شكري عياد «على الحافة»

شكرى عياد «على الحافة»
شكرى عياد «على الحافة»

كتب : عاطف سليمان

وما الحافة!
أعلن شكرى عيّاد، بعنوان كتابه «العيْشُ على الحافة»، أنه عاش قُرب انزلاقاتٍ خطِرةٍ، ثم أوضحَ أن «الحافة»، بالعنوان، هى بالأحرى حواف؛ حواف الإجرام والعوَز والمرض والجنون. فالمرءُ الذى تصادفه، مثلاً، فى الشارع أو على الملأ، امرأةٌ تعجبه، يصير على حافة الإجرام إذا وجدَ نفسَه فجأةً لا مُبالٍ بالناس، مسلوبَ السلطان، مُوشِكاً على تلبية اشتهائه لها عنوةً واعتداءً، يكاد يَهِمُّ بهذه التى اختلبته، كأنه قد استحال شخصاً آخر، غير أنه، فى لحظةٍ أخيرةٍ، يفلح فى قمع نوازعه، فلا يبين منه تهوُّرٌ.

ولا يدرى الآخرون أبداً ما دارَ فى سريرته وكان من الممكن أن يبدرَ منه. لعل هذا المثال، الذى أوحى به عيّاد، يصلح لإيضاح ماهية حافة الإجرام التى أشار إلى أنه عاش عليها وراودته فيها، ربما، على المنوال نفسه، رغبتُه فى خطْف محفظةٍ أوضرْب امرئٍ أوتشليحه أوغير ذلك.

ويتوقّع قُرّاؤه أن يسرد لهم أيضاً عن عيْشِه على حواف العوَز والمرض والجنون، بعد أن تلقّوا وعدَه بكتابةٍ متحرِّرة من صنعةٍ يرى أنها مُفسِدة للصدق، وانتواءَه نُشدان كتابة صادقة لا يكون لكاتبها فور إتمامها غير الصمت، مُحدِّداً أن فلكلور الأسرة وزيجاتها وتاريخها وعلاقاتها هى أعزّ ما فى ذكرياته، مُعتزِماً ألا يهمل شيئاً، مُنوِّهاً بأن ما يطرده الكاتبُ وينصرف عن كتابته قد يكون أهم وأجدر مما يثبته؛ أَفَتُراهُ قد أوفى بالكتابة المنشودة، الكائنة كذلك على الحافة، بين مُنتهى البوْح وقُصارى الصمت الذى يليه؟ 


 كانت أمُّه، الصبيَّة، هى الزوجة الثانية لأبيه، الكهل، الشيخ محمد عيّاد، المجاوِر والدارِس إلى ما دون الشهادة الأزهرية العالمية، والمدرِّس بمدرسة المساعى المشكورة الابتدائية بأشمون، وخالطتها ضُرَّتُها، التى تكبرها كثيراً.

والتى صبرت حتى رأت العروسَ الجديدة لا تنجب، ثم إنها بعد سنواتٍ ثلاثٍ من العقم تنجب فهمى فأحمد فانشراح فعبد الفتّاح، فيموتون جميعاً صغاراً، والضُّرَّة تشمت وتُوعِز إلى بناتها فيغنين: «يا عروسة سلم اللى جابك، شهرين تلاتة وترجعى لاصحابك»، وكان من نصيب الطفل الجديد الذى كُتِب له العيْش أن يحمل اسميْن؛ اسم شقيقه المتوفَّى الأخير واسمه، فصار له اسم «عبد الفتاح شكرى». بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، وكان الشيخ محمد عيّاد قد مات منذ سنوات، استحكمت الأزماتُ الاقتصادية.

 

ونَقَصَ الغذاءُ، فأنشأت أم شكرى، كقائدةٍ راعية، مزرعةً للأرانب داخل منزل الأسرة فى كفر شنوان، ووفّرت لأبنائها، بتكلفة ضئيلة، وجباتٍ يومية من لحوم أرانب لا تكف عن التوالُد فى أجيالٍ متلاحقة.

وبعد مرور السنين ستحكى له أمُّه فتُعيدُ إليه ما أضاعته ذاكرتُه، ولن ينسى شكرى ما قالته له يوماً: «أول حسرة تنزل فى نفس الطفل هى حسرة فطامه». 


ويُثبتُ شكرى أن أباه المنتمى إلى بيئةٍ فلاحية، وإنْ لم يشتغل بالفلاحة، كان غير متزمت؛ يتعاطى الأفيون ويشرب قدحاً من البوظة يومياً، بل صار يوصى بقدحٍ يومىّ آخر من تلك الجعة لشكرى الصغير، ويذكر لمحةً عن انتحار خالته الصغرى «منى» بإشعال النار فى جسدها رفضاً منها لتزويجها على غير هواها.

