«كنوز وسط البلد».. في كل ركن قصة وفي كل زاوية حكاية

كنور وسط البلد
كنور وسط البلد

يسير ميشيل حنا في كل شوارع مصر تقريبًا، يلتقط الجمال ويوثقه بعينه وبعقله أولاً، ثم بالكاميرا. قد يلتقط قبحًا ويحوله إلى جمالٍ عن طريق حكاية تثير في النفوس حسرة على زمن كانت الدقة فيه هي العملة المتداولة، لا النادرة.

يعبر ميشيل الجبانات والقاهرة الفاطمية والخديوية، يتأمل المساجد والكنائس، يفحص مباني مصر الجديدة (القديمة)، يتعجب من طرز معمارية تستحق الخلود، ومن نقوش حفرها المصريون المحدثون على مبانيهم بدقةِ ومهارةِ أجدادهم القدماء، الذين نقشوا على جدران المعابد.

يتجول ميشيل بين الأماكن، لا يهمه إن كانت أثراً أم صارت بعد أثر. يلتقط تفصيلة صغيرة، يجعلها في رأسه كبيرة، يبحث عن أصلها وفصلها، فيجد الكثير، وما أكثر ما وجده ميشيل في طرق بحثه المستمرة، وما أكثر ما أوجده في كتابه الجديد «كنوز وسط البلد».

الكتاب - بصيغة أهل «الريفيو» - عبارة عن حكايات قصيرة تحكي قصصًا لصور اختارها ميشيل من بين مقتنياته، ليقدم وجبة تاريخية معمارية جمالية «مختصرة»، ولكنها في نفس الوقت متعددة، لأماكن وطرز بنائية متنوعة، تنوع المزيج الثقافي لمنطقة وسط القاهرة، والتي يطلق المصريون عليها «وسط البلد».

ميشيل حنا لا يدعي في كتابه أنه يقدم تاريخا شاملا أو متسلسلا لمنطقة «وسط البلد»، بل إنه حاول - كما يقول في مقدمته - أن يلتقط لمحات من هنا وهناك، يلتقط الفتات المنسي والساقط من موائد التاريخ، ومن بين هذه اللمحات والفتات مثلاً هذا المبنى الضخم والموجود في تقاطع شارعي شريف ومظلوم أمام الفرع الرئيسي للبنك الأهلي المصري، ومكتوب على واجهته بالبونط العريض كلمة «ADRIATICA RIUNIONE»، وقصة هذا المبنى مثلما ذكر ميشيل أنه أنشيء سنة 1928 ليكون مقرًا لشركة «الاتحاد الأدرياتيكي للتأمين الإيطالية» في مصر، وقد صممه المعماري الإيطالي فلوريستانو دي فوستو، وهو لم يعد كذلك بالطبع اليوم، بعدما بيعت الشركة الأم إلى شركة إليانز الألمانية الشهيرة.

من المنسيات أيضا حكاية هذا المبنى الجميل الموجود في تقاطع شارعي قصر النيل والبستان، والمكتوب عليه «النادي الدبلوماسي»، فهو لم يكن كذلك قبل 1982، حينما قررت الدولة ضمه إلى وزارة الخارجية، وإطلاق عليه هذا الاسم، ليكون ناديا يضم الأكابر من الوزراء والدبلوماسيين. المدهش أنه لم يكن اسمه كذلك قبل 1982، بل كان اسمه «نادي التحرير» وصاحب هذه التسمية رجال ثورة يوليو، أما الأكثر دهشة فهو تسمية المبنى الأولى والتي رافقته منذ نشأته في 1908 وهي «كلوب محمد علي». نعم، هذا كان «كلوب محمد علي» الذي كان الأمير أحمد فؤاد هو رئيسه الأول، بينما كان مصممه هو ألكساندر مارسيل، مصمم قصر البارون وكنيسة البازيليك في مصر الجديدة. وقد أقيم هذا النادي أو «الكلوب» مكان فيلا عبدالقادر حلمي باشا، الذي تولى عدة وزارات في القرن التاسع عشر.

في ميدان مصطفى كامل عمارة شهيرة التقط جذورها الكاتب بدقة وإحساس بالمكان والتاريخ، وهي العمارة التي كانت تحمل اللون الأحمر فيما قبل «التجديد» الأخير لطلاء المباني. وهي عمارة «سوارس». هنا يلتقط ميشيل حكاية رحل الأعمال الخواجة رفائيل سوارس صاحب إحدى أوائل شركات نقل الركاب في مصر، وهو صاحب العمارة كذلك، بل كان اسم الميدان هو ميدان سوارس قبل نقل تمثال مصطفى كامل إليه، وتسميته به. يلتقط ميشيل تلك الحكاية ويداعب بها الخيال السمعي والبصري للقراء لتذكيرهم بجملة «السوارس صدمتني يا سي السيد» في إشارة للجملة التي قالتها الست أمينة لأحمد عبدالجواد في فيلم «بين القصرين».

ليست المباني فقط ما يلفت انتباه ميشيل حنا، كما وضح في قصة «عمارة سوارس» بل كل ما هو يمتلك حكاية، مثل حكاية إعلاني «ويسكي بسليري فيرو تشاينا» الإيطالي و«كونياك ريمي» الفرنسي الشهير، الملصقين بطول إحدى العمارات الجانبية بشارع شريف، وقد كان هذين الملصقين ينتميان إلى زمن ما قبل 1976 بعدما أصدرت الدولة قانون حظر شرب الخمور، وكذلك قد نصت إحدى مواده بسجن أو حبس المسؤول عن شرب أو الدعاية للخمور.

وجوه غاضبة على العمارات، وأخرى طيبة، مساجد بنيت في أوائل القرن العشرين وأواخر سابقه، كنائس عتيقة، نحت ونقوش على الأبواب، وفنادق تهدمت لتخرج من رحمها مسوخ. كل ذلك رصده ميشيل، في كتاب يمزج بين الدقة والمهارة الكتابية، مثلما ذكر الكاتب يحيى وجدي في مقدمته للكتاب، وإن كنت أرى أن الحكايات كانت في حاجة إلى مزيد من الكتابة والقصص، فهي تستحق.