دون مبالغة، ربما لا تملك السينما العربية كلها مخرجا سينمائيا استطاع إثارة العقل السينمائي العربي بقدر ما فعل يوسف شاهين، حياة حافلة عاشها شاهين الذي قدم أول أفلامه عقب عودته من رحلة دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ليقدم فيلم «بابا أمين» 1950، وآخر أفلامه «هي فوضى» 2007، وبين الفيلم حياة حافلة قدم خلالها 37 فيلما و5 أفلام قصيرة، احتل منهم 12 فيلما قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
الحياة المخلصة التي عاشها شاهين للسينما انعكست على أفلامه، حتى بات أغلبها وثيقة صالحة لدراسة المجتمع المصري عبر مراحل عدة في تاريخه الحديث، وهي الفترة الأكثر إثارة للجدل والاختلاف في تاريخ مصر الحديث، ما جرى في 1952 وانعكاساته على الشخصية المصرية، هزيمة 67، والشرخ الذي تركته في جيل كامل لم يستطع يوما التخلص من آثار ما جرى، الانفتاح الاقتصادي الذي تبعه بالضرورة تغير جذري في الأفكار ورؤية «الآخر»، حاول شاهين في كل أفلامه في محاولة فهم ما يدور في محيطه ومجتمعه عبر أفلامه، وبلغة سينمائية متفردة، نجحت في الصمود طيلة هذه السنوات وظلت قادرة على إثارة الدهشة.
ثلاثية الهزيمة
في عام 1979 قدم شاهين فيلم «عودة الأبن الضال»، وهو الفيلم الرابع له في عقد السبعينيات، والفيلم الأخير فيما سمي لاحقا بـ «ثلاثية الهزيمة».. «الاختيار»، «العصفور»، وفيلمه الشاعري أيضا «الناس والنيل»، حاول شاهين ترجمة «الهزيمة» الذي عجز جيل كامل على فهم أو استيعاب أسبابها أو نتائجها، حاول شاهين تشريح الأزمة عبر الأفلام الثلاث، أدرك أن الأزمة طالت الجميع، المثقفون، المناضلون، تغييب الديموقراطية، الفساد والارتشاء، أهل الثقة وأهل الكفاءة، التغيير المرعب لكافة القيم المصرية، تمدين القرى وطمس الهويات، انعدام الحرية والحياة الحزبية، اليأس الذي سكن الجميع فخرجت أفلامه الثلاث أشبه بعالم «كافكا» السوداوي.. لم يكن شاهين وأفلامه إلا تجسيدا لما يحدث على الأرض في مصر، حالة من التخبط والارتباك، بين التمسك بزعيم يحبه ويؤمن به الناس، وبين رجل مسئول عن أكبر هزيمة عسكرية ونفسية في تاريخ مصر.
في «الاختيار» الذي كتبه نجيب محفوظ وأخرجه شاهين، نرى توأما، أحدهما كاتب وروائي نافذ لدى السلطة، والآخر بحار حالم صعلوك، أدت سعاد حسني دور البطولة الأنثوية التي وقعت في الاختيار بين حب الكاتب وعشق البحار الذي أدى كلاهما عزت العلايلي، صنع شاهين فيلما نفسيا مركبا، وظهرت في الفيلم شخصية «بهية» التي استخدمها شاهين كثيرا كإسقاط على الوطن، «بهية» التي يلجأ لها الجميع، ينسون همومهم ولا يخجلون من خطاياهم، وأدت هدى سلطان دور «بهية»، وقدمها شاهين ومحفوظ كصاحبة منزل يجتمع فيه فنانو القاهرة، منزل يسيطر عليه جو من الكوميديا السوداء وتنتشر فيه زجاجات البيرة، منزل يصلح للهرب من هزيمة تركت الجميع سكارى.
