أنا الذئب يا يوسف: مظاهر التوحد والحلول!

أنا الذئب يا ااا يوسف: مظاهر التوحد والحلول!
أنا الذئب يا ااا يوسف: مظاهر التوحد والحلول!

بقلم: د. محمد فراح

أود فى مستهل هذه القراءة أن أشير إلى مسألة يتفق معى فيها العديد من نقاد الشعر العربى وهى أنه من الصعب تصنيف تجربة الشاعر صلاح بوسريف ضمن اتجاه معين أو مدرسة شعرية محددة لذلك، غالبا ما يتم إدراج إبداعه الشعرى ضمن الإبداع الشعرى الإنسانى الذى يمتح من كل الروافد الأسطورية والدينية والفلسفية والفنية والثقافية المتنوعة، ويروم بناء نسق شعرى متميز برؤاه الفكرية وتصوراته الجمالية الخاصة، ومنفتح على فضاءات واسعة تسمح بالتأويل.
وبالقراءات التفاعلية المتعددة، إن الخطاب الشعرى عند صلاح بوسريف يعتمد على بناء فكري/ معرفي، تمكن بموجبه من استيفاء موضوعاته التى تتكفل بالكشف عن تجاربه الواقعية وبالإفصاح عن مكنوناته النفسية، وهو بناء محكوم بثقافة تتميز بوعى فنى و جمالي، يكمن وراء اختياره الدقيق للغته الشعرية التى تحبل بالصور والرموز والدلالات الموحية، وتحيل على أبعاد متعددة ومتنوعة، أكسبت نصوصه الشعرية خاصية الانفتاح على التعدد القرائى وعلى فاعلية التأويل.


تعتبر الرموز الشعرية آلية من الآليات الفنية التى أضفت على شعر صلاح بوسريف دلالات إيحائية، وأكسبته أبعادا فنية وجمالية متميزة تكشف عن تجاربه الحياتية، وعن رؤاه الفكرية والوجدانية.

وهى رموز تم استدعاؤها من ثقافته النوعية التى تتشكل من أنساق تحيل على الإنسان والطبيعة والحيوان والتراث والتاريخ والواقع المعيش، ومن الرموز التى ألهمت الشاعر صلاح بوسريف فى ديوانه الأخير «أنا الذئب يا يوسف» رمز الذئب بكل حمولاته الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية.

وهى حمولات وظفها الشعراء العرب القدامى والمحدثون، فإذا كان الشعراء القدامى كامرئ القيس والشنفرى والأخطل والبحترى مثلا، قد انصب اهتمامهم على حياة الذئاب وطبائعهم وصفاتهم وسلوكاتهم الغريزية الفطرية، بحكم تجاربهم الشخصية مع هذا النوع من الحيوانات، فإن الشعراء المعاصرين قد اختلفوا عنهم فى هذا الاهتمام، لأنهم قاموا بتوظيف الذئب واستدعائه فى أشعارهم باعتباره رمزا شعريا يحبل بالدلالات ويحيل على أبعاد اجتماعية ونفسية وسياسية، تميز عصرنا الراهن وما يحتدم فيه من صراعات وتناقضات، ومن هؤلاء الشعراء نشير على سبيل المثال إلى كل من مظفر النواب ومحمود درويش وبدر شاكر السياب وأمل دنقل وغيرهم، لذلك يمكن القول: إن الشارع صلاح بوسريف هو أيضا يعد من ضمن الشعراء العرب المعاصرين الذين وظفوا صورة الذئب فى تجاربهم الشعرية ونشير منها على سبيل المثال إلى «ذئب الخطيئة» لعبد الله رضوان، و»ضجر الذئب» ليوسف أبو لوز، و»ذئب الأربعين» ليوسف عبد العزيز، وغيرها من التجارب الشعرية المعاصرة المتميزة بدلالاتها الفنية والفكرية والإبداعية.


لقد قام الشاعر صلاح بوسريف باستدعاء صورة الذئب، مستعينا  بما اختزنه موروثه الثقافى والفكرى والشعرى من معلومات ووقائع حقيقية أو متخيلة، استوحاها من القصص الشعبى والديني، ومن بعض النصوص الشعرية الغربية والعربية القديمة أو الحديثة.