وإشاعة الأهل مرويتهم عن انفجار وابور الجاز فيها. ويحكى عن خاله عبد الفتاح شلبى، المكوجى، الذى هجر مهنته ونَظَمَ الأزجال لمحمود شكوكو، وصادقَ فتحى قورة، وتحوَّل برعاية الصحفييْن على ومصطفى أمين من الوفديّة إلى معاداة الوفد، ثم زعمَ فى خواتيم حياته بأنه تلقّى عهداً صوفياً فأعلن نفسَه شيخَ طريقة، ونظمَ سيرةَ النبى زجلاً، ثم أفاق إلى أكْل العيْش فصاغَ ميثاقَ عبد الناصر زجلاً وكُوفئ بمعاشٍ استثنائى.


 وإنْ يخلُ الطفلُ إلى نفسه يأخذه تفكيرُه إلى أنه لا ينتمى إلى أمه ولا إلى أبيه، بل إنه «ابن ناس تانيين»، ومن ثَم راح ينشد التعرُّف، فى خلواته، على «أهله الحقيقيين»، وكانت استبطاناتُه هذه تنطلق وتتعزَّز بما كان يسمعه فى البيت، كالمعتاد ممن كانوا يقصدون حمايتَه وشَغْلَ العينِ الحاسدة عنه، بكونهم وجدوه عند عتبة الجامع.

وسيظل الطفل فى حيرته عن عشيرته المفقودة إلى أن يتلقّى صدمته الكبرى إذْ يتلقّن من أقرانه كيفية مجىء الناس إلى الدنيا ومن أية فَتحاتٍ يُولَد المولودون! فيسارع إلى اعتبار العلاقة الجنسية حِطةً وقَرفاً، يتوجّب عليه اجتنابُها وقتما يتعيَّن عليه الزواج، فقرَّر إذاً، وهو طفل، أن يكون زواجه «عُذرياً» – بحسب المفهوم الشائع الخاطئ للكلمة ذات الصلة بالشعر العربى القديم الذى أوضحت حقيقتَه وأبانتها دكتورة جوخة الحارثى فى رسالتها للدكتوراه أمام جامعة إدنبره – واكتفى آنذاك باعتزاله المشاركة فى لعبة «العريس والعروسة» الذائعة.

وببلوغه سِن العاشرة سيلاحظ أبوه انكفاءَ ابنه وسكوتَه وقلةَ مفاخرته بأهله، فيتهمه بأنه غير مُنتمٍ إليهم، وكانت اللفظة بتعبير الأب: «أنتَ برّاوى»، وذات مرة رماه الأبُ بتلك الكلمة أمام رجلٍ من بسطاء القرية، فردَّ الرجُل على الأب رداً قُرَّت به عينا الصبى؛ إذْ حاججه قائلاً: «اتركه. فى رأسه شىء، وإذا تكلم مع هذا وهذا نسى ما فى رأسه»؛ كانت كلمات ذلك الرجلُ تُلهِم فؤاداً ذكيّاً مغلوباً لولدٍ فى سِن العاشرة، يتملّى، فى سكوتِه، راحةَ فُقدان الذات ومبتدأَ التفكير فى وجوده كحبة رمل فى صحراء أوكفردٍ يحمل جيناتٍ لا حيلة له فى توابعها.


قضى شكرى طفولته وصباه مع أهله فى كفر شنوان وأشمون وشبين الكوم، التى يصِفها بأنها كانت «تعجّ بالأطماع والشهوات والعداوات والفضائح»، ويقرِّر أنه «فيما عدا أولئك الذين علمونى كيف أقرأ الحروف.

وكيف أكتب الأرقام، لا أحتفظ بذكرى طيبة للمدارس والمدرسين»، وشاركَ أثناء دراسته بمدرسة أشمون الابتدائية فى مظاهرة، لأول ولآخر مرة فى حياته، وكانت ضد وزارة محمد محمود فى نهاية عشرينيات القرن العشرين.

وقد عرفَ الموتَ أيضاً فى المدرسة حين مات المدرِّس، «الشيخ عبد الرازق»، وكان ابنه «جلال» تلميذاً زميلاً له، وعندما عاد جلال إلى الحضور بعد اختتام المأتم أخبرَ زملاءَه أنّهم رأوا ثعباناً يخرج من فم أبيه عقب وفاته. الطريفُ هو وجود حكاية ثانية عن الموت فى المدرسة مُرادِفة، كصورة مرآة، لحكاية الشيخ عبد الرازق، هى موت زميلهم التلميذ «جمال» ابن «صادق أفندى» المدرِّس أيضاً بالمدرسة نفسها، وبعد المأتم وعودة صادق أفندى إلى التدريس لاحظَ الطفلُ شكرى انطفاءَ الرجل المكلوم.

 

ومن سيمائه فهمَ معنى التجلُّد، غير أن صادق أفندى فى أول حصة تدريس له، بعد وفاة ابنه، بدأَ الدرسَ، وسرعان ما قطعه ونظرَ إلى التلاميذ وسألَ: «أُمّال فين مكان جمال؟!» ويتذكّر شكرى أن أمه كانت تعاود الحديثَ عن أبنائها الموتى فتضجره هذه الأحاديث ويشعر أنها تحمِّله مسؤولية البقاء حياً، فظل دائماً يخشى أن يفجعها بموته، وباتت هذه الخشية تحرِّضه، رغماً عن احتياطات الأهل لأجل سلامته، على المجازفات والتلذُّذ بلعب الألعاب الخطِرة التى تقرِّبه من الموت، لَكأنه كان أيضاً يلعب على الحافة. 


