د. حسن الشافعي: فوزي بجائزة الملك فيصل تقدير لمكانة مصر

 د. حسن الشافعي
د. حسن الشافعي

رغم بلوغه الثانية والتسعين، فلا يزال يملك ذاكرة حافظة لاقطة لموقع الشاهد ودلالة البسمة العاقلة؛ يأخذك حديثه الفصيح المنساب عن دروس الماضى وتحليل الحاضر واستشراف المستقبل فتدرك أنك تجلس إلى أحد أئمة العمود بالأزهر فى أيامه الزاهية؛ يتواضع لتلاميذه حين يحفون به كأنه أحدهم، يثق بالوطن وبالقانون وبزوال الغواشى والتمسك بالأمل العامل، كما يثق بعمامته وقفطانه الأزهريين اللذين رافقاه فى رحلة التعلم والتعليم بالأزهر ودار العلوم سبعين عاما؛إنه د. حسن الشافعي، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، ورئيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، وأحد أبرز العلماء والمفكرين فى مجال الدراسات الفلسفية الإسلامية؛ وكان لـ«الأخبار» معه هذا الحوار، بعد فوزه بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام:

كيف استقبلت نتيجة فوزك بجائزة الملك فيصل فى مجال خدمة الإسلام وهى أرفع الجوائز العالمية؟
- فوزى بالجائزة تقدير للمكانة الراسخة لمصر وعلمائها بين الأمم، كما جاءت الجائزة مسحة ربانية على الصدور والجباه، فى وقت صعب أمر فيه بالعديد من المحن، لتتحول المحن إلى منح وتقر بها عيني، فهى جائزة عالمية يشهد لها العالم كله بالسمعة الحسنة؛ والتكريم الأدبى على رأسنا من فوق وخير وبركة لنا جميعًا: لمصر أولا، ولهيئة كبار العلماء، ولدار العلوم، والمجمع، واتحاد المجامع، وللمجهود الذى يسره الله فى مدينة إسلام آباد بجمهورية باكستان، حيث أسهمت فى وضع المناهج والقوانين وتأسيس المقرات الرئيسية للجامعة وإضافة ثلاث كليات جديدة إليها، ولحكماء المسلمين، وهناك جهود فكرية ستظهر للناس قريبا؛ كل أولئك نعمة من الله علينا.


وقف للباحثين
وماذا عن القيمة المادية للجائزة؟
- لقد قررت التبرع بالمبلغ المادى لوقف البحوث والدراسات الإسلامية الذى أنشأته منذ خمسة عشر عاما بمشاركة صديقى د. على جمعة، وأنشأت مكتبة لهذا الوقف فى مدخل الجامع الأزهر الشريف تضم المراجع والكتب التى جمعتها فى حياتى عن الدراسات العقلية والفكرية والفلسفية، إلا ما يلزمنى فى بحوثى الحالية وسأضيفه لاحقا بإذن الله؛ وقد تبرعتُ بالمبلغ ونذرت لله تعالى أن يكون ثوابه لروح الملك فيصل، لأنى أعتقد- بينى وبين الله- أن هذا الرجل من أولياء الله الصالحين، ويُقاربه فى هذه المنزلة الشيخ زايد؛ فهذان رجلان كانا مخلصين للأمة، متواضعين لها، وقد أدرك ذلك عبد الناصر حين ابتُلينا بالنكسة ولم يجد ردءًا له ولا رفيقًا به فى محنته إلا الملك فيصل والشيخ زايد، ولذلك أعتقد أن هذين الرجلين- رغم المناصب السياسية والملكية- من أولياء الله؛ وحكى لى أحد علماء الإمارات أنه سمع الشيخ زايد يقول: إننى تركتُ منزلى وجئتُ أسكن بجواركم احتماء بالعلماء ورغبة فى بركتكم، فمثل هؤلاء لا شك أنهم من أولياء الله الصالحين.


هل وضعت شروطا بعينها لاستخدام هذا الوقف الخيرى المعرفي؟
- الوقف يُحدد أهدافه بنفسه، والحقيقة أن أول من التفت إلى هذا، فيما أعلم، هو الشيخ الشعراوي؛ فإن الناس كانوا يعتقدون أن البر والخيرات مقصور على مساعدة الفقير واليتيم، وهذا حق، ولكنهم لا يلتفتون إلى أن البر والمعروف أيضًا يأتى فى خدمة المعرفة والعلم والتعليم والبحث العلمي؛ والشيخ الشعراوي- رحمه الله- من أوائل من تنبهوا إلى ذلك، حتى إنه تبرع إلى مجمع اللغة العربية لترقية البحوث القرآنية؛ وقد حاولت أن أقلد الشيخ الشعراوى فى ذلك، وعندما كنتُ عائدًا من باكستان عام 2004، وفى الطائرة حددتُ لنفسى مشروعات أربعة، كان منها إهداء مكتبتى للباحثين، وإقامة مركز أبحاث، وإصدار مجلة بحثية مُحكمة بأكثر من لغة لخدمة الأصليْن: أصول الفقه وأصول الدين؛ والوقف يمد كل ما يُفيد البحوث والدراسات الإسلامية، وكذلك رعاية طلاب العلم المنقطعين وأبناء السبيل من الباحثين؛ والحمد لله الوقف به ستة ملايين جنيه حتى الآن، إضافة إلى مبلغ جائزة الملك فيصل.


التبرع لتحيا مصر
كانت لك أيادٍ فى دعم الوطن بالمال، آخرها حين تبرعت بستمئة ألف جنيه إلى صندوق تحيا مصر.. ما السر فى ذلك؟
- هذه محاولات لرد بعض الديْن لهذا الوطن الذى له حق علينا، ونحن لا نستطيع أن نوفيه، وقد كان حُكم القضاء مُنصفًا وعادلا كما توقعته، وقلتُ وقتها للدكتور جابر نصار: إننى سوف أعود إلى الجامعة وأنت خارجها، وقد كان؛ فلما ردَّ إليَّ القضاء حقى ونلتُ راتبى عن الفترة السابقة وجدتُ أن أفضل شيء لرد بعض الديون الواجبة علينا هو توجيه هذا المبلغ إلى مشروع تحيا مصر، وبالأخص الصندوق الاجتماعى الذى يرعى المرضى والضعفاء.

 

 


حياتك مليئة بالمحن الشديدة والمنح العميمة أيضًا.. كيف تعاملت مع ساعات المحن ولحظات المنح؟
- كل محنة تعرضت لها تأتى فى قلبها منحة؛ ولا توجد محنة أصابتنى فى حياتى إلا وأعقبتها نفحة إلهية وعطاء موسع، وقد كنت أؤدى الامتحان بالأزهر فى كلية أصول الدين، وجاء شيخ الأزهر وقتها عبد الرحمن تاج ليقف على رأسى ويقرأ فى ورقة إجابتى لأكثر من عشر دقائق، ولست أدرى لماذا اختارنى أنا دون باقى الممتحنين، ربما لصغر قامتي، وبعدما انصرفت لقينى رئيس الجامعة ليُخبرنى أن شيخ الأزهر كان بانتظارى وأنه سعيد بإجابتى وربما أكون الأول على فرقتي، وقد كان؛ لكننى بعدها سُجنت تسع سنوات وحُرمت من الدراسة؛ وفى الستينيات استكملت دراستى وكنتُ مشتاقا إليها، وأديت الامتحان عام 63 فى كليتين فى عام واحد: يوم فى دار العلوم، ويوم فى أصول الدين، وحصلت على الليسانس فيهما معًا فى العام نفسه، وكنت الأول بأصول الدين والثانى فى دار العلوم.


الجائزة جاءت فى مجال خدمة الإسلام.. هل لدينا مشكلة إسلامية الآن؟
-لا شك، لأن مجتمعنا إسلامى وبه مشاكل، ومن ثم لدينا مشكلة إسلامية، ومنذ أيام محمد عبده قال إن الناس لا يستمعون إلا إلى عالم أو ولى صوفى، فهذان النموذجان يتصلان بوجدان الناس وضمائرهم، ولذلك لن تكون النهضة فى مجتمعاتنا سياسية بحتة أو قانونية بحتة أو حتى علمية بحتة.


المشكلة والحل
ولكن هل تعتقد أن الأزهر الشريف جزء من المشكلة الإسلامية أم جزء من حلها؟
-الاثنان، فالأزهر منذ أُقيم وهو ينشد الحل؛ وابن رشد كان يقول إن تحديد المشكلة نصف الحل والإجابة عنها النصف الآخر، ومن ثم قيل، ويُروى كحديث ضعيف، إن حُسن السؤال نصف العلم، لأنه نصف تحديد المشكلة، وإذا أتت الإجابة يكتمل العلم، فالأزهر-على الأقل- يقدم محاولات لتحديد المشاكل، وفى الوقت نفسه للبحث عن حلول، ونحن فى هيئة كبار العلماء أغلب توصياتنا فى المشاكل الاجتماعية، وآخر ما كنا نناقشه هو عن المرأة المعيلة والمطلقة والتى يهرب زوجها عنها وعن أولادهما، ولا تجد منه ولا من الدولة رعاية؛ وكذلك حوادث المرور التى تخلف ضحايا لا تجد أسرهم ضمانا، فنحن لا نعيش فى الهواء ولا فى الخيال، وإنما فى الواقع.


هذا جزء الحل الأزهري.. فكيف يكون الأزهر جزءًا من المشكلة؟
-لأن الكلام كثير عن الاجتهاد، أو ما يُسمى بتجديد الفكر الديني؛ ولكن أين المجتهد نفسه؟ لم ننجح فى الحصول عليه؛ ولذلك فإن عليّ مبارك كان أشطر أو على الأقل أكثر حظا، لأنه ارتقى باللغة وبالفقه (عندما أنشأ دار العلوم والقضاء الشرعي)، ومحمد أبو زهرة، وعلى حسب الله، وخلف الله، وكل هؤلاء الأعلام الذين غيَّروا الفكر الفقهى فى العالم الإسلامى كله؛ وقد عشت فى الشرق بباكستان خمسة عشر عامًا ووجدتُ أن الفقه هناك وفى ماليزيا وإندونيسيا متأثر بهذا الفريق من المفكرين المتخرجين فى مدرسة القضاء الشرعي، وكلية الشريعة تم تطويرها لتخرِّج أمثال هؤلاء من خلال الجمع بين الفكر القانونى والفكر الفقهي؛ لكن ما زلنا ننتظر النتائج والثمار التى لم تظهر بعد، وذلك لأنه تم تجريف البنية التحتية للأزهر منذ61 بقانون التطوير، ولهذا يقوم الدكتور أحمد الطيب والذين معه بمحاولة العودة إلى المناهج القديمة، فقد كنا ندرس كتاب (شذور الذهب لابن هشام) فى السنة الرابعة الابتدائية ،فى حين يدرسه طلاب أقسام اللغة العربية بالجامعات فى الوقت نفسه.

 

اقرأ ايضا | شيخ الأزهر: تعلم اللغة وسيلة لإحلال ثقافة السلام والتعارف محل التعصب والكراهية