وخصوصا تلك التى وظفت صورة الذئب وقامت بإعادة تشكيلها فكريا وفنيا وجماليا، بشكل ينسجم مع الحالة الوجدانية للشاعر، ويتلاءم مع تصوراته ومواقفه الفكرية من الواقع الاجتماعى والسياسى المعاصر، وما يشهده هذا الواقع من اضطرابات وتناقضات.


« أنا الذئب يا ااا يوسف»، ليس عنوانا يختزل الدلالة  الكلية للديوان فقط، وليس نصا موازيا يستهدى به القارئ فى قراءته لنصوصه الشعرية فقط، ولكنه عبارة موحية، وتكثيف استعارى مشحون بطاقة دلالية قوية تحيل على مظاهر التوحد مع الذئب والحلول فيه، وخصوصا بعد إدراكنا ومعرفتنا بهوية هذا الذئب، إنه صاحب يوسف الذى خلده النص الديني، وتداولته الثقافات العالمة والشعبية على حد سواء، باعتباره متهما بريئا، وضحية للكذب والافتراء ممن كانوا أكثر وحشية منه، بحكم ما تميزوا به من خيانة وغدر. (1)
ألسنا، 
إخوتك وأنا،
كلانا ذئب، 
وكلانا فى دمك موغل، 
أنا افتراء وخديعة،
لأننى الذئب، 
وإخوتكم مكيدة وازدراء، 
لأن فى طباعهم ما يشى بطباعي، 
أنا الذئب؟!
«صفحة 36»
لقد كانت صورة الذئب وسيطا فاعلا فى هذه التجربة الشعرية الجديدة لصلاح بوسريف، مكنته من الكشف عن مكنوناته النفسية ورؤاه الفكرية والفلسفية من الواقع ومن الوجود الإنساني، حيث استطاعت صورة الذئب بشحناتها الدلالية العميقة أن تؤثر فى الشاعر وأن تقنعه بالتفاعل معها.


وبالبحث عن قالب شعري/فنى و جمالي، يستحضر من خلاله هذه الصورة، ويجعلها معبرة عن المرسلات التى يرغب فى إيصالها إلى القارئ/ المتلقي.


لذلك يمكن القول، إن هذه التجربة الشعرية، قد تأسست على رؤية فنية / إبداعية، جعلت من الذئب كيانا يدافع عن نفسه ويبرؤها مما نسب إليها من غدر وفتك فى مقابل ما تقوم به الذئاب البشرية من انتهاك للحرمات، ومن ممارسة لكل أنواع الخدع والنفاق والخذلان للجنس الإنسانى الذى أصبح يعانى من كل مظاهر الإذلال والانكسار إلى درجة الفناء والدمار، ولعل ذلك ما يفسر أن ذئب صلاح بوسريف هو ذئب يروم المصالحة مع الذات من خلال إدانة الواقع العربى وما يجرى فيه من أحداث مأساوية، تجسد معاناة الإنسان العربى المعاصر، بجميع أبعادها النفسية من
والاجتماعية والثقافية التى تتمثل فى إحباطاته الوجدانية وتخلفه المجتمعى واندحاره الحضاري.(2)
منكم ليس ذئبا يعوى فى الخلاءات
يباغت الطرائد ليبقى على قيد الوجود!؟
من البشر اكتفى بخبزه، 
وترك الحقول تجرى فيها الريح 
لتذرو الزؤان عن القمح !؟ 
«صفحة 12»
إن صورة الذئب تحضر فى ديوان الشاعر صلاح بوسريف بشكل تبدو فيه قريبة جدا من الذات الشاعرة، وكأن هذه الذات قد استأنست بهذا الذئب، وربطت معه علاقات ألفة حميمية، مكنت الشاعر من الولوج إلى حياة هذا الذئب،  والإحساس بمشاعره و التعبير عن رغباته، بل إننا نجد أن الشاعر قد ذهب أبعد من ذلك بإسباغه على الذئب أبعادا إنسانية، تكشف لنا، فى الآن ذاته، عن بعض الجوانب العميقة فى نفسية الشاعر و انفعالاته، بكل ما تحمله هذه الانفعالات من حمولات دلالية سلبية تجاه الواقع.

