الأزمة «الروسية - الأوكرانية».. أصوات منسية فى زمـــن الحرب

لاجئون يبكون عند معبر ميديكا فى بولندا
لاجئون يبكون عند معبر ميديكا فى بولندا

كتبت: دينا توفيق

تئن الشعوب من ويلات الحروب.. تصرخ وتتألم.. تروَّع من دوى المدافع وتهرع إلى الملاجئ الآمنة؛ تحتمى من وابل الرصاص والقذائف.. تترك مسكنها وتودع الأحباب، وتجوب التساؤلات هل من عودة ولقاء مرة أخرى، هل من نجاة أم هلاك.. إصابات وقتلى؛ فقدان للابن والزوج العائل والسند.. دمار وانهيار تتعرض له وتدفع الثمن اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا ومن ثم العالم بأسره.. وهناك الماكثون فى الغرف المغلقة؛ يتحكمون ويحكمون يديرون الصراع ويتخذون قرار الحرب، لا يعبأون بما سيحدث للأطفال والشيوخ، النساء والشباب.. دوافع سياسية وإعلاء مصالح الساسة، تتصارع القوى الكبرى من أجل الهيمنة وقيادة عالم مقابل دهس الإنسانية وصم الأذن عن صراخ طفل وبكاء أم وإبادة أب..

هكذا هو الحال فى أوكرانيا، الآن وقبل ذلك منذ ما يقرب من عقد، تعيش البلاد حالة من عدم الاستقرار منذ سنوات، تفتقد العائلات إلى الأمن والأمان.. دائمًا فى حالة تأهب وفزع، لم يغفُ سكان شرق البلاد خوفًا من البطش والإبادة التى تلاحقهم، هؤلاء الناطقون باللغة الروسية تشن ضدهم الوحدات المسلحة الأوكرانية هجمات عسكرية تفتك بهم ولا ترتد إلا وهم قتلى ولا تفرق بين أبرياء وغاشمين، عندما تعلو أصوات العدوان فلا يرى المدنيون.. لم تذكر وسائل الإعلام الغربية أن هؤلاء السكان فى شرق أوكرانيا بإقليم دونباس الذى يشمل مقاطعتى "دونيتسك ولوهانسك"، كانوا يستغيثون بالرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" لإرسال قوات لإنقاذهم من حكومة "كييف" المدعومة من الولايات المتحدة، بعد الجرائم التى ارتُكبت فى حق النساء والأطفال طيلة ثمانى سنوات وبات الغرب متواطئًا معها، وفقًا لمجلة covert action الأمريكية.

الجرائم القديمة

شنت القوات الروسية "عمليات عسكرية خاصة" فى أوكرانيا صباح الخميس الماضي، بما فى ذلك هجمات بصواريخ كروز وباليستية استهدفت البنية التحتية بالقرب من المدن الرئيسية مثل كييف وخاركيف وماريوبول ودنيبرو، بحسب تقارير إعلامية غربية. وأوضح الرئيس الروسى قائلًا إنه لم يكن ينوى القيام بمثل هذه الخطوة ولكنه أراد "نزع سلاح أوكرانيا، وإبقاءها على الحياد". فيما أعلن الرئيس الأمريكى "جو بايدن" فى بيان مكتوب قال فيه إن روسيا قد اختارت "حربًا متعمدة ستؤدى إلى خسائر فادحة فى الأرواح ومعاناة بشرية"، مضيفًا أن "الولايات المتحدة وحلفاءها وشركاءها سيردون بطريقة موحدة وحاسمة. وسيحاسب العالم روسيا". أيًا كان المسئول ومن المعتدى ومن المعتدى عليه يظل الشعب الأوكرانى هو من يدفع الثمن باهظًا، ومع فرض عقوبات على روسيا سيئن كذلك الروس شعبًا ومن ثم الاقتصاد العالمى الذى يتعافى بعد جائحة كوفيد-19.

