تعرف على رحلة الحياة فى قطار الغلابة!

قطار الغلابة
قطار الغلابة

كتب: هانئ مباشر

القطار هو طبعة مختصرة من الحياة، أو هو الحياة نفسها، ففى القطار يمكن أن ترى الحياة بكل تفاصيلها، خصوصاً لمن تفرض طبيعة حياته أن يقضى أغلب وقته مسافراً عبره، سترى فيه وعلى أرصفة محطاته كل الوجوه والأنماط الإنسانية، وتدخل فى علاقات وتشابكات لا حصر لها، أياً كانت طبيعة شخصيتك، وحتى لو كنت شخصاً يؤثر العزلة، أو لا يفضل إقامة حوار مع الآخر بسهولة، فإنك فى هذا الحيز لست حراً تماماً فى أن تفعل فقط ما توده.
 

فى تمام الساعة الثامنة صباحاً، تتعلق أذن رواد محطة السكة الحديد بمدينة الزقازيق فى انتظار سماع صوت إبراهيم زرد، ناظر المحطة وهو يعلن بلغة عربية سليمة مثل أفضل مذيع فى الراديو، ويكاد يكون الوحيد بين كل نظار محطات القطار الذى ينطق هكذا، عن قرب وصول القطار المتجه إلى القاهرة:-
(السادة الركاب المتجهون إلى القاهرة، نود أن نحيط سيادتكم علما، قطار 952 والمتجه إلى القاهرة يصل بعد 7 دقائق، ويقف فى محطات مراكز... و... و... وينتهى فى القاهرة، مع تمنياتنا لكم بسلامة الوصول).

يبدأ المسافرون الرابضون على الرصيف رقم 4 فى جمع أمتعتهم استعداداً لركوب القطار وبعضهم يخاطر وينزل ليقف بجوار القضبان لركوب القطار من الأبواب العكسية فور وصوله لضمان الحصول على مقعد داخل إحدى العربات المميزة.


رجال وشباب ونساء وأطفال وشيوخ.. الكل يهرول ناحية القطار فور وصوله، والكل يتزاحم - فى خناقة يومية اعتاد عليها الجميع -  ما بين من يريد ركوب القطار وبين من هم كانوا فى القطار قادمين من مدن القناة والشرقية ويرغبون فى النزول فى محطة الزقازيق.. وتحدث جلبة داخل جميع عربات القطار بل ومشاجرات خفيفة للحصول على مقعد فارغ، ثم تهدأ الأمور مع تحرك القطار ليستكمل بقية رحلته.

وتبدأ حكايات قطار الغلابة.. البعض من محترفى السفر اليومى - خاصة من الموظفين - يقومون بإخراج كراسى من حقائبهم، أشبه بتلك التى يستخدمها هواة الصيد للجلوس عليها لكنها صغيرة جداً ومصنوعة من المعدن أو من قطعتين من الخشب يتم تركيبهما بطريقة العاشق والمعشوق، ويجلسون عليها فى الممرات بين مقاعد القطار، فيما يفضل آخرون خاصة الشباب من الطلبة والمجندين الوقوف أو افتراش المساحة الفارغة بجوار أبواب العربات أو فى الفواصل بين العربات، وأحياناً حمّامات العربات التى لا تعمل، ليتمكنوا من التدخين دون أن يعارضهم أحد ويتبادلون الأحاديث مع بعضهم البعض وكأنهم فى عالم آخر.


وهناك عالم آخر من ركاب القطارات يثير الدهشة ويستحق التأمل، ويمثله هؤلاء الذين ما إن يستقلوا القطار حتى تجدهم فى لحظات قفزوا وصعدوا للجلوس على "الشبكة" الموجودة أعلى الكراسى ومخصصة لوضع الحقائب، وهى مساحة ضيقة لا يتجاوز عرضها 50 سنتيمتراً مصنوعة من المعدن، ورغم ذلك فإن هذه النوعية من الركاب ما إن يصعدوا و"يتكوّموا" على الشبكة ويجعلوا من حقائب الركاب "وسادة رأس" حتى يغطوا فى نوم عميق فوراً ولا يعبأون بكل ما يحدث تحتهم، والأغرب أنهم لا يقومون من نومهم إلا فى محطة الوصول النهائية، كما أنهم لا يجلسون على المقاعد حتى لو كانت فارغة!

ومع تحرك القطار وخروجه من محطة الزقازيق.. وبعد أن يأخذ الكل نصيبه من العربات، إما بالجلوس أيًا كان شكل ذلك الجلوس أو حتى الوقوف انتظاراً لخلو كرسى فى المحطة القادمة، يبدأ أول الأبطال الدائمين فى قطار الغلابة فى الظهور..


