إذا أراد المرء أن يغير الطريقة التي يعامله بها الناس، فيجب أن يغير أولا الطريقة التي يعامل بها نفسه»
يحل علينا اليوم عيد الكتاب الذي نحتفل به جميعا بافتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب. ذلك العرس السنوي العامر بكل ما تشتهي النفس والروح. وما يتوق إليه العقل من زاد العلم والثقافة. الأدب والمعرفة. لهذا رأيت أن أحتفل أنا أيضا بأجمل الأعياد علي طريقتي الخاصة وأن تكون يومياتي اليوم عبارة عن رحلة أدبية أقطع خلالها المسافات بين سطور كتاب وأدباء ومفكرين أثروا حياتنا وأمتعونا، بل وغيروا حياة الكثيرين منا بأفكار ملهمة ورؤي مختلفة تدعونا للتأمل وتحفزنا لاكتشاف أنفسنا. والآن هل استعددتم للرحلة ؟ هيا بنا !
شجرة الرمان
كان «سيسنيروس» هو كبير أساقفة غرناطة، والأداة الطيعة في يد الملكة إيزابيلا للسيطرة علي الأندلس بعد سقوط غرناطة، وكان هو مهندس ما أطلق عليه عملية «جدار النار» التي اخترقت شظاياها قلوب الغرناطيين من العرب، حسرة وألما.
أمر «سيسنيروس» جنوده باقتحام مائة وخمس وتسعين مكتبة عامة بالمدينة، ونحو اثني عشر قصرا من القصور المعروفة باحتوائها علي أشهر المقتنيات من الكتب، وتمت مصادرة كل ما هو مكتوب باللغة العربية.
ثلاثمائة مخطوط فقط تمكن الدارسون والطلاب من خدمة الكنيسة إنقاذها من مذبحة الكتب في عملية «جدار النار» بعدما استطاعوا إقناع سيسنيروس بالإبقاء عليها بعيدا عن المذبحة باعتبارها تمثل التقدم الهائل في المجالين المهمين الطب والفلك، وكان بين هذه المادة الكثير مما انتقل من شبه جزيرة الأندلس وصقلية إلي بقية أنحاء أوروبا، ومهد السبيل أمام عصر النهضة.
الجنود الذين انخرطوا منذ الساعات الأولي للصباح في بناء جدار الكتب، كانوا يتجنبون النظر في أعين الغرناطيين. بعض المتفرجين كانوا في حالة من الأسف والحزن، وآخرون في حالة هياج شديد، عيونهم متقدة، ووجوههم يكسوها الغضب و التحدي. وآخرون تتمايل أبدانهم بلطف من هذا الجانب إلي ذاك، تكسو وجوههم تعبيرات خاوية، جامدة.
كان أحد الجنود متخذا موقعه قبالة نافذة الأسقف، حدجه «سيسنيروس» بنظرته ثم اومأ له، وانتقلت الإشارة إلي حملة المشاعل، وأضرمت النيران. ساد صمت مطبق لنصف دقيقة. ثم مزق صوت نواح مرتفع تلك الليلة من ديسمبر 1499، تلتها صيحات :»لا إله إلا الله، محمد رسول الله». وصرخ رجل مسن سحقه المشهد الرهيب لألسنة النار تلتهم درر الكتب قائلا: «لقد غرقنا في بحر من العجز»
لقد كان «سيسنيروس» يدرك قوة الأفكار أكثر من أي شخص آخر في شبه الجزيرة، أكثر حتي من ايزابيلا ذات الشخصية الرهيبة.
تلك القصة، وذلك المشهد المهيب جعله الكاتب البريطاني الباكستاني طارق علي مفتتحا لروايته البديعة «ظلال شجرة الرمان».مشهد تراه بعيون قلبك، جسده ببراعة وسطور تفوح بالشجن وهو يحكي قصة عائلة «ابن هذيل» إحدي العائلات العربية المسلمة وهي تصارع ذلك المصير في محاولة للبقاء علي قيد الحياة بعد انهيار عالمهم بسقوط غرناطة.

