د.أنور مغيث يكتب : عصفور والمثقفون والدولة

د.أنور مغيث يكتب : عصفور  والمثقفون والدولة
د.أنور مغيث يكتب : عصفور والمثقفون والدولة

كان تولى جابر عصفور لأمانة المجلس الأعلى للثقافة نقطة تحول ظاهرة. فبعد أن كان المجلس مجرد هيئة تقوم ببعض المهام الروتينية تحول إلى مؤسسة فاعلة تقدم أنشطة متنوعة جاذبة للجمهور العريض. والأكثر لفتاً للإنتباه هو مشاركة عدد كبير من القامات الثقافية العالية وكبار أساتذة الجامعات للمساهمة بحماس فى هذا النشاط. 
كان الأمر بالفعل ظاهرة تستحق التفسير. وكالعادة، التفسيرات السلبية التى تنطلق من سوء النية يكون حظها أكبر فى الانتشار حتى ولو كانت سطحية. وقد شاع فى أثنائها تعبيرات تتحدث عن دخول المثقفين إلى الحظيرة، أو أن الدولة نجحت فى تدجين المثقفين من خلال إغرائهم بأن  تقدم لهم مكاسب مادية تجعلهم يفضلون الدوران فى فلكها ويتخلون عن معارضاتهم الجذرية. 


وفى الواقع الدولة، وبالذات فى مجال الثقافة، لا تمنح مكاسب مادية جديرة بالأخذ فى الحسبان، حتى إن مبالغ مكافآت اجتماعات اللجان أو مكافآت المقالات فى مجلات الوزارة كانت دائماً موضوعاً للتندر لقلة قيمتها.

وكان الأساتذة الكبار يصرحون بأنها لا تستحق عناء الذهاب لتقاضيها. بالإضافة إلى قلة شأن الإغراء المادى كان التعامل مع الوزارة لا يحقق أى امتيازات أخرى.فالمثقف المتعاون معها لا يحوز سلطة إتخاذ قرارات أو التمتع بمكانة إجتماعية مرموقة. 


رغم تهافت تفسير الظاهرة بنجاح الدولة فى تدجين المثقفين سوف يرصد التاريخ الثقافى فى مصر المعاصرة هذا الحراك الملحوظ الناتج عن التعاون بين المثقفين ومؤسسات وزارة الثقافة. بالطبع هناك أسباب موضوعية قادت إلى هذا المسار ولكن لا يمكن إنكار الجهد الذاتى والدور الحاسم الذى أداه الدكتور جابر عصفور عند توليه أمانة المجلس الأعلى للثقافة.

لقد كان عصفور منذ البدء واعياً بالفارق بين المثقف صاحب الرأى الناقد الذى قد يكون اصلاحيا أو ثوريا، معتدلا أو جذريا ، مع العلم بأن جذرية الرأى ليست ضمانا لصحته، وبين صاحب المشروع الثقافى المشغول بإدارته وتوفير عوامل استدامته.

ومن هذا المنظور يتحول صاحب المشروع الثقافى إلى همزة وصل بين المثقف والمجتمع.


لقد انطلق جابر عصفور من فلسفة مؤداها أن الدولة الرشيدة تستفيد من النقد أكثر مما تستفيد من المديح.وكان دائماً يصرح لكل من يدعوه إلى المشاركة فى نشاط أو مؤتمر أو ندوة بأن المجال مفتوح لأن يقول ما يشاء.

وكانت هناك أيضاً علامات على جدية الدعوة. فحينما يكون مقررو لجان المجلس هم عبد القادر القط، وعلى الراعى، وفؤاد زكريا وسمير حنا صادق وغيرهم ومن أعقبهم من القامات الكبيرة. أسماء لها من المصداقية والمكانة ما يجعل من الصعب أن يطلب منها أحد أو حتى يوعز إليها بتدبيج عبارات المجاملة أو اتخاذ مواقف يأباها ضميرهم. كانوا بالفعل ينشدون تقدم الوطن ورفعته، وكانوا بالفعل قلقين على تردى المستوى الثقافى العام المخيم على البلاد وكان مما يزيد قلقهم شعورهم بالمسئولية تجاه الأجيال المقبلة.

وجاءت الممارسة لتؤكد بالفعل على انفتاح المجال لتعبير المثقفين عن أرائهم بحرية دونما إيعاز صريح أو ضمنى بتبنى مواقف معينة.
لم يكن رضا المثقفين عن التعاون مع الدولة سببه المصالح المادية كما لم يكن سببه انصلاح حال الدولة.كان الدافع الأساسى هو شعورهم بأنهم سوف يعملون فى ظل ظروف أفضل- وإن لم تكن مثالية - لأداء مهمتهم. مهمة المثقفين فى كل مجتمع هى النقد.

والغاية من نشاطهم فى المجتمع هو الدفاع عن العدل والحرية لجميع أبناء الأمة. والمعارك الفكرية التى يخوضونها تهدف إلى إنتزاع الإعتراف الاجتماعى بهذه القيم. وكثيرا ما تتهم المؤسسات الرسمية أو الأحزاب بأنها تتشدق بهذه القيم ولكنها فى الواقع لا تعيرها اهتماما. صحيح.