عاش الطفلُ وسمع بائعَ الكتاكيت الجوّال ينادى على بضاعته فى الشوارع: «الملاح.. الملاح»، فباتَ لا يمكنه استساغةُ ما يسمعه من المؤذِّن، قُبيل الأذان، حين يمتدح النبى هاتِفاً: «يا مليح الوجه»، فما كان للصلة اللفظية بين الندائيْن إلا أنْ تؤذى بديهتَه.

ومن مشربية منزل شارع السوق، الذى ظل يحمل اسم «شارع القيسارية»، فى أشمون يشاهد الطفلُ، مع أمه، رقصَ الغوازى شبه العاريات فى المقهى المقابل، وحين يخرج يُؤخذ بمرأى الفتيات اللائى يشمرن عن سيقانهن وعن أثدائهن وقت نزولهن إلى الترعة لإشباعِ أغراضهن وملئ الزِّلع، ويُستدرَج إلى انتهاك قراره السابق بالعُذرية.

وكان يمر أحياناً بمقهى البورصة، المقهى الوحيد بالبلدة على الطراز الإفرنجى، فيستمع إلى المدّاحين والمنشدين والذاكرين، لكنه كان دوماً يفضِّل الانزواء والقبوع فى فراغ الركن المربع الصغير بين أية كنبتيْن من الكنبات الثلاث فى غرفة الجلوس.

وحين شاكسه مرةً أخوه عبد الوهّاب بملاحظته اللاهية الجائرة بأنه إنّما يتخبّى كيلا يعطى أحداً من حلواه، شعرَ الطفلُ بأن أخاه ربما يكون مُحِقّاً، مما سيدعوه إلى التفكير فى ما قد يكون من وصْلٍ بين الزهد والأنانية، أمّا انزواؤه فى الركن فيُذكِّر مَن قرأ «الأيام» بما رواه طه حسين، بكتابه، عن الصبى الذى كانه، وإيلام الآخرين لمشاعره، وانزوائه فى المطبخ بجوار الفرن. 


فى سن العاشرة التحقَ شكرى بالمدرسة الثانوية بمدينة شبين الكوم، نظام السنوات الخمس، وأحبَّ أشعارَ صفى الدين الحلِّى والبهاء زُهير، وارتادَ سينما «طناش»، وقرأ «الأيام» و«آلام ڤـيرتر»، وأصبح يحلم بأن يكون مثل «بيرسى بيش شيلى».

ووصلت سرعتُه فى القراءة إلى ستين صفحة فى الساعة، وبدأ يدرك ماهية الأدب وينظم الزجل ائتناساً بخاله عبد الفتاح، ويرسل كتاباتِه إلى مجلة «الجامعة» التى كان يحررها محمود كامل المحامى، وانضمَ إلى الجمعية الأدبية المصرية، وصادقَ عبد الرحمن فهمى.

وشهدَ فى أوائل الثلاثينات حفلاً أحيته أم كلثوم فى شبين الكوم إسهاماً منها لدعم «مشروع القرش»، وحافظَ دائماً على ترتيبه فى المركز الثالث ضمن أوائل دُفعته، وقد أحبَّ دروسَ التاريخ والجغرافيا فكان يحفظها عن ظهر قلب.

وبينما هو يكتب مذكراته ويتذكّر دروسَ التاريخ فإنه، بخِفةٍ، يسخر من تاريخ رمسيس الثانى وانتصاره فى «معركة مجدّو»، ويرى أن هالات الانتصارات القديمة المدوَّنة هى «نخْع» مثل حكايا البطولات الزائفة التى أذاعتها الرواية الرسمية المصرية بخصوص الحروب الأخيرة، مستسهلاً مراوحة نظره هكذا بين الماضى والحاضر بتعميمٍ مُزرٍ. 


 فى مختلف أنحاء الكتاب يسرد عيّاد أكثرَ من واقعة عن الأولاد المخنثين بالمدرسة الابتدائية، ويتساءل عمّا إذا كان الفيلسوف سقراط قد حُوكِم بتهمة «إفساد عقول الشباب» أم «إفساد الشباب»؟ فى تلميحٍ منه إلى ما يظنه عن ميول جنسية شاذة لدى سقراط، ويعزم على قراءة المزيد عن حياة هذا الفيلسوف، ثم يفرد بعض صفحات كتابه الصغير للحديث عن لواط الكبار فى شوارع شبين الكوم، ويحكى عن مدرسين بالمدرسة الثانوية طالتهم الأقاويل.