عندما شنت روسيا هجومًا على أوكرانيا، كان الصراع قد دخل عامه الثامن؛ وقُتل آلاف الأوكرانيين نتيجة ضربات عشوائية واسعة النطاق للجيش الأوكرانى منذ أن استولت القوات الروسية على القرم فى 2014 ودعمت حركة انفصالية فى الشرق؛ وكانت المدن ذات الكثافة السكانية العالية الأكثر تضررا مثل بيرفومايسك وكيروفسك وسلافيانوسربسك. وفى سياق الأزمة الحالية، يبدو أن آراء أكثر من 40 مليون أوكرانى لا تهم أحدا. من المؤكد أن أراضيهم مهمة، لأنه يُنظر إليها على أنها موضوع منافسة القوى العظمى، ولكن بعيدًا عن التدفق المستمر لقصص الإنسانية ومعاناة المدنيين فى وسائل الإعلام لإثارة الشفقة على ضحايا الحرب، يظل صوت الأوكرانيين غير مسموع. غالبًا ما تفتقد عناوين الصحف أصوات الأوكرانيين الذين عاشوا مع هذه التهديدات منذ عام 2014، وإطلاق النيران وقذائف الهاون التى ألحقت أضرارًا بالمستشفيات والمدارس بالإضافة إلى قطع المياه والكهرباء والاتصالات ومنع وصول الإمدادات من السلع الغذائية.

وعلى مدى السنوات الثمانى الماضية، وبالتحديد فى فبراير 2014، دعمت الولايات المتحدة الإطاحة بالرئيس الأوكرانى الموالى لروسيا "فيكتور يانولوفيتش" بعد أن رفض قرضًا من صندوق النقد الدولى جاء بشروط ضارة بأوكرانيا، ووافق على عرض موسكو 15 مليار دولار لإنقاذ بلاده. ومنذ ذلك الحين، قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية وتدريبات مكثفة للقوات المسلحة الأوكرانية لأنها تعاملت بوحشية مع شعب شرق أوكرانيا الذى صوّت لصالح الانفصال بعد أحداث 2014. كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات واسعة النطاق على روسيا، ترقى إلى مستوى العمل الحربى. إن ادعاء بايدن بأن الغزو الروسى كان غير مبرر يقوِّضه حقيقة أن أوكرانيا عجّلت الحرب بمهاجمة المقاطعات الشرقية الانفصالية فى انتهاك لاتفاقات مينسك للسلام. فيما أفادت روسيا أنها أسرت جنديًا أوكرانيًا وقتلت خمسة آخرين بعد أن عبروا الحدود إلى الأراضى الروسية فى "روستوف" المدينة الاستراتيجية على الحدود مع "لوجانسك ودونيتسك" المنفصلتين عن أوكرانيا. كما ورد أن عدة مئات من العناصر الأمريكية وصلوا إلى أوكرانيا الأسبوع الماضي.

وقدم المصور الصحفى الأمريكى "باتريك لانكستر" أدلة على قصف الجيش الأوكرانى مدرسة فى دونباس فى وقت سابق من هذا الأسبوع. كانت ساشا، 12 عامًا، وشقيقها الأكبر، سيرجي، 16 عامًا، فى طريقهما إلى ممارسة كرة القدم فى أوائل فبراير عندما سمعا إطلاق نار من أسلحة آلية بالقرب من منزلهما. يعانى مئات الآلاف من الأطفال الأوكرانيين من القصف وإطلاق النار والصدمات النفسية. تقرير لانكستر مدعوم بخرائط منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا  (OSCE)، التى تظهر أن عمليات القصف التى تنتهك وقف إطلاق النار قد نُفذت من قبل الحكومة الأوكرانية برئاسة "فولوديمير زيلينسكي".

