القرنة ساحة جديدة للتحطيب

القرنة ساحة جديدة للتحطيب
القرنة ساحة جديدة للتحطيب

ممسكًا بين يديه بعصاه الصغيرة، حاول حذيفة ابن قرية القرنة الجديدة بالأقصر الذى لم يتعد عمره الثمانى سنوات أن يتغلب على صديقه عليّ الذى كان بدوره ممسكًا بعصًا كبيرة، ظل حذيفة يضرب العصا الكبيرة لعدة مرات وقد ارتسمت على وجهه علامات الضيق والتحدي، إلى أن نجح فى نهاية الأمر فى أن يكسر عصا صديقه عليّ، وهنا ارتسمت على وجهه ملامح الانتصار، وقال له: «الآن صرنا متساوين أنا أحمل عصا صغيرة وأنت كذلك».
عامر أمين حسين: لو أن شخص «مات» أثناء ممارسة لعبة العصا ففى هذه الحالة، لا يمكن أن يكون له «دية» فهذه قوانين متعارف عليها، ولا يمكن لأهل الضحية، أن يطالبوا بالقصاص 
أو بأخذ الثأر.

لم يكن هذا المشهد الذى شاهدته على هامش فعاليات مهرجان التحطيب محض صدفة، إذ يتجمع الأطفال فى دائرة صغيرة ويتبارزون بعصيهم الصغيرة تمامًا كما يفعل الآباء، حالمين أن يصيروا مثل آبائهم بعد سنوات. فلم ينم أحد داخل قرية القرنة الجديدة بالأقصر خلال الفترة الماضية، إذ ارتفعت أصوات «العصيّ» خلال نزال اجتمع حوله أهل الصعيد رغبة منهم فى إحياء هذه اللعبة التى تجمع المتنافسين من شتى بقاع الصعيد. حيث أقيم مؤخرا مهرجان التحطيب داخل قرية القرنة الجديدة، بعد سنتين من التوقف.

وقد قررت وزارة الثقافة نقل المهرجان -بشكل دائم- من ساحة أبو الحجاج بالأقصر إلى قرية حسن فتحى الجديدة لتكون ضمن المكونات التراثية لقرية المعمارى الشهير حسن فتحي، بعدما ظلت اللعبة لسنوات وربما قرون طويلة، تمارس من خلال مبادرات شعبية حفاظا على التقاليد، ورغبة فى الحفاظ على إرث الأجداد من خلال تلك اللعبة التى لطالما مثلت مفردة هامة من مفردات التراث المصرى غير المادي، وقد استطاعت مصر أن تدرجها على قوائم اليونسكو كتراث ثقافى غير مادى فى سنة 2016.


واجب مقدس
لا يمكن وصف «التحطيب» بأنه مجرد «لعبة» فأهل الصعيد يعتبرون أن الحفاظ عليه بمثابة «واجب مقدس» وهو امتداد لجذورهم التى دائمًا ما يعتزوا بها كثيرًا، فهو كما يعتقدون لعبة مارسها موسى عليه السلام، وهىتضرب بجذورها منذ آلاف السنين. 


بملامح جادة تحدث معنا الشيخ أحمد بديع كامل الشهير بـ«طلعت التلاوى»، وهو أحد أهم شيوخ اللعبة فى الصعيد، متذكرا رحلته مع اللعبة منذ أن نشأ داخل قريته «تلة» بمحافظة المنيا، يقولإنه تعلم التحطيب فى سن مبكرة جدا، رغبة منه فى الدفاع عن النفس يقول «إذا حمل لاعب العصى بين يديه عصاه ولو أمامه نفرين أو ثلاثة فلا يمكنهم أن ينالوا منه أيا كانت قوتهم لذلك أردت وقتها أن أتعلم العصا».


تأثر الشيخ طلعت التلاوى فى عمر مبكر من حياته بشيوخ اللعبة عندما كان يشاهدهم يمارسونها عند ساحة سيدى الفولى بالمنيا، يوم الجمعة من كل أسبوع، وأخذ يحلم أن يصير واحدا منهم فى يوم من الأيام، «قررت حينها أن أصبح مثلهم تماما، وكان ذلك فى عمر الـ15».


ظل التلاوى ممارسا للعبة خلال تلك السنوات المبكرة من حياته، وعندما وصل لعمر الـ25 أصبح «معلم» فى اللعبة، وصار مدربا للعصا، يرى أن جذور اللعبة تمتد منذ قديم الأزل؛ وتحديدا منذ زمن «الفراعنة» الذين مارسوها وأجادوها.