وعن أحدهم الذى أراد الإيقاعَ به، ويعترفُ بأنه هونفسه راودَ زميلاً له بالمدرسة الثانوية ثم عاد وراوده بعد سنتيْن من المرة الأولى، وقد صدَّه زميلُه ووبّخه وشكاه لزميل ثالث لهما، ويستطرد عيّاد فى مزيدٍ من تفاصيل تلك الواقعة وغيرها، مبيِّناً أنه كان فى سنوات مراهقته «يتخبّط فى مغامراته الجنسية الطائشة»، ولعله رغبَ فى مُخارَجة نفسه وإبرائها أوتبرير نوازعه آنذاك فكتب تعميماً، أوقانوناً، أحسبُ أنه لا يناسب الموقف: «على كل حال، مَن الذى يمكنه أن يصمد لإغراء الحُسن؟».

ويقول إنه استعان بسيجموند فرويد وسلامة موسى حتى تجاوزَ تلك المرحلة المثلية من حياته، غير أنه لا يلبث أن يتلفّت وراءه فيخبر قُرّاءَه بأنه أُخبِرَ لاحقاً بأن زميلَه، ذاك الذى صدّه ووبّخه واشتكاه، قد أخضعه الآخرون، معترِفاً بأن الخبر قد هزّه حين علمَ به.

ولا شك أن فى هذه الاعترافات جرأة منه، لكنما هى بالأحرى جرأة مشوبة بالمفاخرة، فهوحرصَ على إيضاح أنه كان الطرف الإيجابى المهاجِم، هذا الذى يكاد – تقليدياً - لا يُحتسَب شاذاً، بل يُرى باعتباره مُتملِّكاً لفحولة زائدة لا تُشينه. ويوازن شكرى التعبيرَ عن اهتماماته الجنسية فيتحدث عن «ملك شبين»، الذى كانت تتبدّى فى مظهره ملامح الرجولة وعنفوان القُدرة، واحترفَ الجلوسَ على رصيفٍ بالقُرب من الدواوين التى ترتادها النساء، مثل محكمة شبين الشرعية والمجلس الحسبى، فتلتقطه هذه أوتلك ممَنْ يخلوفراشُها من عبق الذكورة. 


أثناء تفكُّرِه فى شأن الكتابة، فى عمومها، أقرَّ عيّادُ مبدأً لنفسه، ثم أذاعَه بين تلامذته، هو أن «الكتابة مسألة وقاحة»، وهى عبارة غامضة حمّالة أوْجه، أمّا كتابة الذكريات والأحوال الشخصية فيرى أن فيها انتهاكاً للستْر واستغناءً عن الاستتار وأنها تدخل فى حيزِ الاعتراف والتشهير بالنفس، وبالأقربين أحيانا.

وفى الثنايا ينصح عيّاد المرءَ الذى يريدُ الكتابةَ ألا يُديم الانتظارَ برجاء أن تتحسّن قُدراتُه على الكتابة، متى شعرَ بأن انتظاره لا يجدى. ومن الطريف أن أحد أقرانه، أثناء فترة دراسته الثانوية، كان قد سأله: «ما هوأهم شيء للكاتب؟»، فأجابه شكري: الثقافة؟ الصدق؟ كذا؟ كذا؟ لكن رفيقه الصغير مرَّر كل تلك الإجابات، غير المقبولة منه، ثم نطقَ مبتسماً: «الأسلوب».

 

ويعلِّق عيّاد على تلك الذكرى بأنه لا يزال فى درْس الكتابة الأول ذاك، ولا يزال يعوزه الأسلوب، وأنا من جهتى كقارئٍ لكتابه هذا أوافقه على تعليقه وأؤكد، معه، حقيقةَ افتقاره إلى أسلوب. 


 فى أفضل أجزاء الكتاب يعلن عيّاد أن الفرديةَ أمرٌ يعنيه، وأنه شخصٌ شديد الحياء، معتزٌ بفرديته دائماً، على الرغم من شعوره بتفاهة شخصيته، وأنه كارِهٌ للنمطية؛ «لا يهتف إذا هتفَ الناس، ولا يصفِّق إذا صفّقوا إلا رعايةً للمظاهر، ولا يقول آمين وراء الإمام فى الجامع إلا لتصِحّ صلاتُه»، وبلا مواربةٍ يكتبُ: «أحسبُ أن تجاربى مع البشر كان معظمها غير سار». وعن مشاركاته السياسية؛ يلمِّح إلى أنه، وإنْ لم يكن يخرج فى المظاهرات، كان من بين الذين يشاركون فى تدبيرها وتنظيمها ثم يقفل راجعاً إلى بيت أبيه فور انطلاقها.

وجرّاء ذلك تلقّى التوبيخ والصفْع من أبيه، بل وصلَ الأمرُ بالأب إلى حد إهانة نفسه كى يجبر ابنَه على الامتثالِ والابتعادِ عن أنشطته السياسية تلك، ووقع الخصامُ بين الأب وابنه، وإذْ كان الأب مريضاً بالقلب فقد أخذه الموتُ سريعاً، ويقول عيّاد إنه لم يرَ أمَّه باكيةً على أبيه. 