يقول المؤلف في وصفه لمحرقة الكتب «سبحت في الهواء أطياف من شرر مختلف ألوانه بينما كانت المخطوطات تحترق، كأن النجوم كانت تمطر أحزانها، وأسفها!

إنها حقا رواية فاتنة، اجتهدت للحصول علي حقوق ترجمتها ونشرها باللغة العربية الناشرة المثقفة، صاحبة الفكروالرؤية الأستاذة كرم يوسف ونجحت في إمتاعنا نحن قراء العربية بهذا العمل الأدبي الفريد. إنها رواية تبكينا علي أمجادنا العربية والإسلامية التي دامت لثمانية قرون في الأندلس، وتشرح كيف فقدناها بسبب الصراع علي السلطة، والتفكك، والانقسامات بين ملوك الطوائف، التي كانت نتيجتها المحتومة هي السقوط والانهيار. أرشحها لكم بثقة لتكون ضمن قائمة الكتب الأفضل والأجمل التي تعدونها قبل زيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب.
قواعد العشق
الأحد :
رأيت أيضا أن نتجول معا بين دروب رواية بديعة عنوانها « قواعد العشق الأربعون» للأديبة التركية أليف شافاق. وأن نحاول معا صيد لؤلؤ الكلمات والأفكار بين سطورها. وها هو صيدي النفيس:
>> كل ما يمكنني أن أمنحك إياه هو اللحظة الراهنة، هذا كل ما أملكه. وفي الحقيقة، لا أحد يملك أكثر من ذلك. نحن ندعي أننا نملك أكثر مما نملكه حقا.
>> انتبه إلي ما تقوله فليس كل كلمة تلائم كل أذن.
>> في كل شئ نفعله، قلوبنا هي المهمة لا مظاهرنا الخارجية. فالصوفيون لا يحكمون علي الآخرين من مظهرهم أو من هم، وعندما يحدق صوفي في شخص ما، فإنه يغمض عينيه ويفتح عينا ثالثة. العين التي تري العالم الداخلي.
>> إذا أراد المرء أن يغير الطريقة التي يعامله بها الناس، فيجب أن يغير أولا الطريقة التي يعامل بها نفسه. وإذا لم يتعلم كيف يحب نفسه، حبا كاملا صادقا، فلا توجد وسيلة يمكنه فيها أن يحب.
>> توقفوا عن التفكير بجهنم بخوف أو الحلم بالجنة، لأنهما موجودتان في هذه اللحظة بالذات. ففي كل مرة نحب نصعد إلي السماء. وفي كل مرة نكره، أو نحسد، أو نحارب أحدا فإننا نسقط مباشرة في نار الجحيم.
>> لست مسيحيا ولا يهوديا ولا مسلما، لست بوذيا ولا هندوسيا ولا صوفيا ولا من أتباع زن. لا أتبع أي دين أو نظام ثقافي. لست من الشرق، ولا من الغرب.»مولانا جلال الدين الرومي».
>> نعم إن الرومي علي حق. إنه ينتمي إلي مملكة الحب. إلي المحبوب. «شمس الدين التبريزي».
>> إن معاناة إنسان واحد تؤذينا جميعا. وبهجة إنسان واحد تجعلنا نبتسم.
>> إن الأناضول مزيج من الأديان والشعوب وأنواع الطعام.فإذا كنا نتناول الطعام نفسه، ونغني الأغاني الحزينة ذاتها، ونؤمن بالخرافات عينها، ونحلم بذات الأحلام، فلم لا نكون قادرين علي العيش معا ؟
>> لا تسيري مع التيار، بل كوني أنت التيار.
>> لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.
>> إن القذارة الحقيقية تقبع في الداخل، أما القذارة الأخري فهي تزول بغسلها. ويوجد نوع واحد من القذارة لا يمكن تطهيرها بالماء النقي، وهي لوثة الكراهية والتعصب التي تلوث الروح. نستطيع أن نطهر أجسامنا بالزهد والصيام، ولكن الحب وحده هو الذي يطهر قلوبنا.