ويشرح المراحل التى مرّت بها اللعبة خلال آلاف السنين إذ يرى أن اللعبة مرّت بمراحل عدة فبدأت تمارس من خلال «الحربة»، ثم بعد ذلك تم ممارستها من خلال «السيف»، ثم مع مرور الزمن انتقلت اللعبة لمرحلة أخرى وطور جديد، وتحديدا حين اكتشف حطب البردي، ووقتها بدأت تصنع «الخرزان». يقول «نتيجة لحطب البردى سميت بالتحطيب وبدأت اللعبة تمارس بواسطة هذا الحطب».

تكنيك اللعب
يحكى التلاوى عن «تكنيك» اللعب أثناء ممارسة التحطيب، فيقول: «ما دمت «حامى ضهرك» فلن يستطع أى أحد مهاجمتك وطرق الحماية كثيرة، فمثلا من الممكن أن أحمى ظهرى من خلال شجرة، أو حائط، ولن يستطيع أحد مهاجمتى أبدا حينها» ف«العصا» هى لعبة الدفاع عن النفس وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم فى حديث الله عز وجل مع موسى عليه السلام حين قال «ومَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى  قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى» فهذه هى فوائد العصا التى ذكرها موسى عليه السلام، فهى تحمى الإنسان حين يمشى فى أى مكان.

 

وهى بالمناسبة أسهل بكثير من لعب «الصباع» فالصباع هنا هى اللعب بالطبنجة أو البندقة، ولو استخدم الجميع مثل هذه الألعاب فى «الخنافات» فستتشرد الكثير من الأسر، لكن العصا لا يمكن أبدا أن تؤدى لعواقب وخيمة، فهى تختلف عن لعب «الصباع» كما ذكرت لأنها قد تكسر العظام لكنها لا تقتل إلا نادرا، وبجانب ذلك فهى لعبة مسلية نمارسها منذ عصر الفراعنة.


لم يستخدم الشيخ التلاوى لعبة العصا فى قتال أو فى معركة خلال حياته يقول: «لم أحب أن استخدم عصاى فى أى معركة خلال الحياتى لأنى أعلم أن عصاى لو وصلت لأى قتال أو خناقة فستكون قاتلة لشدة قوتها لذلك أنا استعملها فى «السلم» فقط سواء فى فرح أو فى احتفالية، فأنا أدعى بالاسم خلال تلك الاحتفاليات لأنى «معلم» فى هذه اللعبة ونحن فى الأفراح عندنا نهتم بممارسة لعبة العصا لأنها ضمن طقوسنا التى تربينا عليها. 


يرى «الشيخ» أن الأجيال الجديدة من الشاب لا يمكن بأى حال أن يتنازلوا أو أن يتوقفوا عن لعب التحطيب، فهو يرى أن الشباب يحرصون كل الحرص على ممارستها وتعلمها وهم يلجأون إليه كى يتعلموها يقول: «لو الشاب مخه ذكى ياخد منى حوالى من يومين لثلاثة أيام، وبعدها يمكن أن اطمئن عليه من أنه بات قادرا على ممارسة تلك اللعبة، أما إذا كان غير متمكن من اللعبة فمن الممكن أن أظل أعلمه لمدة أسبوع كامل». 


ويطالب التلاوى بضرورة تخصيص فقرات يومية على شاشات التليفزيون، تشجيعا على ممارسة اللعبة، وأن تستغل الموالد التى يمارس فيها التحطيب وأن وتعرض على الشاشات، «أريد أن تحب الأجيال الصغيرة هذه اللعبة كما أحببناها صغارا، فنحن لم ننتظر دعم مادى أبدا، لكن نريد دعمها من خلال وسائل الإعلام، لأن التحطيب هى رياضة مبنية على «التعارف»، فنحن حين نلتقى ببعضنا البعض نستطيع أن نقترب من بعض أكث.

وهى دائما ما تقرب أبناء الصعيد من بعضهم البعض، ومن المفترض أن تتبنى وزارة الثقافة مشروع كامل بالتعاون مع وزارة الرياضة لتخصيص «دوري» للتحطيب فكل بلد لديها كثرة من لاعب يمكن أن يمثلوها»، لتشجيعنا على اللعب، فنحن يقتصر دورنا فقط على ممارستها فى الأفراح، وصاحب كل فرح يدعى الأشخاص الذين لديهم خلفية باللعبة. 


