مصر الجديدة:

الرضا والنسيان

إبراهيم عبدالمجيد
إبراهيم عبدالمجيد

آفة حارتنا النسيان..

جملة نجيب محفوظ الشهيرة فى رواية الحرافيش وجدت لها مكانا كبيرا فى التعليق على كثير من القضايا الاجتماعية.

بدت الجملة دائما إدانة للحارة وأهل الحارة.

لكن للنسيان جانب آخر ربما كان هو أهم جوانبه، وهو الحفاظ على عقل وروح الإنسان.

تخيل لو أن شخصا فجأة راح يتذكر كل ما جرى له ورآه متتابعا كأنه المطر، هل سيتحمل مخه وروحه. ستنفجر رأسه.

وبالمناسبة هذه قصة قصيرة قرأتها زمان لكاتب روسى نسيت اسمه!. النسيان يعنى بداية جديدة ولا يعنى خيانة أو تقصيرا.

هو الظاهرة التى تُعين الإنسان على البقاء، فكل منا يعرف أن ما يقابله فى الحياة من شرور أكثر مما يقابله من خير. ليس مهما أن تكون الشرور موجهة إليك، لكن مهم أن لا تراها تحدث للآخرين أو تعرف عنها شيئا.

حظ الجيل الجديد أسوأ من حظنا لأن كل الأخبار السيئة تصل إليه لحظة وقوعها صوتا وصورة، بينما كنا ننتظر اليوم التالى لنعرف شيئا عما يجرى فى البلاد، لذلك يحتاج هذا الجيل إلى قوة أكبر لينسي.

والحقيقة أنه يفعل ذلك فينشغل بأعمال أخري، لكن تتجسد الأزمة عند جيلنا نحن الذى لم يكن يتوقع أن تهاجمه الحياة بكل هذه الأخبار وقد تقدم فى العمر.

التقدم فى العمر قرين النسيان لكن من زاوية أخرى. التقدم فى العمر يعنى الرضا.

نادرا ما تجد متقدما فى العمر حانقا أو غير راضٍ. لا يتوقف ذلك على أتباع دين بعينه، لكنه يحدث مع الناس من كل الأديان.

والسبب أن الانسان أدرك منذ ظهر على الأرض وصارت له جماعة، أنه راحل ولن يبقى أحد!


وأنه لا نجاة من الموت إلا أن يأتى فى غيابه! السخط والحنق على الرحيل لن يأتى بنتيجة إلا فى الروايات.

أجل يمكن أن تتخيل رواية لا يموت فيها الناس، لكن المهم أن لا يموت أىّ أحد فتتعذب بموت الآخرين من الأحباء كما فعل جابرييل جارثيا ماركيز فى روايته.

مؤكد أن الرضا فى بداية الانسانية لم يكن بحجمه الآن.

كان الموت مثلا سببا للدهشة والحيرة حتى أدركوا أن الميت راحل إلى مكان آخر، أما الآن فهو أمر عادى جدا مهما واكبته من أحزان.

الرضا قرين التقدم فى العمر أكثر.

النسيان ليس قرارا من الإنسان لكنه أضاف إليه الرضا. تحمد الله على نعمة النسيان دائما فلست أنت صانعها، وتضيف إليه الرضا حتى ولو متأخرا، فالسخط يحيى الذاكرة السيئة.

أسئلة كبيرة يمكن أن تقفز وتسبب السخط مثل الأمراض التى تهاجم كبار السن بلا رحمة، وقد تجتمع معا على شخص واحد، لكن إذا توفرت لك المسكنات من الألم ستجد نفسك راضيا، بل وتريد من الله أن يرفعك إليه فى السماء، بينما كل من حولك يتمنون لك الشفاء.

لقد شفاك النسيان من الكثير وتريد نسيان الباقى!.