>> يقبع الكون كله داخل كل إنسان ــ في داخلك ــ كل شئ تراه حولك، بما في ذلك الأشياء التي قد لا تحبها، حتي الأشخاص الذين تحتقرهم أو تمقتهم، يقبعون داخلك بدرجات متفاوتة. لذلك، لا تبحث عن الشيطان خارج نفسك فالشيطان ليس قوة خارقة تهاجمك من الخارج، بل هو صوت عادي ينبعث من داخلك. فإذا تعرفت علي نفسك تماما، وواجهت بصدق وقسوة جانبيك المظلم والمشرق، عندها تبلغ أرقي أشكال الوعي. وعندما تعرف نفسك فإنك ستعرف الله.
هذه عصارة العصارة لرائعة الأديبة التركية أليف شافاق « قواعد العشق الأربعون» وهي رؤية عصرية شديدة العمق والتكثيف للصوفية. وطرح مختلف وشائق لقضايا كونية تتصل بالإنسان. كيف يصل الإنسان إلي نفسه أولا حتي يصل بقلبه إلي الله. كيف يصل الصوفيون إلي مراحل الزهد السبعة وعندها يملكون الوعي التام ويملكون القدرة علي الغفران والتسامح ونزع الكراهية من القلوب.
إن الله لا يحاسبنا علي مظهرنا، لكنه ينظر إلي قلوبنا ويحب تلك التي يطهرها الحب، القادرة علي التسامح والغفران.
إنها حقا رواية تستحق أن تقرأ وأن تعاد قراءتها أكثر من مرة. فبين سطورها تكمن أسرار النفس والروح والجسد معا. الله عليك يا أليف شافاق.
أنا وأنت
الإثنين :
ما الذي يبحث عنه أحمد الخميسي في مجموعته القصصية الأخيرة «أنا وأنت »
؟ أشعر بين سطوره المشحونة بلغة شاعرية رفيعة، اللاهثة نحو المعني، المتلهفة لكل ما هو حقيقي في الحياة، أنه خاض رحلة صعبة وممتعة في آن بحثا عن شئ ما، شئ بين الحقيقة والخيال، يستميت لكي يقبض عليه لكنه يفلت من بين أيامه، ويفر عائدا إلي خانة الذاكرة.
في القصة الأولي التي تحمل اسم المجموعة يعيش صاحب الشخصية المحورية مع أنفاس إنسانة أحبها، يبحث عنها في كل تفصيلة من تفاصيل حياته، منذ أن يفتح عينيه في الصباح حتي يغمضهما في المساء.يستعدان لتناول الإفطار معا، يشربان القهوة معا، يقفان في المطبخ معا هي تغسل الأطباق وهوينتظرها لتودعه عند باب الشقة وهو يتجه إلي عمله، يعود في المساء ممتلئا بغرامه بها، يتناولان العشاء، يستنشقان رائحة الخبز الساخن فوق المنضدة.
و ينهي أحمد الخميسي القصة بهذا المقطع المؤثر: «أتملي وجهك بحب وعمق ويأس في حجرة النوم. تمدين بصرك من فوق كتفي إلي صوان الملابس. تهبطين برأسك إلي الوسادة. تطفئين المصباح الصغير. يظل قلبي متيما بك، وفيه أمل لا ينتهي. فقط لو تقولين لي من منا الذي مات ولم يعد يري الآخر ؟»
قصص أحمد الخميسي يفوح من بين سطورها رائحة الأسطورة وسحرها رغم اشتباكها مع واقع ينزع من الإنسان حقه في الحلم.فنجده في قصة أخري من قصص المجموعة القصصية وعنوانها «سأفتح الباب وأراك يوما» يكتب لمعشوقة خيالية، تشعر مع توحد كيانه معها أنها أقرب إلي الطيف منها إلي المرأة. يستخدم أسلوبا سرديا هو أقرب إلي المتتالية الشعرية. عشرة نصوص يمتزج فيها الملموس بالمحسوس في تناغم أدبي بديع،و لغة مغموسة في الشعر، ونفس ابداعي مختلف.
لذلك ليس غريبا أن تصدر الطبعة الثانية من تلك المجموعة القصصية الفاتنة بعد شهر واحد من صدور الطبعة الأولي. في النهاية أقول أقرأوها ولن تندموا.
