كنت مثل الفقي لما يسعد، تجيله ختمتين في ليلة واحدة .. وكنت بصحبة الغيطاني ، مع حفظ الألقاب، والأديب الراحل العظيم ابراهيم أصلان الإثنين : فكر في المثل قليلا ستجد أنك، وانا معك ، من المتورطين في تفضيل الشيخ البعيد في كل حياتنا، ضبطت نفسي اكثر من مرة زاهدا في الذهاب الي الطبيب الذي يقع في نفس الشارع الذي أقطن فيه، رغم أنه شارع رئيسي، وفي منطقة مهمة ، وأفضل عليه طبيبا آخر، ربما اقل في سنوات الخبرة. نفس هذا التقييم الخاطئ نقع فيه عندما يكون احد الأبناء طبيبا، ستجد أنك تتردد في الذهاب إليه وتقول في نفسك »معقولة الواد فلان بتاع امبارح حيعرف يكشف ، ويشخص المرض ويكتب الدواء .. معقولة»‬؟ كل جريمة هذا الطبيب أنك ربما رأيته طفلا أو حملته وهو رضيع، ولا تريد أن تقتنع أنه ربما أصبح من المشهورين في مجاله ، لا وإيه، اذا ذهبت اليه غصب عنك، مجاملة يعني ، ستجد دائما داخلك هاجسا يحذرك : لا تشرب دواء هذا الطبيب، وينتهي الأمر بتحديد موعد عند طبيب آخر لتتأكد من دقة كشف الطبيب القريب.! تفضيل البعيد، سمة كل المصريين، ولأديبنا الكبير جمال الغيطاني تجليات كثيرة وباستفاضة في تفضيل الشيخ الذي يأتي من هناك، من مكان بعيد، يلفه الغموض، ولأنه أمام الناس بلا تاريخ، وربما يكون أقل ورعا وزهدا من الشيخ ابن البلد، لكن الناس دائما وأبدا تخلع علي هذا البعيد الكرامات، حتي لو كان في حقيقة امره قاطع طريق، وقرر ان يتخفي في زي النساك العباد. بنفس المنهج ستجد أيضا أن »‬زامر الحي لايطرب» نفضل عليه الزامر الذي يأتي من هنا أو هناك .. أدعوك أيضا الي تأمل المثل القائل »‬ لا كرامة لنبي في وطنه » ستجد أن عندنا مئات، بل ربما ملايين الحالات لنابغين في شتي مناحي الحياة، لا نلتفت إليهم، وربما نسفه من أمرهم، ونضع أمامهم العراقيل، ونرميهم بكل النواقص، وفجأة يحتضنهم غيرنا ونفيق ، بعد فوات الأوان، ونسعي مجددا للتمسح فيهم ، وندعي ، زورا وبهتانا بأنهم من خيرة أبنائنا .! خد عندك مثلا العديد من مذيعي الفضائيات المشهورين في القنوات الخاصة ، كانوا مقبورين في التليفزيون الرسمي المصري، لأنهم لم يجدوا من يعطيهم الفرصة، ويثق فيهم ، ويتبناهم، ولأن دائرة الغيرة والحقد تمنع الإبداع وتقمعه، وتحبطه  ستجد هؤلاء يقفزون في النهاية من المركب التي أوشكت ان تغرق بالجميع . ليس بعيدا عن ذلك ، النعرة الكذابة عندنا كمصريين في الاستعانة بالخبير الأجنبي »‬اللي بيرطن» بأية لغة أجنبية ، المهم ألا يتحدث بالعربية ، وياريت لو كان شعره أصفر، ستجد أننا نتعامل مع كلامه علي أنه من الأمور المصدق بها ، وتوصياته رؤي حكيمة ، حتي لوكان قادما من حواري شيكاغو ، أو فاشلا يتقاضي إعانة البطالة في بلاده. اذا فكرت في الأمر ستجد الإجابة عند »‬ الشيخ البعيد الي دائما سره باتع»  ، وفي أن زامر حينا في مصرنا لا يطربنا أبدا . ام اجد ما أقوله للعالم المصري الكبير د. محمود الشريف الذي ترك بلاد العم سام ، ورجع ليرد الجميل لمصر في مجال هي في أشد الحاجة اليه ، وهو مجال الطاقة الشمسية، ولكن لأن الشيخ البعيد سره باتع، استقدمت الحكومة المصرية