الهزيمة الكبرى
عامر أمين إسماعيل يعيش فى قرية تلة بالمنيا، وأحب هذه اللعبة فى مرحلة متأخرة من حياته، رغبة منه أيضًا فى الدفاع عن نفسه، بجانب أنه أراد ممارسة اللعبة التى نشأ عليها وأحبها أهل بلدته «بدأتها فى سن متأخر لأنى رجل متعلم وقد عشت فى أسرة منغلقة تماما نتيجة أن والدى قد ركز على تعليمنا جيدا، فلم يرد أن نحتك بالخارج، وقد مارستها حين توفى الوالد، وكنت وقتها فى الـ45 من عمري».


يتحدث عامر إسماعيل عن أدبيات اللعبة فيقول إنها لا تفرق بين كبير أو صغير، فمن الممكن أن يلعب شخص فى الثمانين من عمره، أمام شخص فى العشرين، لكن أهم شيء يجب أن يتحلى به الفرد هو الأدب والذوق والاحترام، فهناك سلام للعصى بين المتنافسين وهو دليل على الاحترام والتقدير.

 
يرى عامر أنه لا يصح أن يلعب شاب فى العشرين من عمره مع شخص فى السبعين و«يعلّم عليه» فهذه ليست أصول اللعبة، بجانب أن لعبة العصا لها 24 «قانون أو باب»، فهناك باب له «عازة» وهناك باب ليس له «أى عازة»؛ بمعنى أن الضرب على الرأس هو إعلان عن «الهزيمة الكبرى» لكن الأجزاء السفلية من الجسم هى أجزاء «ليست لها عازة».

 
يتمنى عامر أن تهتم الحكومة بتلك اللعبة وأن تخصص لها دوريات ومسابقات بين المحافظات، ليس فى الأقصر فقط لكن فى كافة المحافظات «هذا أمر يهمنا جميعًا كأبناء للصعيد».


أصول اللعبة
تحدثنا أيضا مع محمود حسين عبدالحميد الذى ينتمى لقرية عارف بالمنيا، واتفق مع ما ذكره شيوخ اللعبة حول امتداد جذور هذه اللعبة لزمن «الفراعنة»، لكنه أضاف أن بداية اللعبة كانت فى سوهاج تحديدا داخل منطقة تدعى «برديس» قبل أن تنتقل لكافة ربوع الصعيد.

وهى على حد وصفه تمثل «نزاهة» للفرد، ووسيلة جيدة للتعارف، وقد بدأ لعبها منذ أن كان طفلًا، «جميع أسرتى تمارس تلك اللعبة ولا يمكن أبدا أن نتخلى عنها، ونحن نعلمها لأبنائنا، فقد علمتها لابنى منذ صغره وهو حاليا فى الـ13 من عمره، ويجيد اللعبة بحرفية، لكن بالطبع فهناك «أًصول» لتلك اللعبة لا يمكن أبدًا أن نتجاوزها لكنى أود أن أشير لأمر ما فلو أن شخص «مات» أثناء ممارسة لعبة العصا ففى هذه الحالة وفى قوانين القضاة والمحاكم العليا، لا يمكن أن يكون له «دية» فهذه قوانين متعارف عليها، ولا يمكن لأهل الضحية، أن يطالبوا بالقصاص أو بأخذ الثأر لأن القتل فى هذه الحالة يكون غير متعمد أبدا، فهذه لعبة وليست عراكا، فنحن عندنا «الشيح صلاح».

 

وكذلك الشيخ «محمد عبد الرازق» الذى جاء من ملوى 2011 فى مهرجان التحطيب «خرب الدنيا ومشي» فقد كان هناك وقتها مبارزة حقيقية، وكانت الإسعاف هى من تنقل المصابين، ولم يستطع أحد أن يغلبه فكانت تلك هى أهم بطولة فى التاريخ الحديث لهذه اللعبة، إذ كانت عبارة عن دائرة بيضاء على مساحة 6 أمتار، وبحضور سيارات الإسعاف والأمن، والمحكمين وشيخ التحطيب، ومن يهزم كان يتم نقله بواسطة سيارة الإسعاف، لكن حين جئنا إلى هنا فى عام 2016 لم تكن المنافسة مثل السابق.