ولكن هذا «التشدق» يكون علامة على الحصول على الاعتراف الاجتماعى بها. ولكن تحولها إلى ممارسة واقعية فعلية أمر لا يتوقف على جهد المثقفين ولكن يكون مرهونا بحركة القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة فى تحقيقها. ومن هنا تكون معارك المثقفين من أجل العدل والحرية هى الخطوة الأولى فى مسار تحويلها إلى مواد دستورية وقوانين ومؤسسات وهى مهام يقوم بها آخرون.

 
 الانخراط فى هذه المعركة الفكرية الكبرى هو ما نلاحظه فى القضايا التى تمحور حولها نشاط المجلس الأعلى للثقافة فى ظل أمانة جابر عصفور. فقد تبنى قضايا حرية الإبداع وتحرير المرأة والمواطنة والدولة المدنية وغيرها بفضل جهود مثقفين كبار من مختلف التيارات حتى شاع لدى فصائل الإسلام السياسى من أنصار الدولة الدينية والتمييز بين المواطنين على أساس الجنس والدين أن المجلس الأعلى للثقافة هو موطن للعلمانيين وكتيبة فكرية هدفها مقاومة مشروعهم السياسى.

وبالفعل ربما كانت الهيمنة الفكرية التى حققتها التيارات الدينية فى المشهد الثقافى هى أحد العوامل الموضوعية التى دفعت المثقفين للبحث عن مزيد من الفاعلية بالتعاون مع المؤسسات الثقافية للدولة. فبالاضافة إلى المجلس الأعلى للثقافة كانت هناك هيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة والأوبرا والمسرح والسينما.


جابر عصفور أثناء إدارته للمجلس لم ينظر إلى العمل الثقافى إلى أنه مجرد سجال فكرى ومناطحة مع إيديولوجية الإسلام السياسى بل كان منظوره للثقافة أوسع وأشمل من ذلك بكثير. وهو ما دفعه إلى مد الجسور مع المثقفين العرب والذين وجدوا فى لقاءاتهم بالقاهرة منفذاً للتدوال فيما بينهم بشأن همومهم المشتركة.

كما حرص على استضافة الكثير من المفكرين العالميين لكى يكون المثقفون المصريون على إتصال بما يجرى فى ساحة الفكر على مستوى العالم.


هذا التفاعل الخصب بين مؤسسات الدولة والمثقفين تجلى فى أبرز أشكاله فى اهتمام الدكتور جابر عصفور بالترجمة. فالاهتمام بالترجمة  كان قد قل فى عقدى السبعينات والثمانينات فى القرن الماضى وصار المرء لا يذكر إلا أعداداً قليلة من المترجمين المصريين ومن الكتب المترجمة. وكان إطلاق جابر عصفور لمبادرة المشروع القومى للترجمة نقطة تحول هائلة. بالطبع هذا المشروع يشير إلى وعى جابر عصفور بدور الترجمة الحاسم فى التنوير والتقدم. ولكن الظاهرة الأجدر بالملاحظة هى تلك المئات من المترجمين الذين إنشقت عنهم فجأة أرض مصر.

لم ينشأوا فى ساعتها ولكنهم ظهروا بفضل نجاح جابر عصفور فى استنهاض همتهم وشعورهم بأنهم يساهمون بالفعل فى مشروع قومى. وطلب منهم دكتور جابر أن يختاروا بأنفسهم ما يريدون ترجمته من كتب يجدر أن تكون بين يدى القارئ العربى.

وهكذا وجدنا مناضلين مثل فخرى لبيب وإبراهيم فتحى وبشير السباعى وخليل كلفت يقدمون ترجماتهم للمجلس الأعلى للثقافة ويحسبونها استمراراً لمسيرتهم النضالية. ومترجمين كبار مثل محمد عنانى وشوقى جلال يفضلون صدور ترجماتهم فى مصر لتحظى بصدى واسع وفاعلية أكبر متخلين عن مكافآت أكثر سخاءً فى دور عربية أخرى.

واستمر الحماس نفسه مع تأسيس المركز القومى للترجمة وتحوله إلى مؤسسة مستقلة بذاتها ذات ميزانية معتمدة من وزارة المالية تقوم بنشر أعمال المترجمين الكبار وتفتح الطريق أمام شباب المترجمين الذين يصعب عليهم الحصول على فرصة لنشر ترجماتهم فى دور النشر الخاصة كما تقوم بتدريب الخرجين على فن الترجمة. 


لم يكن المثقفون إذن من «الطماعين» الذين يبحثون عن مكاسب مادية ولا من «الغافلين» الذين يسهل خداعهم ولكنهم بالعكس كانوا مدركين لأهمية التعاون مع المؤسسات الثقافية للدولة فى لحظة حرجة من تطور المجتمع فى خضم الصراعات الداخلية والعالمية. 


تحية لروح جابر عصفور المثقف الكبير الذى قام ببناء هذه الجسور التى أثمرت إنجازاً فكرياً مهماً فى تاريخنا الثقافى المعاصر.

اقرأ ايضا | محمد شاهين يكتب : "عصفور" قامة شامخة في مشروع الثقافه العربية