محمود الورداني يكتب: مع السلامة يا عم جابر

محمود الورداني يكتب : مع السلامة ياعم جابر
محمود الورداني يكتب : مع السلامة ياعم جابر

قبل إجبار مبارك على الرحيل فى فبراير 2011 تشكّلت وزارة في محاولة كانت الأخيرة قبل السقوط الحتمي، وحمل جابر عصفور فيها حقيبة الثقافة، فبادرت بالاتصال به غاضبا، وكانت علاقتنا تسمح بذلك، وعبّرت له عن  غضبى ورفضى بكل وضوح بأن يرضى لنفسه أن يشارك فى هذه الفضيحة التى تنتقص منه. بادلنى غضبا بغضب، وقال إن هذا هو موقفه واختياره، وأنهينا اتصالنا، وبعد أيام (فقد أمضى جابر ثمانية أيام فقط فى آخر وزارة فى ظل حكم مبارك) أذيع خبر استقالته، قبل سقوط الوزارة ونظام مبارك، ولا أتذكر بالتحديد هل بادرت أنا بالاتصال به وتحيته، أم أنه هو الذى اتصل بى مشاكسا!!

 ذلكم جابر عصفور..
ربطتنى به صداقة ومحبة خالصة، ولم أحصل على أى مصلحة أو سفرية أو نشر، أثناء وجوده على رأس عدة مؤسسات ثقافية هامة، وبسبب رفقتى لصديق عمرى الشاعر الراحل محمد صالح، أقرب الناس لجابر، تدعمت الصلات بينى وبين العم جابر منذ سنوات طويلة، ولطالما التقينا وسهرنا معا فى أماكن عدة، قبل أن يتولى أى عمل فى وزارة الثقافة.

أود أن أشير فى البداية إلى أن جابر لم يدّع يوما أنه مناضل فى الأحراش، ولم يشغله أمر كهذا مطلقا. جابر مثقف وأستاذ جامعى إبن أسرة مستورة، وتدخل جمال عبد الناصر ليحقق له أمنيته بدخول الجامعة، صعد إلى منصبه كأستاذ جامعى بجهده وكفاءته.

وتظل رسالته للدكتوراه عن طه حسين- المرايا المتجاورة- أحد أهم الأعمال الفكرية عن العميد ودوره (وبالمناسبة، ظل طه حسين بالنسبة له قدوة ومثَلاَ، وكتب هو أن طه حسين نفسه شارك فى العمل من خلال الدولة وبواسطتها لتحقيق أحلامه وأهدافه.

وأنه تولى وزارة المعارف ليحقق تلك الأهداف).
يخطئ من يتعامل معه بوصفه معارضا للنظام أو مناضلا ضد نظام السادات أو مبارك، فضلا عن أنه لم يدّع ذلك أصلا، لكنه فى الوقت نفسه كان عارفا بأقدار الناس، ومؤمنا أشد الإيمان بضرورة التعامل مع كافة الاتجاهات والتيارات، وليس مؤمنا بإدخالهم الحظيرة، وهى عبارة الفنان الوزير السابق فاروق حسنى وليست عبارته.

ليس ضروريا أن تكون اختياراتى أو اختيارات الآخرين هى اختيارات جابر، وكثيرا، بل وكثيرا جدا ما اختلفنا بشدة. بوضوح كنت على خلاف معه طوال الوقت، لكن هذا لم يمنع صداقتنا واحترامنا المتبادل.

رأى منذ اللحظة الأولى لتعاونه مع وزارة الثقافة، وفى كافة المناصب التى شغلها، أنه يمكن له تحقيق أفكاره وقناعاته من خلال الدولة. أعاد للمجلس الأعلى للثقافة تأثيره وأهميته، بل وأشرف بنفسه على إعادة بنائه حرفيا - أى كمبنى- وتشكيل لجانه، وأسس المركز القومى للترجمة. وأعاد العلاقة والصلات بين الكتاب والأدباء العرب ومصر، بعد القطيعة التى حدثت بسبب كامب ديفيد.

وفى الوقت نفسه واصل دوره كأستاذ جامعى محترم، ولطالما أشرف على وناقش الرسائل الجامعية لعشرات وعشرات من الطلاب من أجيال مختلفة، وهاهم تلاميذه المباشرين يملأون الدنيا.

لجابر عصفورأيضا أكثر من ثلاثة عشر كتابا نقديا ستبقى للأجيال القادمة، أما أعداد مجلة فصول أثناء رئاسته لتحريرها فلن يبلوها الزمن، خصوصا الأعداد التى أصدرها عن الأدب والحرية وألف ليلة، فهى وثائق وليست مجرد دراسات نقدية.

ومازالت صحف الحياة والأهرام ومجلات العربى وفصول والأقلام تضم عشرات الدراسات التى لم تُجمع فى كتب، وهو دور على تلاميذه ومحبيه أن يقوموا به.

حاول الراحل التأثير وتحقيق أفكاره فى التنوير والحرية من خلال المناصب التى شغلها، وإذا كان قد فشل فى تحقيق أغلبها، فهو ليس مسئولا عن فشله.

لا أدافع عن أفكار واختيارت جابر عصفور، لكننى أدافع عن حقه فى الاختيار والاختلاف مع كثيرين، وأنا أولهم ولطالما عارضته واختلفنا، ولطالما احترم خلافاتنا ورحّب بها.

عم جابر.. كتّر خيرك على كل ماقدمته .. مع السلامة يا كبير القامة..

 

اقرأ ايضا | محسن جاسم الموسوى يكتب : مَنْ نبكى؟