متى يأتى بوتين؟

وتروى إحدى سكان حى "كييفسكي" فى مدينة دونيتسك وتدعى "زويا تومانوفا"، شهادتها على ما يحدث، التى وثقها لانكستر قائلة إن الأوكرانيين قصفوا قريتها كثيرًا منذ عام 2015 وأحرقوا نصفها. وسألت لانكستر، متى سينتهي، ومتى يأتى بوتين لينقذنا؟ وجهة نظر تومانوفا غائبة تمامًا عن وسائل الإعلام الأمريكية؛ إنها تتناقض مع الرواية الرسمية التى تصف بوتين بالمعتدي، إلا أنها تترك انطباعًا بأن شعب شرق أوكرانيا يريد من بوتين إرسال قوات روسية لإنقاذهم من المعتدين الحقيقيين. فيما أوضحت معلمة الصف الثانى فى مدرسة "دونيتسك" التى تعرضت للقصف، "ماروسينا لودميلا"، للانكستر أنها تعلم أن الجيش الأوكرانى هو من يقف وراء ما يحدث لأنهم "لم يسمحوا لنا بالعيش لمدة ثمانى سنوات؛ لقد كانوا يقصفوننا باستمرار". ولدى سؤالها عما إذا كان الرئيس الأوكرانى يقول الحقيقة عندما قال إن أوكرانيا لم تطلق النار على المدنيين، قالت "إنهم دائما يكذبون، نحن نعلم أنهم يقصفون لأن لا أحد يستطيع غيرهم، على الرغم من أننى لا أعرف كيف يمكنهم فعل ذلك فى شعبهم".

ومنذ سنوات، كانت الحكومة اليمينية فى أوكرانيا، بدعم من الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى، فى حالة حرب مع شعوب "دونيتسك ولوجانسك" المستقلتين. يعيش السكان تحت حصار عسكرى وحشى تفرضه أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون. ووفقًا للأمم المتحدة إن نحو 14 ألف شخص قُتلوا. ومنذ يناير، عززت أوكرانيا قواتها العسكرية على خط المواجهة، مع استخدامها أسلحة محظورة، تستهدف المدنيين والمدارس والمنازل فى انتهاك للقانون الدولى واتفاقيات وقف إطلاق النار الإقليمية، بحسب صحيفة "مورنينج ستار" البريطانية. وفى الوقت نفسه، يعانى العمال فى جميع أنحاء أوكرانيا من القمع والبطالة وارتفاع الأسعار بينما تبيع حكومتهم موارد البلاد إلى وول ستريت. يعتبر الأطفال وكبار السن وغيرهم من المدنيين فى دونيتسك ولوجانسك أهدافًا يمكن استخدامها من قبل كييف وواشنطن أثناء محاولتهم إثارة أزمة وإبقاؤهم ذريعة لتعزيز التوسع العسكرى للناتو ومعاقبة روسيا.

حجب الحقائق!

لقد فرض النظام الغربى بقيادة الولايات المتحدة والنظام فى كييف رقابة على معظم التقارير الإخبارية حول الفظائع التى ارتكبها جيش كييف، فلم تكن هناك أى فرصة على الإطلاق أن تكون الأخبار العادية يمكن للمتابع فى الغرب الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة أن يكون لديه أى معرفة بها. فيما أن كييف كانت تهاجم باستمرار المدنيين الأبرياء فى تلك المنطقة منذ عام 2014. خدمت هذه الرقابة الغرض الخبيث المتمثل فى جعل الجمهور الغربى يعتقد أن روسيا هى مصدر كل العلل فى أوكرانيا وأن الولايات المتحدة كانت "تدعم" أوكرانيا. هذا على الرغم من حقيقة أنه بعد عام من الغزو الأمريكى لساحة الميدان فى كييف عام 2014، تراجعت إلى المرتبة الأخيرة فى الناتج المحلى الإجمالى، لتصبح أفقر دولة فى أوروبا. ضغطت الولايات المتحدة على أنظمة كييف المتعاقبة لإلغاء جميع عقود الأعمال التجارية المربحة القديمة مع روسيا وإغلاق المصانع التى بناها الاتحاد السوفيتى تدريجيًا، مما جعل أوكرانيا فريسة لديون صندوق النقد الدولى، وبات وضعا دائما. وتريد إدارة الرئيس بايدن الحرب فى أوكرانيا، على الرغم من أنه ليس من مصلحة كييف تصعيد الهجمات الأوكرانية على المدنيين.

سعت صحيفة "الجارديان" البريطانية، إلى محاولة التقرب من السكان فى أوكرانيا لمعرفة المزيد عن الأحداث الجارية فى البلاد، تجلس "آنا فاسيليفنا" 84 عامًا، فى منزلها مع كلبها "دول"، فى "نيفيلسك" الأوكرانية. وتحصل على معاش تقاعدى قدره 100 يورو شهريًا وتعيش مع ابنها "سيرهي" 56 عامًا ويعانى من إعاقة. لقد عاشا بدون ماء أو غاز أو كهرباء لمدة ثمانى سنوات، أصيبت ثلاث مرات وفقدت بصرها جزئيًا.