إسعاد يونس
الثلاثاء :
من بين برامج كثيرة تمتلئ بها القنوات التليفزيونية الخاصة والحكومية يحتفظ برنامج «صاحبة السعادة» بضوئه الخاص. فصاحبة البرنامج استطاعت أن ترسم له ملامح مختلفة، وشخصية مميزة جعلته فريدا، أصليا، وغير قابل للتقليد أو التكرار.
إسعاد يونس فنانة مثقفة بمعني الكلمة، ذكية، لديها حس قوي يفرز،و يدقق. ينتقي، ويبحث.إنها تملك شيئا قويا ومهما وهو الإحساس بنبض الناس، باحتياجهم إلي أشياء تحيي في نفوسهم قيما افتقدوها، وشخصيات أثرت وتركت بصمتها الخاصة في وجدانهم، وأحداث يسعدهم كثيرا أن يشاهدوا أجزاء منها، أو يستمعوا إلي نجوم عاشوها، وشهود عاصروها.
إسعاد يونس بامتلاكها روحا متدفقة بالصدق، وموهبة عبقرية استطاعت أن تصل إلي الناس في البيوت تجلس معهم كأنها ضيفة خفيفة الظل والروح، وتصطحب معها شخصيات نحبها، تذكرنا بأجمل أيام حياتنا وتشكل تاريخا مضيئا في الفن والثقافة والإبداع المصري.
إنها تفتح أمامنا نافذة لنري من خلالها كنوز مصر الحقيقية التي توارت كرامة وخجلا في زحام عصرفقد عقله، وضاعت بوصلته. إنها تعيد إلينا أشياء جميلة افتقدناها وتقدم في الوقت نفسه للشباب الذين لم يعاصروا هؤلاء النجوم الكبار حكايات جميلة ومسلية عن هذا الزمن الذي لم يكونوا جزءا منه، حكايات تبقي طويلا في الوجدان تقدمها مع ضحكة من القلب وقالب غنائي، إبداعي، فني يمتلئ بالمتعة، والتشويق، والحكمة المغموسة في كل هذا بلا افتعال أو ادعاء. شكرا جزيلا إسعاد يونس.
مانشيت
الأربعاء :
قليلون هم من أستطيع متابعة برامجهم علي شاشات التليفزيون المختلفة، فالغث بينها يفوق الجميل بكثير. لذلك اتابع الإعلامي المحترم جابر القرموطي وأحرص علي الإنصات إلي ما يثيره من موضوعات وقضايا لأنه فعلا يعبر عن قطاع عريض من الشعب المصري بكل صدق وأمانة، دون أن يكون له توجه خاص يخدم فئة معينة.
جابر القرموطي يخاطب الإنسان العادي، المواطن البسيط قبل المثقف.و يقدم مشاكل ساكني النجوع والقري المنسية علي خريطة الحكومة قبل مشاكل أهل العاصمة، والأحياء الراقية.
ربما ينتقده البعض في الأسلوب الذي يظهر به مرتديا ملابس الفئة التي سوف تكون موضوعا للحلقة مثلما فعل مع عامل الأنابيب وجندي الجيش،و الجزار وغيرهم، لكني أري أنه يحاول تقديم وجبة إعلامية ساخرة، في شكل يجذب الجمهور إلي متابعة قضايا جادة، ربما لو عرضها بشكل تقليدي لا يصل إلي تلك القاعدة الكبيرة من المشاهدين.
إنه برنامج إخباري بامتياز. يقدم أهم الأخبار والمقالات في صحف اليوم، ويتوقف عند الأحداث التي تشغل معظم الناس فيحادث الأطراف التي وقع عليها الضرر، والمسئولين الذين يطالبهم بالبحث عن حل، ويقوم بمتابعة تلك المشاكل بعد فترة ليتأكد أن شيئا ما قد تحقق فعلا لأصحاب الشكوي.
شكرا جابر القرموطي علي هذا الجهد الصادق الجميل، وأكثر الله من أمثالك في الإعلام المصري.. قادر يا كريم !
لؤلؤ الكلمات :
إن غبت لم ألق إنسانا يؤانسني. وإن حضرت فكل الناس قد حضروا.
ابن زيدون