يكتبُ عيّاد أن أباه كان يمكث بالجامع طويلاً، ويقضى أوقاتاً فى دكان الساعاتى بصحبة رجل ملتحٍ، يظن عيّاد أنه من أتباع الوهّابيين. مات الأب، والابن فى الخامسة عشرة من عمره، وقد أنهى لتوه دراسته الثانوية، فكان التحاق الابن بكلية التربية هو الأنسب لظروف الأسرة لقِصر مدة الدراسة بها، بما يتيح سرعة توظُّفه لمساعدة الأم والأختين، لكنه لم يتنازل عن حُلمه ولهفته على دخول كلية آداب طه حسين، فدخلها.

وحصل على المجانية فأُعفى من دفع مصروفات ورسوم الدراسة. بعد أن تولّت الأم رسمياً الوصاية على أبنائها؛ وَلدٍ هو شكرى وبنتيْن أصغر منه، احتدَّ شكرى ظانّاً أن واجبه، بل حقه، يحتِّم عليه أن يرثَ مركزَ أبيه على قمة الأسرة، فبدأ صراعَه مع أمه، وتسلَّطَ عليها بخصوص ما لا يمكنها أن تلبسه ومَن لا يجوز لها أن تحادثه، وأظهرت هى نفوراً منه وعناداً وعصياناً لسلطته، واتسمت علاقتهما بالحِدّة والتوتر حتى قرَّ له، فى نفسه، أنها لا تحبه. تأمّلَ عيّاد تلك الفترة.

ورصَدَ ملاحظاتٍ وصلَ منها إلى أن أمه كانت قد عمدت إلى أن «تخصيه»، ذلك أنها راقبت بيقظةٍ أىّ اختلاط له بالفتيات من الأقرباء، ولم تغفل عن الجارات، فكنَّست بصرامة النساءَ من طريقه، بحجة ضرورة الاهتمام بالدراسة ثم بحجة أولوية تزويج الأختيْن.

 

ويطعن عيَّاد فى صِدق حججها، هوالذى علمَ لاحقاً من إحدى شقيقتيْه أن أمه كانت تتنكّر بالملاءة اللف، وتجىء من مسكن الأسرة، على بُعد خطوات، وتقف متخفيّةً بجانب بوابة خروج الطلاب من مبنى الجامعة لتراقب خروجَه وتتلصّص على ما قد يكون له من علاقات بزميلةٍ أوأخرى.

وفى مغامراته النسائية إبّان فترة الدراسة الجامعية، بعد مغافلة الأم، شعرَ شكرى أن رقابة أمه عليه قد أحبطت عزيمته وأوهنت قواه وأضعفت لَذّاته، ويذكرُ أنه انتقم لنفسه وانتصر على أمه حين تزوّج بابنة خالته وصار من حقه أن يدخل بالفتاة ويختلى بها ويفعل معها ما يشاء فى غرفته، بحضور الأم والأختيْن فى البيت نفسه، وكأن عيّاد يقول إنه تلذَّذ بقهْر المرأة التى قطعت على كل الأخريات طريقهنَ إليه كى تستبقيه لجوارها فأجهرَ هولها فرارَه منها إلى مَن هى فى مقام ابنتها.

ويُبدى عيّادُ استياءَه من مَقولةٍ لأمِّه، كانت لا تنى تُجاهِره بها أمام الجميع، داومت فيها على مطالبته بأن يحفظ جميلَها عليه طوال العمر، غير آبهةٍ بما فيها من تعريضٍ بمروءته. ولا ينسى لها أيضاً إجهاضَها لحُلمٍ عزيزٍ لديه، لا يُفصح عنه بكتابِه، فسلبت منه روحَه بفعلتها، وبعد سنواتٍ؛ حين أتاها الموتُ، أرادت أن تعترف له وتعتذر، غير أن الاعتراف الواضح المبين منها عَسُرَ عليها وأبهظها، فاكتفت بالإلماح، فداعبها هو ساخراً؛ أنْ لا عليكِ يا أم؛ فما فات فات.


انتقلت الأسرةُ من المنوفية، واستقر سُكناها بالقرب من مصنع بيرة الأهرام فى منطقة بين السرايات المتاخمة للجامعة المصرية التى بدأ شكرى يدرس بها، واعتاد أن يكافئ نفسَه بنزهةٍ يومية ما بين كوبرى بديعة وكوبرى عبّاس.

وقبل أن يقفل راجعاً من نزهته إلى مُستقرِّه الكالِح يحرص على ألا يفوته التطلُّع إلى شُرفةٍ على النيلٍ تتناهى منها دائماً إلى سمعه دقاتُ بيانو تؤجِّج أحلامَه بالغرام وتُنعِش خيالَه بنوعيةِ معيشة لا وجود لمثلها فى الحى الفقير حيث يقيم مع أمه وأختيْه، وحيث لا يزوره هناك سوى صديق يجيئه مرةً كل عدة ليالٍ، فيقبع على قاعدة نافذته، يبحلق فيه بعينيه الخضراوين، ويأكل ما يقدمه له، قبل أن يموء بخفوتٍ وينصرف.


إنها إذاً سنة 1936، وكلية آداب طه حسين تملأ الصفوفَ الثلاثَ الأُولَ من مدرجاتها طالباتٌ أتينَ لتلقى دروسهن، لكنهن كُنَّ تحت أعين الفحص من زملائهن الطُّلاب، ووقع الطالبُ شكرى فى غرام طالبة حسناء، يتبعها أينما سارت جمهورٌ كبير من طُلاب كُليتىْ الآداب والحقوق.