مدارس مختلفة
يتحدث محمود حسين عن اختلاف اللعبة من مكان لآخر مشيرا إلى وجود «رموز وشيوخ» للعبة، كذلك فهناك اختلافات بين كل محافظة وأخرى، فالمنيا على سبيل المثال تتصف باللعب السريع، وسوهاج لعبها قريب من المنيا أيضا ويتسم لعبها بالسرعة، لكن محافظة قنا ليست كذلك، فمدرسة قنا تختلف عن أى مدرسة أخرى لأنها تتصف بالـ«غدر» فلا يمكن لأهل قنا أن يتقبلوا الخسارة، بينما فى المنيا والأقصر وسوهاج فاللعب يكون أقل حدة. 


فن شعبي
الشيخ صابر محيى الدين أحمد وهو أحد كبار وشيوخ اللعبة فى محافظة سوهاج يقول: «أنا حاصل على المركز الأول كأحسن لاعب متميز على مستوى الجمهورية لعدة مرات» ويضيف أن عصا سوهاج كانت هى الأولى فى الظهور، إذ ظهرت على جدران معبد أبيدوس.

وقد تم لعبها بعد ذلك وأصبحت ضمن تقاليد أهل الصعيد، فقد لعبت لأول مرة داخل مركز برديس البلينا بسوهاج فهم أول من اشتهروا بلعبها، ثم بعد ذلك نقلت ولعبت فى جزيرة شندويل والتى تعد أحد أهم الأماكن التى لعبت داخلها العصا وقد ساهمت فى تأسيسها ووضع قوانينها، فنحن لعبناها وتعلمناها من الشيخ «عيد الماسخ» الذى كان دائما ما يتلقى الناس ويرحب بهم دائما داخل شندويل، وقد صرف الكثير من أمواله لخدمة هذه اللعبة، وقد علم أولاده لعبة العصا، لأنه محب للفن الشعبى أصلا.


إرث الجدود
يقدم الشيخ صابر تفاصيل أكثر عن أصول نشأة اللعبة، إذ يقول أنها لعبت لأول مرة من خلال سيدنا موسى عليه السلام وأخيه هارون، وقد لعبوها حين ارتحلوا وذهبوا إلى أهل مدين، حين لجأ إليهم موسى وصاهرهم وتزوج من بناتهم.

وقد ظل لثمانى سنوات يرعى الغنم هو وأخاه هارون، وفى فترة القيلولة كان يمارس هذه اللعبة مع أخيه هارون، فهذه المعلومات هى ما وصلتنا وتم تداولها منذ آلاف السنين عندنا فى الصعيد وهى معلومات مؤكدة، لذلك فموسى عليه السلام حين تحدث مع الله ذكر أن له «مآرب أخرى» يقوم بها من خلال تلك العصا، فهذه المآرب هى لعبة العصا، بجانب أشياء أخرى، ومن هنا انتشرت هذه اللعبة فى أرباع الصعيد كله، فلعبت فى قنا، وقوص، وأسيوط، والصعيد بأكمله.


يضيف الشيخ صابر: هذه اللعبة تمارس بحفاوة شديدة وخاصة فى جزيرة شندويل، فالحاج والعمدة أحمد عويس مهران هو من يحرص دائما على تجميع الناس، فعندما ذهب إليهم النحاس باشا استقبلوه بالعصا والاحتفالات، لذلك فهذه اللعبة متأصلة داخل الجزيرة بصورة كبيرة، فهذا تاريخ معلوم للجميع ولا يمكن أن ينكره أحد، وأنا أحفظ هذه التواريخ لأنى بدأت اللعبة منذ مرحلة مبكرة فى حياتي.

وتحديدا حين كنت فى الـ16 من عمري، فإجادة هذه اللعبة بمثابة «موهبة» ولا يمكن أن يلعبها أحد غير موهوب، وقد ظللت لسنوات طويلة أمارسها ولم أتوقف أبدا عن لعبها وسأظل طوال حياتى أمارسها، لأنى كنت دائما ما أحب أن أحافظ على إرث أجدادى الذين لعبوا اللعبة وأجادوها، فنحن امتداد لثقافة هؤلاء وعلينا واجب أن نترك هذه اللعبة كما للأجيال القادمة كى يتسلموا الراية من بعدنا.

اقر|أ ايضا | « التحطيب ».. رياضة النبلاء و الغلابة