خواطر الأمام الشعراوي: اصطفاء الزمان فى رمضان

خواطر الامام الشعراوي:  اصطفاء الزمان فى رمضان
خواطر الامام الشعراوي: اصطفاء الزمان فى رمضان

«المؤمنون بقبولهم للإيمان إنما يكونون مع الحق فى التعاقد الإيمانى، وهو سبحانه لم يكتب الصيام على من لا يؤمن به؛ لأنه لا يدخل فى دائرة التعاقد الإيمانى وسيلقى سعيرا»

يقول الحق فى الآية 183 من سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
والحق سبحانه يبدأ هذه الآية الكريمة بترقيق الحكم الصادر بالتكليف القادم وهو الصيام فكأنه يقول: (يا من آمنتم بى وأحببتمونى لقد كتبت عليكم الصيام). وعندما يأتى الحكم ممن آمنت به فأنت تثق أنه يخصك بتكليف تأتى منه فائدة لك.

واضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى هب أنك تُخاطب ابنك فى أمر فيه مشقة، لكن نتائجه مفيدة، فأنت لا تقول له: (يا ابنى افعل كذا) لكنك تقول له: (يا بُنَيَّ افعل كذا) وكأنك تقول له: (يا صغيرى لا تأخذ العمل الذى أكلفك به بما فيه من مشقة بمقاييس عقلك غير الناضج، ولكن خذ هذا التكليف بمقاييس عقل وتجربة والدك).

والمؤمنون يأخذون خطاب الحق لهم «يا أيها الذين آمَنُواْ» بمقياس المحبة لكل ما يأتى منه سبحانه من تكليف حتى وإن كان فيه مشقة، والمؤمنون بقبولهم للإيمان إنما يكونون مع الحق فى التعاقد الإيمانى، وهو سبحانه لم يكتب الصيام على من لا يؤمن به؛ لأنه لا يدخل فى دائرة التعاقد الإيمانى وسيلقى سعيرا. والصيام هو لون من الإمساك؛ لأن معنى (صام) هو (أمسك) والحق يقول: «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولى إِنِّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً» «مريم: 26».


وهذا إمساك عن الكلام. إذن فالصوم معناه الإمساك، لكن الصوم التشريعى يعنى الصوم عن شهوتى البطن والفرج من الفجر وحتى الغروب. ومبدأ الصوم لا يختلف من زمن إلى آخر، فقد كان الصيام الركن التعبدى موجوداً فى الديانات.


السابقة على الإسلام، لكنه كان إما إمساكاً مطلقاً عن الطعام. وإما إمساكا عن ألوان معينة من الطعام كصيام النصارى، فالصيام إذن هو منهج لتربية الإنسان فى الأديان، وإن اختلفت الأيام عدداً، وإن اختلفت كيفية الصوم ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». ونعرف أن معنى التقوى هو أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية.

وأن نتقى بطش الله، ونتقى النار وهى من آثار صفات الجلال. وقوله الحق: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» أى أن نهذب ونشذب سلوكنا فنبتعد عن المعاصى، والمعاصى فى النفس إنما تنشأ من شره ماديتها إلى أمر ما. والصيام كما نعلم يضعف شره المادية وحدتها وتسلطها فى الجسد، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم للشباب المراهق وغيره: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).

وكأن الصوم يشذب شِرَّة المادية فى الجسم الشاب. وإن تقليل الطعام يعنى تقليل وقود المادة، فيقل السعار الذى يدفع الإنسان لارتكاب المعاصي. والصيام فى رمضان يعطى الإنسان الاستقامة لمدة شهر، ويلحظ الإنسان حلاوة الاستقامة فيستمر بها بعد رمضان.


والحق لا يطلب منك الاستقامة فى رمضان فقط، إنما هو سبحانه قد اصطفى رمضان كزمن تتدرب فيه على الاستقامة لتشيع من بعد ذلك فى كل حياتك؛ لأن اصطفاء الله لزمان أو اصطفاء الله لمكان أو لإنسان ليس لتدليل الزمان.

ولا لتدليل المكان، ولا لتدليل الإنسان، وإنما يريد الله من اصطفائه لرسول أن يشيع أثر اصطفاء الرسول فى كل الناس. ولذلك نجد تاريخ الرسل مليئا بالمشقة والتعب، وهذا دليل على أن مشقة الرسالة يتحملها الرسول وتعبها يقع عليه هو. فالله لم يصطفه ليدلـله.

وإنما اصطفاه ليجعله أسوة.. وكذلك يصطفى الله من الزمان أياما لا ليدللها على بقية الأزمنة، ولكن لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يشيع اصطفاء هذا الزمان فى كل الأزمنة، كاصطفائه لأيام رمضان.

والحق سبحانه وتعالى يصطفى الأمكنة ليشيع اصطفاؤها فى كل الأمكنة. وعندما نسمع من يقول: (زرت مكة والمدينة وذقت حلاوة الشفافية والإشراق والتنوير، ونسيت كل شيء). إن من يقول ذلك يظن أنه يمدح المكان.

وينسى أن المكان يفرح عندما يشيع اصطفاؤه فى بقية الأمكنة، فأنت إذا ذهبت إلى مكة لتزور البيت الحرام، وإذا ذهبت إلى المدينة لتزور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا تتذكر فى كل الأمكنة أن الله موجود فى كل الوجود، وأن قيامك بأركان الإسلام وسلوك الإسلام هو تقرب من الله ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اقرأ ايضا | وزير الأوقاف: حرمة الدول كحرمة البيوت لا يجوز دخولها بغير إذن