وكان لها فى عينه جمال مارى أنطوانيت، بحسب صورتها المطبوعة بكتاب من مقرر المدرسة الثانوية، وقد أراحه اليأسُ منها لكونها أنأى من قدرته على الإمساك بها فى حُلم، ولعل شكرى لم يدرِ أنه استحسنَ اليأسَ كى يرأف بنفسه، فطوى بيديْه حلمَه الغرامى لئلا تمزِّقه له أمُّه.

ويشهدُ عيّادُ لحسنائه البعيدة أنها زلزلت كيانَه، على الرغم من أنه لم يجرؤ على أى اقترابٍ منها، وأنها أعجزته – حتى أُخريات أيامه – عن الإمساك بمعنى للجمال يستطيع به الفانى ردْمَ الهوةِ بين ما هو جسدىّ وما هو روحانى. 

لا يخفى عيّاد خجلَه من كونه لا يستطيع قوْل كلمة طيبة لصالح معظم أساتذته بالمدرسة الثانوية وكذلك بالجامعة. يتذكّر الدكتورَ «أبوالعلا عفيفى» بعبوس وجهه وعُسر محاضراته فى «المنطق»، والدكتور «يوسف كرم» بمحاضراته عن «الفلسفة اليونانية»، يُمْليها من أوراقٍ على طلابه، بينما يعجز عن إلزامهم بالهدوء فى المدرّج، والدكتور «إبراهيم بيومى مدكور» بمحاضراته عن «مشكلات الفلسفة» و«الفلسفة الإسلامية»، ييسِّر المعانى لسامعيه ويأسرهم حتى إنهم يشعرون باستحالة العيْش بلا فلسفة، والدكتور «محمد مصطفى زيادة» بمحاضراته عن «تاريخ مصر»، يتلوها من مذكرة مكتوبة.

ويذكر عيّاد المعيدين الأربعة الذين كان طه حسين قد عيّنهم للتو؛ نجيب البهبيتى وسهير القلماوى وشوقى ضيف وعبد اللطيف حمزة، ويخصُّ البهبيتى بالاستطراد، لِما وجده فيه من زهوٍ غير مفهوم له، وللجفوة التى نشأت بينهما ودامت حتى بعد رحيل البهبيتى فى عملية تطهيرٍ لا يورد عيّاد تفاصيلَ عنها، أمّا الدكتور «أحمد الشايب»، الذى درَّس له «النقد الأدبى وتاريخ الأدب» طوال السنوات الأربع، فسيتكدَّر ما بينهما. نجح شكرى فى السنة الأولى، العامة، فى الترتيب التاسع على دفعته، وفى إجازة الصيف قرأ القرآنَ ونهجَ البلاغة وأحبَّ الإمامَ على، وبدأ فى قراءة تشيخوڤ وترجمة طاغور.

وأعجبه وِلز وبرنارد شووتوماس هاردى ودوستويـﭭـسكى، ولم يتحمّس لقراءة أكثر من رواية قصيرة لتولستوى، مُفضِّلاً تورجنيـڤ. فى السنة الثانية دخل قسم اللغة العربية، وتعارَفَ مع زميليه حسن أنيس ومحمد عُودة، وصُدِمَ حين لم يجد اسمىّ طه حسين وأحمد أمين بجداول تدريس المحاضرات، بل أسماء مجهولة مثل عبد الوهاب عزّام لدروس العروض وإبراهيم مصطفى لدروس النحو وإبراهيم أمين الشواربى لدروس مبادئ اللغة الفارسية وأمين الخولى لدروس البلاغة والتفسير.

وقد ارتبطَ شكرى، التلميذ، بأستاذه الخولى ثم خَلَفَه على كُرسيه فى ما بعد. استنتج شكرى أن تقدير درجات أعمال السنة يقع بحوزة سُلطة أحمد الشايب المتولِّى مسؤولية النشاط البحثى للطلاب، ويروى عيّاد أنه كان برفقة زميلين فى صباح أحد أيام شهر رمضان، وتوقّف ليشرب كوبَ ليمون فى محل عصائر بميدان العتبة.

ومَرَّ الشايبُ صُدفةً من أمام ذلك المحل، وكان شكرى متجهاً بوجهه ناحية داخل المحل بينما زميلاه يواجهان الشارعَ، فأخبراه: «الشايب شافك»! يقول عيّاد إن الشايب، بعد الواقعة، تحدّاه بتكليفه بتقديم بحثٍ مترامٍ وصعب.

وقد أنجزه شكرى بعزيمة وبتضحيات، ويدّعى عيّاد أن الشايب ظَلَمَه فى طريقة مناقشته لبحثه، وكانت الأبحاث كلها تُناقَش بحضور جميع الطلاب، ويقول إن الشايب أعرَضَ عن معظم محاسن البحث، ثم جارَ عليه فى ما يستحق من درجات.