أمريكيون فى أوكرانيا

وعلى الرغم من تهديد الحرب، فإن بعض الأمريكيين فى أوكرانيا باقون فى أماكنهم ولا يريدون المغادرة بحسب تصريحاتهم إلى الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية. ويقدر عدد الأمريكيين الذين يعيشون فى أوكرانيا بنحو 20 إلى 30 ألف أمريكى، غادر عددٌ منهم لكن البعض يقول إنهم سيبقون حتى لو اندلعت الحرب؛ مثل الأمريكى أخصائى بصريات من مونتكلير، نيوجيرسى "جيمس بيرك" يعيش الآن فى العاصمة الأوكرانية كييف مع زوجته الأوكرانية آنا وابنتهما المولودة حديثًا صوفى.

من بين الباقين "كاثرين كوين"، التى أمضت السنوات العديدة الماضية فى تحليل الوضع الأمنى فى أوكرانيا لمراكز الفكر؛ تراقب عن كثب الصراع الحالى فى شرق أوكرانيا. وقالت "على مدى السنوات الأربع الماضية أو نحو ذلك، كنت أعيش وأتنفس هذه الحرب، وسأشعر بالفزع حقًا إذا غادرت، إذا شاهدت المدينة التى كنت أعيش فيها تتعرض للقصف واضطررت إلى التفكير فى جيرانى وكل شيء، أفضل البقاء وأرى ما سيحدث". وتضيف كوين "إن سكان كييف يزدادون قلقًا، لكنهم ما زالوا يعيشون حياتهم." فيما تعانى لاريسا البالغة من العمر 65 عاماً من مرض السرطان ومن ويلات الحرب المستمرة منذ ثمانى سنوات ومن التهديد بغزو روسي، لكنها تتعايش مع كل ذلك بشيء من الصبر وحس الدعابة. وعلى مدى السنوات الثمانى الماضية، كنا فى الواقع نخوض حربًا، هذا الحجم الحالى الذى ظهر فى الأشهر الأخيرة، لم يكن شيئًا أوصلنا من فراغ؛ قالت ماريا زيتس، خبيرة الاتصالات والدبلوماسية العامة وخريجة شبكة مصممى السياسات. تجلس ماريا بشكل مريح أمام رف الكتب، وتتحدث بهدوء ونعومة أمام الكاميرا، لكن كلماتها تحمل جوًا من الاقتناع. على الرغم من أنها تصف نفسها بأنها "ليست شخصًا صريحًا"، إلا أن ذلك ليس واضحًا أثناء الاستماع. إن رواية قصة ماريا، التى وُلدت وترعرعت وتعيش حاليًا فى كييف، يعنى التحدث عن قوتها ومرونتها. قصتها ، مثل قصص الكثير من الأوكرانيين الآخرين، مفعمة بالأمل مدفوعة بالتضامن بين مواطنيها. والآن، ينام الأوكرانيين فى ساحة انتظار سيارات تحت الأرض فى فندق تم تحويله إلى ملجأ من القنابل أثناء إنذار من غارة جوية فى كييف. فيما تجمع الناس للحاق بقطار ومغادرة أوكرانيا إلى البلدان المجاورة فى محطة السكك الحديدية فى لفيف.

لقد خلقت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسى هذه الأزمة لأنهما تخلوا عن المطالب المعقولة للاتحاد الروسى فى مسودتى معاهدتين تم تقديمهما فى 21 ديسمبر 2021. كان أحد المطالب الرئيسية هو أن تكون أوكرانيا محايدة وتعهد ملزم بأنها لن تنضم إلى الناتو أبدًا. من جانبه، رفض الرئيس زيلينسكى بروتوكــــولات مينسك، وبات الأشخاص الناطقون بالروسية فى دونباس وحدهم يعانون من الهجوم العسكرى المتزايد من قبل الحكومة الأوكرانية، المليئة بالأحزاب النازية الجديدة، التى تحفزها الأسلحة والأموال الغربية.