خبراء من الصين، هؤلاء الخبراء تعلموا علي يد د. الشريف ، عندما كان يدرس في الولايات المتحدة الامريكية ، واستعانت به وكالة »‬ ناسا» لحل اشكاليات علمية في مكوك الفضاء، واختارته كندا ضمن 7 علماء علي مستوي العالم ليقوموا بمهمة تطوير مراكز الأبحاث الكندية حتي العام 2025. مشكلة الدكتور شريف أنه لم يتخل عن جنسيته المصرية، وأنه لا زال يتكلم مع المسئولين بالعامية المصرية ، ويرفض ان »‬ يرطن» بالانجليزي . مش قلت لكم : زامر الحي لا يطرب .. والبعيد سره باااااااااتع . الأربعاء : جزء من آفاتنا ، أننا موسميون في كل شيء : في أفراحنا ، وحتي في أحزاننا ، نتفاعل سريعا مع الحدث، ثم نهبط ( مش عايز اقول نفش لكنها الأنسب ) علي لا شيء . بدأ الرئيس السيسي أول اسبوع في حكمه بقيادة الدراجات، شيء طيب ، واشارة جيدة إيجابية لمحاولته دفع الدماء في عروق أمة تيبست مفاصلها وتكلست. كيف تعاملنا مع الأمر؟ في أول يومين تسابق عدد من الوزراء والمحافظين إلي تحية مبادرة  رئيس الجمهورية، كل بطريقته، بعضهم قام بعمل »‬ تراك» للعجل، والبعض الآخر خرج علي رأس عدد من موظفيه في سباق للدراجات، وطبعا كل هذا بالصدفة البحتة ، وكانت هناك أيضا كاميرات الفضائيات والصحف لتسجل هذه اللحظة أيضا بالصدفة. أفرغوا الموضوع من مضمونه الذي أراده رئيس الجمهورية ، الأمر يتجاوز مجرد قيادة العجل الي ما هو اهم ، الي محاولة إحياء أمة من حالة السبات العميق الذي أصابها ، ولكن هؤلاء عينهم علي النفاق ومحاولة التقرب الي الحاكم زلفي . الآن انفض موسم العجل ، في انتظار موسم جديد للنفاق . لا أريد الحديث عن المنافقين ، ولكن ما يعنيني أنني أتمني بصدق أن نتغير من داخلنا، وندرك أهمية وخطورة اللحظة التي نعيشها ، وأنا أتساءل ماذا يعيبك ان تذهب الي مقر عملك راكبا دراجة ، الأمر لا علاقة له بوضعك الوظيفي، هب أنك مدير عام ، لكنك ستصل الي عملك اسرع وبلياقة نفسية وجسدية أكثر لو ركبت العجلة بدلا من السيارة . الدراجة في رأيي أصبحت وسيلة فعالة وضرورية في زمن أصبح فيه المرور قطعة من العذاب وأصبحت فاتورة البنزين فوق حدود استطاعة الشريحة الأكبر من الأسر . عندما دعيت قبل عامين مع مجموعة من الإعلاميين المصريين لمتابعة التجربة الدنماركية في الإنتخابات ، كنت أجلس مع زملائي من أعضاء الوفد في »‬ميني باص» فاخر ، نتنقل به بين اللجان  ، وفجأة نادت علينا المرافقة ، وأشارت الي شخص يعبر الطريق مترجلا في إشارة مرور ، وقالت أن هذا هو وزير الخارجية ، بدون حرس ، وبدون مدير مكتب يحمل عنه الشنطة. الأغرب أن البرلمانية التي استقبلت الوفد المصري في مقر البرلمان ، كانت تشغل من قبل منصب وزيرة الثقافة ، ولا زالت عضوا في المعهد المصري الدنماركي للحوار ، هذه السيدة تذهب الي البرلمان علي عجلة ، وليس في الأمر شيء من التزيد ، أو المتاجرة السياسية ، أو بحثا عن صورة يلتقطها أحد مصوري الصحف ، لكي تعرف طريقها الي صدر الصفحات الأولي ، ليس شيئا من هذا علي الإطلاق . الأمر عادي جدا ، مع العلم ان سنها تجاوز الستين بسنوات .. بقي أن تعلم ان عدد الدراجات التي تحيط