وخَلُصَ إلى أن الشايب اعتبرَه كافراً فأوسعه تلطيشاً، وتضايقَ شكرى فأتلفَ بحثَه ورماه، ثم عاد ليندمَ على إتلافِه وهويدوِّن الواقعةَ فى كتابه. هذه هى رواية عيّاد عن واقعة تنمُّر أستاذه به ومحاولته إقصاءه عن الاستمرار فى الدراسة بقسم اللغة العربية.

وأظن أنها تحتاج إلى الحذر فى قبولها، ذلك أن عيّاد لا يذكر أية تفاصيل عن زميليه ولا حتى اسميهما ولا أى شيء عمّا قد يكون جرى لهما، وهُما كانا الأوضح لعينيْ الشايب وليقينِه وكانا الأولى بسُخطه؛ فهل أدانه وحدَه وحكمَ عليه بالتكفير وأعفاهما؟! ولأن اتجاه وجه شكرى كان إلى داخل محل العصير يكون الشايب لم يرَ إلا ظهرَه، ولم يرَ بالتأكيد فمه على حافة الكوب، أى أن الشايب، بحسب رواية عيّاد، يكون قد عادَى تلميذَه بُناءً على مظنةٍ أو تخمين. لم توفِّر رواية عيّاد تفاصيلَ تخص الشايب؛ أكان راكباً أم ماشياً؟ وعلى أية مسافة؟ وما الذى أتاه الشايب فرآه الطالبان واستيقنا منه أن الشايب شافه؟ وهل كان معروفاً عن الشايب الولع بالتفتيش فى إيمان الآخرين؟ هى إذاً مظلومية أثبتها شكرى عيّاد فى كتاب سيرة حياته من دون أن يلحظَ وَهَنَها أويعتنى بتدقيق تفاصيلها.

وعلى ذلك فإن ما وَقَرَ فى يقينه هو أن الشايب قد ساعدَ، بالعمْد، فى حرمانه من الحصول على مرتبة الامتياز فى السنتين الثالثة والأخيرة، حتى إنه يستجير بالله لئلّا يستمر اضطهادُ الشايب له فى الحياة الآخرة! ويُفشى عيّاد أنه، بعد مرور السنين، أطرى الشايبَ فى كتابيْه «دائرة الإبداع» و«اللغة والإبداع» ففاقَ، فى الكرم، ظالـمَه! استقرَ فى يقين شكرى أنه قد حِيلَ بينه وبين مرتبة الامتياز بفعل فاعل، وبالنتيجة حصل طالبان فقط على مرتبة الامتياز، أولهما هوصديقه وزميله محمود الشنيطي، ويُلمِّح عيّاد إلى أن المركز الأول كان قد قُرِّر له مُسبَّقاً أن يُعطَى إلى الشنيطى، بل يُلمِّح إلى اِضطلاع طه حسين بجانبٍ فى هذه المهزلة.

ويكتبُ عيّاد أنه «أضمرَ فى نفسه أن يهزأ بالامتياز ومَن اخترعوه»، فيذكرُ أن الشنيطى دخل إلى لجنة الامتحان الشفاهى أمام طه حسين، الذى أعطاه (15 من 20)، وقال له: «يريدون أن يلغوا الامتياز؟ أنا أعطيتك درجة جيدة»، وفى هذه العبارة ما يكفى للإيعاز بمحاباة طه حسين للشنيطى على حساب منافسه عيّاد، فهل سمعَ شكرى هذه العبارة بنفسه؟ أم أخبره بها الشنيطى؟ وهل كان طه حسين مضطراً إلى إخبار تلميذه بمثل هذه العبارة التى تنضح منها أيضاً نبرةُ الشكوى لَكأن طه حسين كان فاقداً لسلطته بصفته عميداً للكلية وأن ثمة أشخاصاً يدبِّرون سياسة الكلية ويفرضون ما لا يريده العميد وليس بمستطاعه إيقافهم إلا بتدابير تآمرية؟! يقول عيّاد إنه دخلَ، بعد الشنيطى، إلى لجنة الامتحان أمام طه حسين، الذى جلس عبد الوهاب عزّام على يمينه وجلست سهير القلماوى على يساره.

وإن سهير ناولته جزءاً من شرْح الحماسة للتبريزى ليقرأها، فقرأها، غير عابئ بما إذا كانت قراءتُه مضبوطة أم لا، ذلك أنه كان يركِّز نظرَه على وجه طه حسين، وفهمَ أن قراءته مقبولة لأن العميد لم يُبدِ تعليقاً عليها، إنما سأله أن يفسِّر جزءَ القصيدة الذى قرأه، وما كان ذلك صعباً على شكرى الذى يقول إنه كان آنذاك متمرِّساً بالشعر القديم، غير أنه ظل صامتاً ينظر «إلى طه حسين وظِل ابتسامةٍ صفراء على وجهه»، أى وجه طه، ولم يتعجلّه العميد، حتى تدخلت سهير فقالت لشكرى: «الشرحُ أمامك»، لكنه لم يقرأ الشرحَ المكتوب مع نص القصيدة، بل أدامَ النظرَ إلى وجه طه حسين ورأى فيه أنه يريد له السقوط.