وما يعتمل فيه من ظلم وقهر وفساد (3).
لست وحدى الذئب يا ااا يوسف.
ثمة فى غاباتكم ذئاب 
آلت على نفسها أن تكمن فى الطرق لتخذل العابرين، 
تزرى بمن كد، 
لتنفرد وحدها بالخديعة، 
لا 
تدرى 
أن الإنسان، 
منذ وجد، 
(ذئب لأخيه الإنسان)
«صفحة 39»
لقد تعامل الشاعر صلاح بوسريف مع الذئب باعتباره رمزا للخطيئة المزيفة، وضمن هذا الرمز إيحاءات ذات دلالة معاصرة، تكشف عن القدرات الإبداعية للشاعر صلاح بوسريف، الذى تحول، هو نفسه إلى ذئب، يعانى من حالات التوتر والقلق إزاء ما تشهده المجتمعات العربية من أزمات ونكبات، تعكس مظاهر الضياع وفقدان الهوية بسبب الفرقة، وتغير القيم والمعايير الإنسانية التى أصبحت تقنن إنسانية الإنسان وتدفع به إلى الدمار، لذلك يمكن القول إن الشاعر فى هذا الديوان، قد أظهر تعاطفه الكبير مع الذئب، إلى درجة اعتبار نفسه ذئبا حقيقيا يعيش فى عالم بشرى يتشكل من مجموعة من الذئاب التى تمارس حياتها المجتمعية بسلوكات ذئبية طبيعية فيها،
 وتستهدف إشباع غرائزها الحيوانية، بدل العيش فى عالم تحكمه القيم والمشاعر الإنسانية.
وتسوده الطمأنينة و الاستقرار و السلام (4).
ها ااا أنتم، 
أينما حللتم ثمة جب، 
فيه ظلمة أطبقت ليلها على بشر، 
كاد له غيركم من البشر، 
ليست خساراتى بطعم خسارتكم، 
فأنتم حرب على بعضكم، 
ما ااا بقى الليل يسكن النهار
 «صفحة 82»
إن أهم خاصية تتميز بها نصوص الشاعر صلاح بوسريف فى ديوانه «أنا الذئب يا ااا يوسف» هى هيمنة تقنية التناص، التى انطلق منها الشاعر لإلغاء الحدود بين النص القرآنى.


والنص الشعرى، حيث تمكن من توظيف قصة النبى يوسف، واستثمارها، ليفتح بذلك آفاقا فكرية وثقافية وفنية جديدة، أثرت نصوصه الشعرية، وجعلتها تزخر بالمعانى والدلالات الجديدة التى تنم عن العمق المعرفى والحس الجمالى اللذين  تتميز بهما جل التجارب الشعرية لصلاح بوسريف، وإن كانا يحضران بأشكال متنوعة ومتباينة فى هذه التجارب، وذلك بفضل توظيف آليات إنتاج شعرية أخرى إلى جانب آلية التاص.


وإذا كان الخيال هو مصدر بناء صورة الذئب و توليدها فى هذا الديوان الشعرى الجديد، فإن هذا الخيال لا يعتبر خيالا وصفيا بسيطا، ولكنه خيال تفسيرى يرتبط بعمليات الخلق والاستشراف والانفتاح التى أكسبت صورة الذئب أبعادا نفسية وأنطلوجية ومعرفية، وأضفت عليها خصائصها الفنية والجمالية التى ساهمت فى تشكيل الرؤية الكلية لنصوص هذا الديوان الشعري، ووسمت الشاعر صلاح بوسريف بسمة التفرد والفرادة، وذلك بموجب قدرته الإبداعية المتميزة على تجاوز الدلالات الأحادية إلى الدلالات اللامحدودة واللانهائية التى تغرى القارئ وتحفزه على فعل التأويل.

اقرأ ايضا | رسالة نارية من ثائر ديب لجائزة الشيخ حمد للترجمة

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا