اللحظات الأخيرة فى حياة الساحرة الصغيرة

الطفلة الموهوبة "جنا حسن"
الطفلة الموهوبة "جنا حسن"

حبيبة جمال

استطاعت أن تجذب إليها الأنظار، وتخطف ببراءتها الأضواء، وتستحوذ على قلوب كل من يشاهدها بحركاتها وتعبيرات وجهها التي كانت ترسم ملامح موهبتها، إنها الطفلة الموهوبة "جنا حسن" صاحبة الـ ١١ عاما، والتي تعد أصغر ساحرة في مصر، تنبأ لها الجميع بمستقبل باهر وبالشهرة العالمية، إلا أن إرادة الله فوق كل شيء، فالطفلة جنا ماتت قبل أن تحقق أحلامها وأحلام والديها، ماتت قبل أن تخرج الى جمهورها بلحظات مختنقة بالغاز.. تفاصيل أكثر عن تلك القصة نسردها لكم في السطور التالية.


الحكاية بدأت قبل ١١ عاما من الآن، داخل منزل بسيط بقرية منشية عبد الرحمن، بمحافظة الدقهلية، منزل حسن الساحر، ذلك الرجل الذي يعمل في السيرك وتحديدا فقرة الألعاب السحرية منذ ٢٢ عاما، قبل ١١ عاما ولدت ابنته جنا، لم تكن صدفة أن تولد ليلة اكتمال القمر من الشهر، يبدو أنه كان يعلم بموعد قدومها إلى الحياة، تلك الطفلة التي لم تبذل جهدا في نشر البهجة والسعادة على أركان البيت، نمت كالشجرة التي ارتوت بمياه عذبة نقية مثل ابتسامتها، فترعرعت وامتدت أغصانها لتخطو داخل المدرسة، كانت متفوقة في دراستها، ورغم صغر سنها إلا أن عقلها وموهبتها كانت لافتة للنظر من الجميع البعيد قبل القريب، دائما ما كانت تراقب والدها أثناء وجوده في البيت، وتحضيره للفقرات والملابس التي يستخدمها في فرقته بالسيرك، بدأت تقف أمام المرآة وتقلد تلك الحركات، من هنا ظهرت موهبة الطفلة الشقية، حتى لاحظ والدها بحبها لعمله وبدأ يعمل على تنمية موهبتها بجانب دراستها، ومن اللحظة الأولى استطاعت جنا إثبات نفسها ومن أول فقرة شاركت فيها والدها خطفت كل الأنظار، وأصبح يسأل عنها الجميع، وبجانب موهبتها في عملها مع والدها كانت متفوقة في دراستها، حلمها الذي يملأ قلبها وعقلها هو أن تصبح طبيبة، لكن الأيام كانت تخبأ لها مفاجأة أخرى لم تكن أبدا في الحسبان؛ ماتت جنا قبل أن تحقق حلمها.


ساحرتي
تواصلنا مع والد جنا ليحكي لنا تفاصيل أكثر عن وفاتها، واللحظات الأخيرة قبل أن تفارق عالمنا، فقال بنبرة صوت وقلب يعتصره الحزن: "جنا كانت كل شيء بالنسبة لي، هي الحياة والنفس والروح، منذ والدتها وهي خطفت قلبي، نشرت السعادة والحب في بيتنا، لا يعرفها أحد إلا ويحبها، ورغم صغر سنها إلا أنها كانت توجهني في أشياء كثيرة وتساعدني على اتخاذ القرارات، لاحظت موهبتها في عامها الخامس، فدائمًا ما كانت تأتي معي وتشاهدني أثناء العمل، حتى أجبرتني أن اخطط لمستقبلها، ولم أتوقع ولو للحظة أنها ستضيع من بين يدي، لكنها إرادة الله". 
التقط الأب أنفاسه قليلا ثم عاود الحديث قائلا: "عملي عبارة عن مشاركة في الألعاب السحرية، نتعاقد مع شركات خاصة وننتقل بين محافظات مصر لعمل عروض استعراضية؛ منذ شهر تلقيت اتصالا للذهاب لمحافظة بورسعيد لعمل تلك الفقرات، كانت جنا ابنتي تأتي لي كل خميس وجمعة لتشاركني في فقرة تغيير الملابس وهي فقرة من ضمن فقرات الألعاب السحرية التي أفعلها، وهذه الفقرة أصعب الفقرات ولا يفعلها سوى أشخاص كبيرة، لذلك تعتبر جنا هي أصغر واحدة في الوطن العربي تفعل هذه الفقرة ولا أبالغ في ذلك، وقبل أن ننهي عملنا في بورسعيد، تلقينا اتصالا آخر للذهاب لمحافظة المنيا، قررت جنا أن تأتي معي لكني رفضت في البداية بسبب دراستها، لكنها ألحت علي واستطاعت بعقلها وكلامها إقناعي حتى تأتي معي، ولما لا وهي لم تخذلني يوما في دراستها، فدائما متفوقة ونتائج امتحاناتها تثبت ذلك، وبالفعل ذهبنا لهناك وقضينا ١٨ يوما، وفي آخر يوم ماتت جنا وفقدتها للأبد".