ويكتب عيّاد: «كانت إرادتى تريدُ أن تنكسر أمام إرادته فلم أنطق بكلمة، فقال لى: قُم! وأعطانى (10 من 20)، فارتفعت نسبة الشنيطى بينما انخفضت نسبتى»! هكذا وَصَفَ شكرى اللحظاتِ التى حقّق فيها ما أضمره للاستهزاء بالامتياز وبمن اخترعوه، مُبْدِياً انتشاءه بإسقاط قداسةٍ ثَبُتَ له زيفها، أوبالأحرى مُظهِراً تحرُّقه إلى التخلص من قداسةٍ، ثَقُلت عليه، فقام بتدبيج الدَّنَس لها، وعساه قد ارتاح لإسقاط طه حسين من عليائه ومكانته الاستثنائية التى كان هوقد أصعده إليها، فى نفسه، منذ ذلك اليوم البعيد الذى كان فيه صبيّاً وقد قال لزميلٍ له بالمدرسة، وهما على محطة قطار أشمون: «أتمنى أن أكونَ مثل طه حسين ولو فقدتُّ بصري». لكن ما كلمة قُم هذه التى قُرِئت للتو؟ أتُراها هى الكلمة، المثقلة بمعانٍ خاصةٍ لا تُغفَل، المجلوبة من كتاب «الأيام» الذى قرأه شكرى! حيث كان «سيدنا» فى الكُتّاب قد أجلسَ الصبى طه حسين أمامه ليختبر حِفظَه للقرآن، وبعد أن أخزاه الولدُ طه.

وقد نسى محفوظاتِه، أمره سيدنا: قُم! بما فيها من سُخطٍ وانتهارٍ وتوبيخٍ ويأسٍ وخيبةِ أمل؛ فهل هى الكلمة بحذافيرها حقاً التى قالها العميد طه حسين للطالب شكرى عيّاد؟! أم أنه دسَّ ما من شأنه أنْ يوحى إلى القارئ: دارَ الزمنُ، وانقلب الحالُ، وأمسى طه حسين هو «سيدنا»، الغليظ، الذى فى الكُتّاب! ثم يوردُ عيّاد لقاءً آخر له مع طه حسين، أو مواجهةً أخرى بالأحرى، بعد سنوات، حين علمَ طه بتحقيق شكرى لكتاب أرسطو «فن الشعر»، ضمن رسالته للدكتوراه.

وكان عبد الرحمن بدوى قد سَبَقَ إلى تحقيق هذا الكتاب تحقيقاً ضافياً، وكان شكرى منتبهاً إلى قيمة بدوى وقيمة عمله ويدرك منزلتَه الطيبة عند طه حسين، فلمّا سأله بلا مواربة: «أيهما أجود؛ عملك أم عمل بدوى؟»، أجابه شكرى بلا تردد: «عملى».

ويقول شكرى إنه، فى تلك اللحظة، لمحَ أمارةً أبداها طه حسين فاستبشرَ بها وفهمَ منها أن المرءَ يجدر به ألّا يضعف أمام أحبابه، ذلك أنهم إنْ كانوا يضمرون له الحب حقاً فإنهم سيريدونه قوياً، حتى إزاءهم. لكن ثمة استدراك آخر هنا؛ هل يمكن استساغة الوجه الآخر للرد على سؤال طه حسين؟ أيمكن، مثلاً، لمنْ يُسأَل، فى مثل هذا السياق: (عملك أفضل أم عمل فلان؟) أن يجيب: (عمل فلان)؟! أيحملُ هذا الردُّ تواضعاً؟ أيحملُ أمانةً وعدلاً؟ تدنياً وسخفاً؟ لستُ أظن أن رد شكرى كان منتمياً إلى «القوة» بل إلى اجتناب التدنِّى والسخافة؛ إذْ إنّ السويةَ الإنسانيةُ تتطلّب منه بالضرورة أنْ يجيب: «عملى»، وإلا لَكان طه حسين، أو غيره، سيفحمه: وما حاجتنا إذاً بعملك؟! 

 غبطتُّ صاحبَ هذا الكتاب على عنوانه الفاتح الأخّاذ، وفرحتُ حين تصفحته وقد آن الأوان لقراءته، وآملتُ أن به آفاقاً رحبة واستقصاءاتٍ روحية ومجاهَداتٍ عظيمة. يقول صاحب الكتاب، فى المتن، عنه: «إنه سيرة ذاتية، والله خسارة فيها الاسم»، ولعله قصَدَ التقليلَ من شأن كتابه بنفسه وهو يبتغى استباقَ رأيِ طائفةٍ من القُرّاء كيلا يمحقونه هم، غير أنى أراه مُحِقاً، والله. أمّا العنوان الرائع فخذله عيّادُ، بامتناعه أو باستتاره عن ذِكْر أية وقائع أو مواقف كان هو فيها، حقاً، على الحافة، فبات العنوانُ أكبر من كتابه، ويليق بغيره.

اقرأ أيضا | ثورة الفانيليا: رسائل من المطبخ