بمحطات السكك الحديدية ومحطات المترو ، التي يستخدمهعا الركاب ، تقدر بعشرات الآلاف. بقي ان تعرف أيضا أن الدنماركيين أكثر شعوب العالم شعورا بالسعادة ، رغم أنهم يركبون العجل ، وليس السيارات مثلنا. واترك لك - عزيزي القارئ - أن تضع نفسك ، ومعك البلد علي مقياس السعادة والشعور بالرضا. أعتقد انك لن تجد مصر أو المصريين في التصنيف. الخميس : أساس النجاح لأي مشروع ، أن يدرك القائمون عليه عناصر تميزه ، ومكمن القوة ، فيركزون عليها ويبدعون فيها.. هذا شيء بديهي . ومصر ، كما قلنا مرارا وتكرارا، تمتلك تميزا وتفردا ثقافيا وتراثيا تحسدنا عليه أقوي الدول، وانت تستشعر هذا التميز ، وتحسه في كل شبر من أرض هذا الوطن . ورغم ذلك، نحن لا نعظم من هذا التميز ، ولا نعمل علي توظيفه التوظيف الأمثل .. خد عندك مثلا دولة مثل امريكا التي لا يتجاوز عمرها عدة مئات من السنين، ستجد ان الصناعات الثقافية فيها تمثل أكبر دخل، يظهر ذلك جليا في صناعة السينما الأمريكية. كان هذا الأمر في مصر قبل ثورة يوليو ، وكانت صناعة السينما ، تمثل ثاني أعلي دخل للخزانة العامة بعد القطن، والآن »‬اضربت» تجارة القطن، وسقط الفيلم المصري في هوة تجارة العري، والعنف الرخيصة. ما أقوله ليس اكتشافا ولكن يعرفه كل من يعمل في حقل الثقافة، وصور وأشكال استثمار الصناعات الثقافية واستثمارها كثيرة، ويمكن أن تحدث تنمية حقيقية للدخل القومي، ويمتلك المجلس الأعلي للثقافة خبرات دولية في هذا المجال بعضهم تستعين بهم منظمة »‬اليونيسكو» لمساعدة دول اخري، هؤلاء يستطيعون تحديد رؤية قابلة للتنفيذ. العالم حولنا يتحرك ويسابق الزمن ، ويصنع تاريخا من الهواء، ونحن تفرغنا لدفن تاريخنا وتراثنا. السبت : المثل الشعبي يقول : تعرف فلان ؟ آه سافرت معاه .. لا يبقي ماتعرفوش. الأمثال عصارة خبرة الشعوب عبر آلاف السنين . عرفت الكاتب الكبير جمال الغيطاني كمفكر ، وقامة أدبية كبيرة، وعرفته كرئيس تحرير ناجح لجريدة »‬أخبار الأدب» ، وأتيح لي شرف الاقتراب منه، اقتراب التلميذ الذي يتمسح في أستاذه ، يتلمس تجربته، ويتحسس خطاه في دنيا الكتابة، وأشهد أن الرجل لم يغلق بابه في وجهي، أو وجه غيري، حسب معلوماتي. وعرفت الغيطاني في المنتديات الثقافية، وضيفا رئيسيا علي أية تظاهرة ثقافية مصرية ذات وزن وثقل. قبل ثلاثة أعوام تقريبا ، اتيحت لي فرصة عظيمة لم تتح لكثيرين من أبناء جيلي وهي الاقتراب من من الغيطاني أثناء السفر، ولأننا في مقام الاستشهاد بالأمثال فقد كنت مثل »‬الفقي لما يسعد تجيله ختمتين في ليلة واحدة» حيث وجدت أنني سوف أكون بصحبة الغيطاني، والأديب الراحل العظيم إبراهيم اصلان، هكذا مرة واحدة وبدون ترتيب مسبق. كان ذلك في إسطنبول، عندما حلت مصر ضيف شرف معرض اسطنبول للكتاب، وكانت تلك الدورة الأولي التي يأخذ فيه المعرض صفته الدولية . مايعنيني أنني وجدت نفسي وقد نلت شرف أن يتأبط ذراعي عمنا أصلان، وعلي يميني الغيطاني، مع حفظ الألقاب والمقامات، ورحنا نمشي الهويني علي خطي أصلان في جولة في أحد أهم أسواق إسطنبول الأثرية.. أصلان يريد شراء هدايا تذكارية