هذه التعليقات الساخرة ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد، لا باعتبارها »قلة أدب وتطاول« وإنما باعتبارها الوجه الآخر للفتاوي نفسها في انشغالها بالتفاصيل، وشغل العقول بها في مشهد سينمائي شهير لشارلي شابلن نراه يحاول أن يغلق حقيبته المكدسة بالملابس وحين يفشل، يقص الملابس المدلاة من الحقيبة ويغلقها سعيدا. «كلنا شارلي شابلن»، هكذا كنت أفكر وأنا أطالع أخبارا من قبيل : الحكومة تدعوغير المتشددين دينيا لمخاطبة المتشددين والتخفيف من غلواء خطابهم، قلت لنفسي سنشهد قريبا عربة بضائع تجر مئات الحقائب الملونة مختلفة الأحجام، مرصوصة جنبا إلي جنب، ومحكمة الإغلاق، وهي تقلع كنورماندي تو: «باسم الله مجريها ومرسيها» إلي المحطة التي انطلقت منها! بينما ينشغل أمثالي بجمع القصاصات ليصنعوا منها كليما بدائيا يصلح لتزيين حجراتهم وهم يدرسون، هل يبدوكلامي غامضا؟ أكيد، لكنه ليس أكثر غموضا من هذه المحاولات البائسة واليائسة، (علي طريقة المثل المصري «من دقنه وافتل له») لتجديد «الخطاب الديني» عند شبابنا الذين تربوا داخل هذه الحقائب، أوأولئك الذين ربوا أنفسهم، في الحقيقة، خارج كل هذه المنظومة المسافرة إلي الماضي، يشهد علي ما أقول هذه الموجة العارمة من السخرية والغضب التي عمت مواقع التواصل الاجتماعي علي فتوي دار الإفتاء بتحريم «الشات» بين الجنسين، ورغم محاولة التخفيف منها بدعوي أن «الشات» محرم إذا تم استخدامه لأهداف تبتعد بمستخدمه عن الفضيلة، وأنه مثل «سكينة المطبخ» يمكن استخدامها بهدف الطبخ أوالذبح، فإن المؤسف هوهذا الغرق في التفاصيل لننتهي ب «بديهية»! المؤسف أيضا هوكم الاغتراب الذي بدا واضحا في الفتوي عن قطاع عريض من الشباب أقام ثورته فعليا علي «الشات»! علي تقنيات إليكترونية لا أظن علي الإطلاق أن دار الإفتاء قد وضعتها في حسابها وهي تصدر فتواها، لذا لم يكن غريبا أبدا أن تنهمر تعليقات من نوع : هل شات الماسينجر هوالمحرم، أم الواتس آب، وتحذيرات من نوع: لاتدخل المرأة الإنبوكس إلا «بمحرم».. إلخ. هذه التعليقات الساخرة ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد، لا باعتبارها «قلة أدب وتطاول» وإنما باعتبارها الوجه الآخر للفتاوي نفسها في انشغالها بالتفاصيل، وشغل العقول بها، ولأن «دار الإفتاء» هي الملاذ الوحيد الذي تبقي للبسطاء من أهالي المحروسة، الذين لم تقض علي عقولهم حتي الآن فتاوي الزوايا وحقائبها، فإن السؤال الذي يجدر بنا مواجهته، لا كيف نوجه «الشاتات» لتكون عنوانا علي الفضيلة وإنما لماذا تصدر مثل هذه الفتاوي من الأساس؟! بعد مايزيد علي ثلاثين عاما من تبادل «الشاتات»! لماذا نصر علي «تكريس» هذا الهوس «المرضي» بعلاقة المرأة والرجل؟! وهوماتبدي أيضا في قرار وزير الشباب في الأسبوع نفسه بمنع الاختلاط بين الرجال والنساء في الأندية الصحية، و»الجيم»، ليغرق الناس في تفاصيل القرار: هل يقتصر علي «الساونا» أم علي «الجيم»، ياالله! قل لي بربك ياوزير الشباب هل 40% من المصريين –علي الأقل- ممن يجاهدون للحصول علي رغيف خبز آدمي، وزجاجة زيت، ويبتهلون لله آناء الليل، وأطراف النهار كي يحصلوا علي كيلولحم مجمد، أو»فرخة» علي بطاقة التموين، قد سمعوا بأندية»الجيم» التي يؤرق الاختلاط فيها وزارة الشباب؟! وماذا عن تلاحم الأجساد في عشش العشوائيات الضيقة؟ ألا تحتل مساحة، ولوصغيرة، من الفتاوي والقرارات! أكاد أوقن أن شارلي شابلن كان يعرف أن بلدا بكامله قد أعجبته حيلته المبتكرة، فأغلق بها حقائبه، كي»يغلوش» علي قضاياه الكبري، في الوقت الذي نتحدث فيه عن شحذ الطاقات للسفر إلي المستقبل، ولم تكن ابتسامته العريضة إلا لأنه تخيل، لحظتها، ماوصلنا إليه!