على نفسك وتنسى إنك "ابن الطبلاوي".

وبدأت الرحلة....

تحفيظ وتعليم وإتقان، بل وصل الأمر إلى تعليم الابن المقامات الموسيقية كالسيكا والنهاوند والحجاز والكرد وغيرها من المقامات.

                                                                                        <  <  <

ويبدأ الظهور...   

كان الفتى عمره 12 سنة حينما قررت إدارة المدرسة الاحتفال بعيد الأم أن يُفتتح الاحتفال بالقرآن الكريم، وقتها شعر بالرهبة من الموقف لوجود زملائه والمعلمين والضيوف وأولياء الأمور، ووسط عيون الحضور كان يبحث عن عين الوالد، التى ما إن التقت عينه بها حتى استجمع قواه وأعصابه وبدأ التلاوة.

 

والحمد لله جاء الأداء جميلا وممتعًا للجمهور، بل وسمع خلال التلاوة عبارات التشجيع والمديح، ورأى السعادة فى عيونهم من التلاوة، مما حفزه وشجعه على التلاوة والانتقال من مقطع لآخر.. يومها ارتدى الوالد نظارة سوداء كى لا يرى الجميع تعبيرات وجهه، لكن "الابن" رأى بقلبه قبل عقله وعينه فرحة الوالد، الذى اصطحب الابن وهو فى الرابعة عشرة من عمره فيما بعد محترفا للمرة الأولى ليقرأ داخل سرادق عزاء فى منطقة باب الشعرية وتقاضى وقتها 40 جنيهاً.

 

وفى الوقت نفسه، كان حريصًا على إشراكه فى مختلف مسابقات التلاوة، حيث كانت وجهة نظر الأب أن المسابقات تعد بمثابة الحصن الأول للحفاظ على كتاب الله وعدم تفلته من القلب والعقل والذاكرة، فهى نوع من المراجعة الدائمة لكتاب الله تعالى..

وتوالت المحطات فى الرحلة.. رحل الوالد الشيخ محمود الطبلاوي.. وورث الابن الشيخ محمد الطبلاوى الأمانة..

                                                                                          <  <  <

<< سألناه: هل تعمل فى أى مجال آخر غير تلاوة القرآن؟

- لا... أنا متفرغ للتلاوة التى ورثتها عن والدى رحمه الله، كما أننى عضو فى نقابة المقرئين، وقارئ سورة فى مسجد الفتح برمسيس، لكننى لا أتقاضى أجرًا عن هذا العمل..

<< قراءة القرآن لها ثوابها لكنها بتعريف القانون "مهنة حرة"، فما التطورات التى طرأت عليها؟!

- بكل المقاييس كانت "المهنة" حتى أيام الوالد وجيله من العظماء، رحمة الله ورضوانه عليهم، تعيش عصرها الذهبي.. فقد كانت فرص القراءة والالتفات حول عمل القارئ بين الجماهير أوسع من فرص جيلي، على الرغم من الإذاعة والتلفزيون وما تلاها من كافة وسائل الاتصال الحديثة والإنترنت..

إن قارئ القرآن الكريم يزدهر ويتألق من خلال احتكاكه بالجماهير وليس من خلال حديد الميكروفون، صحيح أن وسائل الإعلام والاتصال بالإذاعة والتلفزيون كانت السبب فى شهرة أصحاب الأصوات الممتازة والكفاءات العالية فى الأداء، فزادت الفرص وحلت بركة القرآن الكريم فى اتساع الرزق... ولكن تقلص تقاليد إحياء المآتم وليالى ذكر الله بل والموالد بمفهومها القديم، يسد الطريق الآن على "القراء" الشبان فى أن يكونوا "صيّيتة" فى دولة التلاوة المصرية.. فقمة النجاح أن يتفاعل معك "السمعية" مباشرة وتوصل إلى قلوبهم.

 

وهناك نقطة أخرى بالغة الأهمية ساهمت فى تقلص الأعداد أو شهرة الجيل الشاب، ألا وهى تراجع دور "الكُتّاب"، فقد كان الطفل ينشأ فى "الكُتّاب" وعمره أربع سنوات وخمس، فيحفظ القرآن مبكرا.. كانت الكتاتيب هى مدرسة القرآن الحقيقية، لقد تولى والدى تحفيظى أنا وإخوتى القرآن الكريم وهو من هو، إلا أنه كان يؤكد على دور الكتاتيب بل كان يقول كان هايفرق معاكم كتير لو كنتم تعلمتم فى "كتاب الشيخ الراوى" وهو الكُتّاب الذى تعلم فيه..

لا بُد من أن يعاد "نظام الكتاتيب" من أجل الحفاظ على "دولة التلاوة المصرية" وخلق أجيال من القراء المصريين..

<< هل صحيح أن "دولة التلاوة المصرية" فقدت مكانتها؟

- أبدا... ربما تكون تراجعت فى فترة من الفترات لصالح أصوات قادمة من الخارج وكانت تلقى دعما ماديا ومعنويا غير محدود، لكنها مازالت قائمة..

لقد سافر والدى الشيخ محمود الطبلاوى والشيخ عبدالباسط عبدالصمد إلى الرياض ذات يوم وطلب الملك خالد - يرحمه الله - أن يقرأ كلٌ منهما آيتين للبركة.. وفعلا تم ذلك فما كان من الملك أن قال: "القرآن نزل فى الجزيرة العربية وقُرئ فى مصر وطبع فى اسطنبول"..

إن القارئ المصرى لا يضارعه أحد، بل فى بعض الأحيان يقال إن لماء النيل دخلا فى حلاوة صوت القراء المصريين..

وحتى نحافظ على دولة التلاوة المصرية يجب الاهتمام بالكتاتيب والتجويد منذ الطفولة، وعودة الكشافين لاكتشاف المواهب كما هو الحال فى الرياضة والفن، ولتكن تلك إحدى المهام الأساسية لإذاعة القرآن الكريم..

<< هل أنت معتمد بالإذاعة؟

- هدف من أهدافى بإذن الله ربنا يوفقنى لذلك، وسألتحق بمعهد القراءات لإكمال دراسة القراءات العشر وأحكام التلاوة.