صمت الأب قليلا وكأنه يتذكر تفاصيل آخر يوم عاشه مع ابنتها الموهوبة، ثم استكمل قائلا: "في هذا اليوم استيقظنا مبكرا، وذهبنا لعمل فقرات داخل مدرستين حتى الساعة الثانية ظهرا، وعدنا للسكن لنرتاح قليلا حتى نستكمل عملنا ليلا، جلست جنا بجانبي على السفرة وبدأت تطعمني بيدها، ثم أخبرتني أنها ستدخل الحمام للاستحمام وتغيير ملابسها، فشرحت لها  كيف تقوم بتشغيل السخان، وتركتها لعمل مكالمة، استغرقت تلك المكالمة وقتا طويلا حيث كانت هناك مشكلة، حتى وجدت ابني الأكبر يخبرني أن جنا مازالت في الحمام ولم تخرج بعد، ما أن وقع هذا الكلام على سمعي، حتى انتفض قلبي، فابنتي لا تستغرق كل هذا الوقت في الاستحمام، كسرت الباب عليها ووجدتها ملقاة داخل البانيو بلا نفس أو حركة، ألبستها ملابسها وحملتها بيدي ونزلت كالمجنون لأقرب مستشفى، ساعة ونصف والكل يحاول إنقاذها وانعاش قلبها الذي توقف عن الحياة، حتى وجدت الطبيب يأتي لي وقبل أن ينطق بكلمة قلت له "بنتي ماتت"، جنا ماتت مختنقة بالغاز، كل هذا يحدث وأنا اعتقد أنني في كابوس وسوف أفيق منه، وكأن الله في هذه اللحظة زرع الصبر والقوة بداخلي، أخذت هاتفي وأبلغت والدتها وأهلي بالدقهلية، ثم أخذتها في سيارة للعودة لبلدي، الطريق استغرق ما يقرب من ثمان ساعات، ومجرد وصولي لهناك وجدت الكل يتشح بالملابس السوداء، ينادون على جنا وهناك من يطلب من الله أن يلهمني الصبر، هنا أدركت أنني لا أحلم، أدركت أن ابنتي ماتت ولن تعود لي مرة أخرى".


"أنا نفسي أبقى دكتورة يابابا عشان تقدمني للناس في السيرك وتقولهم الدكتورة جنا حسن"، هكذا كانت تخبر والدها، فصوتها مازال يتردد داخل أذنيه، فقال: "ابنتي كانت موهوبة ومتفوقة في دراستها، كان من المفترض بعد أيام قليلة ستشارك في برنامج المواهب خارج مصر، لكن إرادة الله فوق كل شيء، أنا مؤمن بقضاء الله وقدره، ولا أطلب سوى أن يلهمني الصبر والسلوان". 


هذه هي تفاصيل الحكاية كما سردها الأب، هذه هي حالته النفسية، بينما الأم لا تصدق أنها فقدت ابنتها، دائما ما تدخل حجرتها وتحتضن ملابسها لعلها تشتم فيها رائحتها، تعتقد أن ابنتها ستدخل عليها وترتمي بين أحضانها وتخبرها ماذا فعلت في محافظة المنيا، لكن سرعان ما تستيقظ الأم والدموع على خديها بعدما تدرك أن ابنتها ماتت ولن تراها مرة أخرى، فلم تجد الأم أمامها سوى الذهاب لقبر ابنتها تجلس أمامه وتحكي معها، ثم تقرأ لها القرآن.. فالكل حزين على هذه الملاك الصغير التي رحلت عن عالمهم، الكل يدعو للأب والأم بالصبر والسلوان.