بداية

ثرثرة محفوظ تزعجهم

علاء عبد الكريم
علاء عبد الكريم

علاء عبد الكريم

[email protected]

أصعب ما يصاب به المختل عقليًا؛ حين يظن أن الرب أرسله بدين جديد ليبشر به البشرية، وأنه ملهم من الله، زاعمًا أنه المختار والأفضل من كل البشر، ووجوده في هذا الزمان هو بمثابة بعث ثاني أتت به السماء ليوحد العرب ويهدي العالم، وأي خروج عن تعاليمه هو نوع من الانتحار، فالثورة الصناعية والتكنولوجية مثلًا هي في نظره والمنقادين من أعناقهم أصحاب الأفق الضيق إلى الهاوية السحيقة، انصراف عن منهج الله.
الدين بالنسبة له هو أن تكره حياتك رغم أن الله شرع الأديان كي نحتفل بالحياة، ولأن هذا المختل عقليًا صدق نفسه كذبًا وتضليلًا أنه الملهم الوحيد على الأرض؛ جعل من نفسه خدمًا وحارسًا للرجعية، فهو ومن على شاكلته من المتسلفة ينطبق فيهم قول فولتير: «إن الذي يقول لك أعتقد ما أعتقده وإلا لعنك الله، لا يلبث أن يقول لك أعتقد ما أعتقده وإلا قتلتك».


قبل 27 عامًا، واليوم كان جمعة؛ خرج من ظلام أول الليل ذلك الشاب المسلوب الإرادة والحرية أسير الفكر السلفي الوهابي – أصحاب الطريق المسدود- كأنه قادم من المجهول، تنبعث من نفسه المريضة نار الحقد المملوءة بالغل بفعل الأمير الجالس على فوهة الموت صاحب الخرافات وصانع كمائن دعاوي الحسبة، يتقدم الشاب الذي اختار طواعية عصا سيده، غير مدرك أنها سوف تتحول بعد دقائق قليلة إلى سكين غادر، بهمجية من الكاتب الكبير أديب نوبل الروائي والمفكر نجيب محفوظ الذي يخطو بتعب عبر سنينه الطويلة بصحبة مريده وصديقه الدكتور محمد فتحي إلى كازينو قصر النيل، لم يستشعر عم نجيب غدرًا من هذا الشاب الهمجي، ظنه أتى ليصافحه فمد أديب نوبل له يده ببشاشة وجه، فإذا بهجمة الجاهل فني الأجهزة الكهربائية وقد انحنى ليطعن نجيب محفوظ في رقبته بسكين جازًا شريان العنق هادفا قتله ظناً بفعلته الخسيسة هذه أنه يفتح لنفسه بابًا في الجنة لأنه حارب الكفر والجاهلية والخروج عن الملة، وتنفيذ شرع الله في الأرض بأوامر أميره.


وأمضى محفوظ عدة أسابيع بالمستشفى متجاوزًا مرحلة الخطر، غير أنه لم يتمكن من الكتابة بيده اليمنى أو السير لمدة ساعة يوميًا كما أعتاد قبل الحادث، ولأن نجيب محفوظ كان طيب القلب متواضعًا، قال عن هؤلاء الذين أرادوا قتله غيلة وغدرًا؛ «إلى من كفروني وحاولوا قتلي، أطلب منكم السماح لعدم مقدرتي على الوصول إليكم بفكري وثقافتي وتركتكم في هذا المستنقع».


المؤلم هو ما جاء وقتها في اعترافات المتهم فني الكهرباء في التحقيقات الي أجراها معه المستشار أشرف العشماوي، سرد المتهم محمد ناجي منفذ العملية تفاصيل الواقعة المؤلمة قائلًا: «عندما خرج من منزله ليقابل صديقه وجدت الفرصة سانحة لأنال شرف تنفيذ شرع الله فيه، وتقدّمت نحوه وأخرجت مطواة قرن الغزال من تحت ملابسى وطعنته في رقبته طعنة قاتلة»، كما أكد فى أكثر من مرة، أنه لم يقرأ أى رواية لنجيب، وأوضح أنه حاول قتله تنفيذًا لفتوى عمر عبد الرحمن، مفتى الإرهابيين آنذاك، بإهدار دمه لاتهامه بالكفر وارتداده عن الإسلام بسبب رواية «أولاد حارتنا»، يُتابع: «غادرت الموقع، وكنت قد نسيت أن أُكبر عليه أثناء الطعن، فقمت بالتكبير في سري»، وللغرابة أن المتهمين عندما سألهم المستشار أشرف العشماوي؛ هل كنتم تعرفون الأديب نجيب محفوظ؟!، ردوا عليه ردًا يثير الحزن في النفوس، ذكروا: «أنهم لم يكونوا يعرفون اسمه ولا شكله، وأن الوصف الذى جاءهم أنه رجل كبير في السن ويمشي بعكاز ويرتدي نظارة سميكة ويمشي ببطء وتوجد سماعة خلف أذنه، وتأكدوا أنه هو المطلوب»، هل هناك تعصب وإرهاب أكثر من هذا، من جماعة هي الأخطر على الإسلام.
ولأن الحكاية كان لها أول، إذن لابد وأن يكون لها نهاية..،


قضت المحكمة العسكرية على منفذ العملية الإرهابية وآخر بالإعدام، وبالسجن مدد متفاوتة على باقي المتهمين، وقالت المحكمة، فى حيثيات حكمها: «إن تلك الجماعة أرادت أن تجرح بأيدي عناصرها أمن وسلامة بلدهم، فكان الجرح أولى بهم وأوراق الدعوى تنبئ أن فلول الإرهاب تسعى دائمًا إلى التجمع وإعادة تكوين مجموعات تبغي اغتيال الرموز الفكرية، فما كان نجيب محفوظ إلا رمزًا للفئة المفكرة فتأججت بين ضلوعهم أن يكون مقتله كمن قتل المفكرين جميعًا».


في ذكرى ميلاده التي نعيش أجواءها هذه الأيام كان لا يمكن أن يفوتني الكتابة عن صاحب الحرافيش والتوت والنبوت والثلاثية وثرثرة فوق النيل، وغيرها من ابداعات من خط تاريخًا للحارة الشعبية، الصوفي من خلال شخصياته، فدائمًا وأبدًا ثرثرته تزعجهم.
وصدق أديب نوبل حين قال؛ «الدين ينبغي أن يكون منفتحًا، أما الدين الذي يغلق العقل فهو «اللعنة».