لأحفاده من السوق المغطي في »‬الجراند بازار» بجوار منطقة سياحية مشهورة هناك تسمي »‬بيازيت».. للأسف نجحوا فيما فشلنا فيه، حافظوا علي تراثهم الأثري وأصبحت هذه الأسواق والقصور الأثرية من الفترة العثمانية ، فرخة تبيض ذهبا للاقتصاد التركي، الغريب أننا لدينا ربما اكثر مما لدي تركيا، ولكن تعرف ما آلت إليه تلك القصور والأسواق. المهم انني اكتشفت في الغيطاني مهارة تقييم أي شيء مصنوع باليد، وقدرة كبيرة علي تقييم الأحجار الكريمة وشغل الفضة، وتابعته وهو يفاضل بعين الخبير بين خاتمين، حسب نوع الحجر، واختار أحدهما لأنه يضفي شيئا من الغموض والسحر علي من يرتديه! . فجأة قال الغيطاني : أناأدعوكم الي جلسة ، بالتأكيد سوف تعجبكم وسوف تشكرونني عليها، أدعوكم الي مقهي »‬علي باشا مدرسة» الأثرية . تركنا السوق وبدأنا نسير خلف الغيطاني في شارع ضيق أقرب الي الحارة، يشبه الي حد كبير شوارع القاهرة القديمة التي كانت، مرصوفة بالبازلت الأسود، شيئا فشيئا بدأ الطريق يضيق أكثر ويأخذ اتجاه الصعود ، وبدأت أستشعر معاناة أصلان في المشي من خلال تحميله علي ذراعي ، ولكن كله يهون في صحبة أصحاب المقامات الرفيعة. قال الغيطاني أنه قرأ عن هذه المقهي الأثري، وبذل جهدا كبيرا في زيارة سابقة، حتي وصل الي المكان، واكتشف أن هناك من المثقفين والأثاريين الأتراك لا يعرفون أهميتها أو مكانتها. أخيرا وصلنا الي »‬علي باشا مدرسة» هكذا نطقها الصحيح وليس خطأ..  مقهي داخل مبني أثري.. الطريق اليه يمر عبر عطفة قصيرة وعلي الجانبين هناك من يعلق علي الجدران »‬انتيكات أثرية». جلسنا علي المقهي، الجو بارد، ولكن هناك دفايات تعمل بالغاز تدفيء الجو ، وكل شيء حولك ينطق بعبق التاريخ ، المشكاوات الثرية، ذات الطابع التركي معلقة هنا وهناك، وعلي الجهة المقابلة للمقهي توجد مقبرة أثرية ، وعلي بعد خطوات عدة مساجد أثرية ، تشعر وكأن الزمان عاد بك الي النصف الأول من القرن في قاهرة المعز التي نجحنا في قهرها شارع شارع وعطفة عطفة !. وقت ممتع تخلله ضحك من القلب أدمع أعيننا، بسبب حكاوي أصلان الجميلة، عن المعسل الذي يصنع في أحد مصانع بير السلم من قشر البطاطس .. »‬وأهو كله دخان» والناس مبسوطة. فجأة تذكرت انني صحفي، وقررت أن أبادر أديبنا الغيطاني بسؤال : أراك معجبا بالمكان بدليل انك دعوتنا لزياته، اذا لماذا عارضت مشروع باب العزب، وكان يهدف، حسب المعلن، إلي تحويل المنطقة الخربة المحيطة بالقلعة الي أماكن تعج بالحياة مستندة الي المحيط الأثري والتراثي للمكان ؟. صمت الغيطاني لوهلة ، ثم نظر الي نظرة تأمل واستغراق ، وهز رأسه وقال : أنا لم اعارض يوما شيئا الا للصالح العام، وانت تحديدا تعرف أنني كنت بعد ذلك من أشد المعجبين بما تم انجازه في شارع المعز لدين الله ، وحضرت افتتاحه. وقال الغيطاني ، ما معناه أن مراجعة المفكر لآرائه في ضوء مستجدات ومعلومات جديدة لا تنتقص منه ولكنها تصب في صالحه. مناسبة هذا الكلام المعارك الخاسرة التي يقودها كل وزراء الآثار الذين جاءوا منذ ثورة يناير وحتي اليوم لاسترداد شارع المعز من براثن الفوضي والتعدي.