في «العصفور» الذي كتبه لطفي الخولي برفقة شاهين، مطاردة «رؤوف» ضابط الشرطة لـ «أبي خضر» اللص الذي احترف سرقة مصانع القطاع العام في نفس توقيت معارك 1967، حيث يحارب أخاه في سيناء فيما يتجهز الشعب لنصر مضمون، على جانب آخر يطارد «يوسف» الصحفي قضية «أبي خضر» أيضا، لكن ليس بهدف إلقاء القبض عليه، يرى «يوسف» أن «أبي خضر» ما هو إلا لص صغير ينفذ تعليمات مجموعة من اللصوص أصحاب المناصب والسلطة في أجهزة الدولة، هذه المجموعة التي أسماها «اللصوص الشرعيين».
يشهد شاهين في فيلمه أن الهزيمة لم تكن لأسباب عسكرية على خط القتال فقط، لكنها أيضا كانت نتيجة حتمية لفساد مستشر في أجهزة النظام الحاكم، لكن شاهين يتجاوز هنا مرحلة المواجهة لينتقل لمرحلة التحريض الشعبي، على أن نملك مصيرنا بأيدينا.
عودة الإبن الضال
أطلق شاهين على فيلمه توصيف «مأساة موسيقية»، حتى لا يدخل تحت التصنيف الشهير وهو «الكوميديا الموسيقية»، هذه المرة تعاون شاهين مع إبن جيل يوليو الأبرز، صلاح جاهين.. جاهين الذي كتب كثيرا في حب عبد الناصر ودولته، في «عودة الإبن الضال» وحتى بعد نصر أكتوبر 1973، نرى شاهين وجاهين وهما يؤكدان على ضرورة نسيان أوهام الماضي، وعلى ضروة أن ينتزع الجيل الجديد حقه في اختيار مستقبله ومستقبل الوطن.
تدور الأحداث أيضا في زمن 1967، لكن هذه المرة في قرية تبدو كنموذج لمصر في وقت ناصر، حيث يمتلك «طلبة» الرجل العسكري السابق مقاليد السلطة في القرية، يكرر كلاما عن ضرورة الإنتاج والبناء، ولا يتقبل أي معارضة ولا يتسع صدره لأي مزاح.
يعود «علي» شقيق طلبة عقب ضياع مبهم لحلمه القديم، «علي» ومقولته، «أحلى ما ف الحلق طعم المر من الذكرى»، يمثلان جيل شاهين وجاهين، بكل الأحلام التي ضاعت وآلام ما بعد الهزيمة، «علي» مُتعب ومتردد، فاقد للقدرة على المبادرة أو التغيير، في المقابل يظهر «إبراهيم» و«تفيدة» بهتاف «الشارع لنا» كممثلان لجيل جديد من الشباب.. شباب يحب الحياة ويحلم بلمس النجوم.
قدم شاهين نهاية سوداوية للغاية لجيله في هذا الفيلم، حيث يتقاتل «طلبة» و«علي» في نهاية الفيلم فيموت كلاهما، كما تموت الأم التي حاولت التشبث بالماضي طوال عمرها، وتموت «فاطمة» إبنة خالتهما التي تصارعا على حبها، قام شاهين بقتل الماضي كله في هذا المشهد بكافة تعقيداته، في حين يغادر «علي» و«تفيدة» القرية ويديران ظهرهما للماضي بكل ما فيه وتتسرب كلمات جاهين التي لحنها كمال الطويل.
«أدي اللي كان، وأدي القدر، وأدي المصير نودع الماضي وحلمه الكبير نودع الأفراح، نودع الأشباح راح اللي راح ماعادش فاضل كتير إيه العمل في الوقت ده يا صديق غير إننا عند افتراق الطريق نبص قدامنا..».
إنتهت هكذا ثلاثية شاهين بعد النكسة، ثلاثية قدم فيها مضمونا ثوريا أعتقد أنه الأقرب لقلوبنا، يضاف ذلك لصنعة عبقرية معتادة منه على مستوى الإخراج، ثلاثية مر من خلالها مخرجنا الكبير ومن عمق الأزمة بتحوله الأهم. ثلاثية لا زالت صالحة لنناقش من خلالها تساؤلاتنا ونرثي من خلالها شجوننا حتى اليوم.