(شااااي.. ينسووووون.. نسكافيه.. كوفى ميكس).. إنه سيد، أشهر بائع للشاى على خط قطارات "الزقازيق ـ  بنها"، وهو شاب فى منتصف الثلاثينيات من عمره، وبشكل عجيب يحمل فى إحدى يديه صينية معدنية عليها عشرات الأكواب والسكر والشاى بأنواعه السايب والباكيت وأكياس الينسون والكوفى ميكس، وفى اليد الأخرى يحمل "كولمان" مياه كبيرا ممتلئا بالماء الساخن، وبقدرة غريبة عجيبة ورغم هذا الحمل الثقيل وبجسمه شبه الممتلئ يمر بسهولة بين زحام الركاب، مثلما تمرق السكين فى الزبدة، وإن كان الأمر لا يخلو أحيانا من مناوشات قصيرة مع الركاب من محدثى ركوب القطارات، أما معتادو الركوب فإن سيد يعد جزءاً من تفاصيل رحلتهم وربما بينهم "عِشرة عمر"!

يمر القطار سريعاً من جوار "قرية الزنكلون"، ولا يتوف بها فهو "قطار مراكز" وليس "قطار قشاش" يقف فى المدن الكبرى فقط.


- يا سيد، هو انت مش بتشوف عم حسين أبو فارس اللى من "الزنكلون" أصل بقاله فترة مش بيركب القطار؟

- يا باشا.. دا طلع معاش بقاله كام شهر.

بحكم طبيعة عمله كبائع للشاى فى القطارات منذ أن بدأ ممارسة هذه المهنة وهو صغير جداً، قبل نحو 20 عاماً استطاع سيد تكوين علاقات صداقة مع ركاب كثيرين لدرجة أنه تعرّف على بعضهم وهم طلبة ثم وهم مجندون وموظفون.. إلخ، بل وأصبح يعرف من سيصعد وينزل من القطار فى المحطة التالية!

ينادى على فتاة - فى الغالب طالبة جامعية - تقف فى الممر وسط الزحام: "يا آنسة، تعالى أقفى فى المربع اللى جنب الباب، فيه راكب نازل المحطة اللى جاية"..

ولا يتجاوز سعر كوب الشاى 2 جنيه، لكنه قد يصبح بداية لتعارف قد يتحول إلى واحدة من صداقات العمر، فما إن يقوم سيد بصب كوب شاى لأحد الركاب حتى يقوم الراكب بعزومة جادة وبإلحاح شديد على من يجلسون بجواره فى "المربع" لشربها، والمربع هو كل 4 كراسى بجوار كل نافذة.


وهكذا هى البداية لواحدة من عادات المصريين التى أصبحت جزءاً من ثقافة ركاب المواصلات العامة، وخاصة القطارات، هكذا يقول مجدى العربي، المدير بإحدى شركات توزيع الأغذية، وطبيعة عمله تعتمد على استخدام القطار فى سفره لمختلف المدن والقرى لتسويق بضاعته، ويضيف: "لا يتركك من عزمك على كوب الشاى إلا بعد أن ينتهى الأمر بالتعارف، إذ يبدأ بمعرفة اسمك واسم بلدتك وعملك وانتهاءً بتفاصيل حياتك الأسرية وتفاصيل أخرى، هذا إن أكملتم الرحلة سوياً لآخر محطة سيقف بها القطار".

يزيد من حجم هذه الصداقة الغريبة، أن تكونا من محطتين مختلفتين ومن معتادى السفر اليومي، حيث سيكون من بين بنود تلك الصداقة الواجبة أن من يركب القطار أولاً عليه أن يحجز مقعداً مع دخول القطار إلى محطة صديقه، علما بأنه لا يوجد حجز للمقاعد فى العربات المميزة.


المثير للدهشة أن هناك "مربعات" لا يجلس فيها إلا مجموعة محددة لا تتغير ويجمعهم رابط الوظيفة الواحدة أو أنهم من بلدة واحدة، وربما شلة أصدقاء جمع بينهم السفر الدائم  وهم خليط من كافة الوظائف وينتمون إلى أكثر من بلد، كلهم يركضون وراء لقمة عيشهم وجمع بينهم السفر شبه اليومي، ومع الأيام تحولت الأمور إلى صداقة بكل معانيها المختلفة، وصلت إلى حد مشاركة بعضهم البعض فى مختلف المناسبات الاجتماعية الخاصة بهم.


"أفضِّل السفر فى الدرجة الأفضل المتاحة حتى الآن من الزقازيق حيث أقيم، إلى القاهرة حيث أعمل، وهى الدرجة الثانية المكيفة"، هكذا يبدأ حكى هشام محمود، المذيع والمعد فى التلفزيون المصري، ويسترسل: "أحياناً قد أضطر للسفر عبر درجة أقل، إذا لم أستطع الحجز فى الوقت المناسب، أو كان موعد سفرى فى قطار لا تتوافر به هذه الدرجة، وعموماً الفارق بسيط بين الدرجتين، والمسألة لا تعدو أكثر من اختلاف فقط فى نسبة ما يمكن أن تراه وتعيشه بين الدرجتين من اختلافات، ففى كلتيهما هناك زحام وضوضاء وباعة جائلون، وإن اختلفت النسبة".


يتابع: "أما ساعات السفر التى تتحلل فيها من كل هذه الأجواء الخارجية المحيطة، ولو بدرجة ما، رغبة فى أن تنجز شيئا، بحيث لا تبدو هذه الأوقات مهدرة بلا مجدية، فستنجح حسب ما تريد وتستطيع، فى استغلالها قراءةً وكتابةً وسماعاً إلى موسيقى ومشاهدة أفلام قمت بتحميلها على هاتفك، لتكون زاداً لك خلال ساعات السفر، ومن واقع ما حدث معى بالفعل، فما أكثر ما قرأت وكتبت من قصائد وأنجزت من أعمال فى القطار، والأكثر من هذا فإن بعض التفاصيل المتعلقة بالقطار والسفر وجدت لها حضورا فى كتابتي".

وإذا كان الفيلم التلفزيونى الفكرة البسيطة "أنا وأنت وساعات السفر" دارت أغلب أحداثه فى قطار، ولعب على فكرة قصة الحب غير المتحقق التى تجاوزها قطار الحياة الذى لا يتوقف، فإن أحداثاً كثيرة يمكن أن تشهدها أيضاً فى قطار.


هنا تستطيع أيضاً أن تتأمل فضاء مفتوحاً يتيحه النظر عبر نوافذه، فهذه الفكرة فى ذاتها تبدو ملهمة وقادرة على أن تتحمل بدلالات كثيرة ربما تكون مغرية لشاعر، ستتأمل اتساع الحقول التى تشقها الترع، وتتمنى لو أنك غيّرت طقسك اليومى وجلست على شاطئ ترعة تصيد سمكا، أو تجلس بين مجموعة من المزارعين أو عمال الحقول، وتشاركهم طعامهم البسيط، والمشتهى بالنسبة لك، تخفُّفا من ثقل الطقوس اليومية، بالنظر إلى أن أمر ممارسة نفس الطقوس كل يوم، شيء شديد الوطأة، تحتاج إلى أن تكسره بجلسة على الأرض تحت أشعة الشمس الدافئة، فى ظل شجرة توت.


وهذا ما يفعله أحمد مبدى، كبير مذيعى إذاعة صوت العرب، الذى قطع تأمله فضولنا فقال: "القطار شهد الحلو والمر فى مشوار الحياة والعمل على مدى 30 عاما، وهذه الأيام القطار هو رفيق رحلاتى إلى القاهرة  للذهاب إلى معهد ناصر لإجراء عملية قلب مفتوح فالقلب أُنهك تعباً".
وفى القطار ستبدو لحظات الضعف الإنسانى أكثر إشعاعا منها فى أى حيز آخر، فما أشد هذا الضعف الذى تتقاسمه مع بشر تلتقيهم لمرة عابرة، لكنك ستعيش معهم هذا الضعف بكل حواسك ومشاعرك، كأن تقتحمك نظرات طفل يتوجه به أبوه بمواعيد ثابتة لتلقى علاج ما، وربما يتوقف قلبك إذا غاب يوما، خشية أن يكون قد أصابه مكروه، وقد تتقاسم حالة من التوتر والقلق الشديد مع طالب فى مقتبل العمر، يتوجه لأداء امتحان، ويخشى تأخر القطار لأى سبب.


فى رحلة القطار يمكن أن ترى مصر بكل تفاصيلها وبمنتهى السهولة واليسر وبأقل مجهود، بداية من شكل القطارات والجرارات التى تجرها وأحوالها المتقلبة، وانتهاءً بالركاب وحواراتهم المختلفة فى العمل والسياسة والرياضة.. بل وحتى خناقاتهم التى تبدأ وتنتهى سريعاً وتنقلب إلى محبة بعد عداوة.
صوت عالٍ جداً لأغانى المهرجانات يخرج بشكل سيئ من هاتف محمول فى الغالب صينى الصنع يحمله أحد الشباب ممن افترشوا "الشبكة" ولم يضع "الهاند فري" فى الجهاز..
- يا أخينا ينفع كده ع الصبح الدوشة دي؟!
- وانت مالك هو بتاعك ولاّ بتاعي؟
- رد عدل وباحترام، فى معانا طلبة وبتراجع دروسها وهى رايحة الامتحانات، وبعدين خبط وضرب ورقع، يا أخى شغّل قرآن أو اقفل العك ده.
- شخص آخر: معلش الناس دى طالع عينها شغالة غريبة عن أهلها ولسه رحلتهم طويلة فبيفكوا على نفسهم شوية.


- شخص رابع يتدخل لوأد وإطفاء نار شجار لم يشتعل أصلاً..

ولا تتوقف المشاحنات الخفيفة خاصة بين الشباب أو الضوضاء فى قطار الغلابة، إذ لا يتوقف هدير كلام وحواديت الركاب، ولا يتوقف ضجيج الأصوات العالية للشحاذين ومدعى المرض أو الإعاقة الذين يصطنعون البكاء لمحاولة ابتزاز الركاب عاطفياً، وكثيراً ما ينجحون فى ذلك رغم أن الركاب يشاهدونهم عند وصول القطار لمحطة أخرى يقفزون من القطار ويسيرون على القضبان للحاق بقطار آخر بخفة العصفور رغم أنهم قبل ثوانٍ كانوا يعانون الإعاقة!

لا ينافس هؤلاء إلا الباعة الجائلون فى القطار وإن كانوا أفضل تأدباً فى التعامل مع الناس.. وتكون المشاحنات والضوضاء أشبه بموسيقى تصويرية لمشهد عبثى يفقد فيه راكب هذا النوع من القطارات خصوصيته تماماً.


فى القطار ستعرف أنماطاً مختلفة من البشر، وتفتح زاوية الرؤية لمعرفة هؤلاء بحسب ما يتاح لك، ما بين رفقاء سفر دائمين تجمعك بهم نفس الظروف الحياتية، وآخرين يسافرون بشكل عارض، ستنشأ صداقات لها عمقها، ستستطيع بقليل من الخبرة أن تكتشف طبيعة رئيس القطار وغيره، فهذا ينفذ القانون واللوائح بشكل حرفى أيًا ما كان الأمر، وهذا يؤثر أن ينفذ روح اللوائح لا نصها الحاد والقاطع، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بمسافر لا يعرف هذه اللوائح.


"العمر مجرد سكة سفر مكتوبة"، عبارة يظل يرددها على مسامع الركاب العم سمير أشهر بائع للعسلية فى قطارات مصر، وربما معه الحق فى ترديدها فرحلته كبائع متجول أخذت من عمره 50 عاماً، ظل فيها يقفز من رصيف لآخر ويتنقل بين عربات القطار ممسكاً كيساً من البلاستيك به "حلوى العسلية" بكافة أنواعها وأشكالها ولا يزيد سعرها على جنيه واحد، لكنه يقول: "الرزق لا يكون على ما يرام فى بعض الأيام، وهناك مواسم تمر علينا يصبح الحصول فيها على بضع جنيهات أمرا صعبا للغاية.


يتابع: "لم أجد مهنة أخرى غيرها لأعمل فيها، وبعدين هى شغلانة مش عيب لأنها رزق حلال، صحيح أخذت من العمر الكثير وعرّضتنى لمخاطر أكثر لكن الحمد لله فى النهاية كله رضا".

ينادى سمير على بضاعته قائلاً: "شوكولاتة تعلِّم الألاطة وتجوِّز الصبيِّة".. فترتسم على وجوه الركاب الدهشة والاستغراب خاصة لمن يصادفه فى القطار لأول مرة، أما معتادو السفر فيداعبونه خاصة الشباب، فيبادرهم بضحكة كبيرة ويصيح بصوت عالٍ: "يا تنجحهم.. يا تسقطهم يا رب".. فتضج عربة القطار بضحك وقهقهة الركاب الذين يبادرون بشراء العسلية ويبدأون فى مهاداة بعضهم بها، قبل أن يعاودوا الحديث مع بعضهم البعض فى تفاصيل حياتهم.. حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة.