محسن جاسم الموسوى يكتب عن رحيل جابر عصفور : مَنْ نبكى؟

محسن جاسم الموسوى يكتب : مَنْ نبكى؟
محسن جاسم الموسوى يكتب : مَنْ نبكى؟

يجىء رحيل أخى وصديقى الأبدى المفكر والناقد المتميز جابر عصفور، عاصفا ومحزنا، لكنه جاء أيضا تتويجا لرحلة فى النقد الأدبى الجاد والفكر الخلاق ميّزته حتى قبيل إنجازاته المعروفة فى دراسة الشعر وفنه سواء فى رسالتيه للماجستير والدكتوراه، أو الدراسات المتفرقة التى ارتقت بالنقد الأدبى ممارسة وتفكيراً. كان الدكتور جابر عصفور يضفى على الكتابة حبوره وحضوره الشخصيين وهو فى اشد ممارسة لتقصى المراجع ومضان الراى والاجتهاد. ولك ان تقرأه لتراه يتراءى خلف الكلمات والاشياء من دون ان يدع هذا الحضور يكايد الدقة فى الرصد وموضوعية البحث وجدل المناقشة، ليس ذلك فى قراءاته لفن الشعر وثقافة المقموعين والقناع فى الشعر والشعرية فحسب، وانما فى (المرايا المتجاورة) التى يتألق فيها بصفته امتداداً متطوراً لمُنجز طه حسين ومسيرته. وهذا ما يقودنى إلى حضوره رئيساً لتحرير مجلة فصول، ثم أمينا عاماً للمجلس الأعلى للثقافة فى مصر.

ارتقت المجلة بأعدادها الخاصة وأصبحت فعلا مناراً ثقافياً عربياً، فيها من دون تقليد امتدادا لـ (الكاتب المصري)، ولكن ببلورة جديدة تنشد مستجدات النقد والفكر العربى فى عمق تحاوره مع الاتجاهات العالمية. وشغل المجلس ساحة الثقافة، وتقاسم مع الهيئة المصرية العامة للكتاب والمؤسسات الثقافية والفنية والاكاديميات ساحة الثقافة وهو يستعيد لمصر حضورها الثقافي؛ ومن منٌا لا يتذكر مؤتمر كتابات المرأة العربية؟ ومستقبل الثقافة العربية، والرواية العربية، والشعر العربى، وندوة ابى حيان التوحيدي؟ ومن لا يتذكر ذلك الرفد المتصل للترجمة التى جاءت بكتب عديدة وإصدارات لامعة أكدت حضورها فى الأفق العالمى والفضاءات الثقافية لتأتى هذه المرة بلغة عربية ميسورة للقراء العرب؟ كان جابر عصفور صاحب مشروع وقضية، ومنح نفسه لذلك.
هل كان ذلك طريقا وعرا؟ ليس للدكتور جابر عصفور. لقد كنت صديقه وصفيّه لسنوات طويلة قبيل التحاقى بجامعة كولومبيا فى نيويورك. وكم كان الكتاب والشعراء يخصوننى بشكواهم وطلباتهم لانقلها مشفوعةً بدعمى وتأييدى إلى صديقى الذى لا أريد أن أقول عنه إنه أفل ورحل، وغاب وهجرنا جميعا. لا  انه يحظر بذلك الحضور الثقافى وبتلك الابتسامة وضحكة الطفولة التى تجعله شابا لا تليق به كهولة أو يطاوله موت . وعندما أريد أن ارسم شجرة نسب لذلك الحضور، أراه فى امتداد طه حسين اولاً ولمعان شكرى عياد لاحقاً، ودراية لويس عوض، وأيضا فى خط اجتهاد عز الدين إسماعيل ومسعاه الرائد فى تطوير نقد الشعر نقداً فنيا متميزاً. وله مع صديقى الاعز الدكتور سمير سرحان شراكة أيضا فى براءة النية وحسن المعشر ونكران الذات.  
رحلوا ولم يرحلوا، كما لم يرحل رجاء النقاش، ولا الذين يحضرون فى أذهاننا دائما تألقاً شخصياً ونوراً ثقافيا وتطلعاً إلى المستقبل. مَنْ نبكى.

؟ قد نبكى حال أمة تصغر أمام النوائب وتنتهك من بين أبنائها أولا، لكننا لن نبكى الكبار الذين تركوا علامات مميزة فى صميم فعل الحياة الثقافية وختموا حاضرنا ببصمات الفرح والحبور والذكاء والاجتهاد، وتركوا لاجيال لاحقة سبلا وزادا.
تلك رحلة الدكتور جابر عصفور، وله علينا دَيْنُ الاستمرار والمكابدة والولع بالثقافة والحياة والعطاء المشفوع بمرح المحبين وجذل الكرماء.

منذ أن قرأت جابر عصفور للمرّة الأولى، وكانت تلك السانحة الثرّة كتابه «مفهوم الشعر: دراسة فى التراث النقدى»، 1978؛ تنامى لديّ فضول معرفى من نوع خاصّ، جامح ودؤوب وبالغ الإلحاح، فى أن أتعقب ما سيتكشف عند هذا الرجل من آراء ومواقف وكتابات تسهم تباعاً فى تكوين صورة أقرب إلى المثال العالى للناقد والمفكر الأدبى العصرى كما أتطلع إلى إبصاره وقراءته والتعلّم منه فضلاً عن الرصانة فى الاتفاق معه أو الاختلاف. وكان يقينى أنّ أفضل ما يمكن للنقد أن ينجزه هو واحدة من مهمتَين، فإذا قام بهما معاً فليس سوى الخير على الخير، وكنت وما أزال أرى فى شخص عصفور أحد أرفع نماذج ذلك الناقد الأمثل، حامل الرسالتين معاً.

المهمة الأولى هى أنّ الناقد، المدرّب والمثقف والمسلّح بذائقة متقدمة وديمقراطية ومرهفة وحساسة، يقترح على القارئ قراءة نقدية، من بين قراءات أخرى شتى قد تكون بعدد النسخ المطبوعة من النصّ المقروء؛ مع فارق حاسم هو أنّ قراءة الناقد ملزَمة بأن تسخّر طرائق دراسية أرقى، وأن تقترح خلاصات عن النصّ وتقديرات حول خصائصه المختلفة على صعيد المضامين والأشكال والأساليب والتجارب التعبيرية.

تسلّح القارئ بعدّة إضافية وضافية تمكّنه من استخلاص قراءة من طراز أعمق وأوفى وأكثر إخلاصاً للنصّ ووفاء بحقوقه ومزاياه.

 

ولقد زوّدنى عصفور بأمثلة عديدة، عميقة وفريدة واستثنائية، حول حُسْن أداء هذه المهمة الأولى؛ وأكتفى فى هذه العجالة بالإشارة إلى الدراسات التى تضمنها كتابه «رؤى العالم: عن تأسيس الحداثة العربية فى الشعر»، 2008، وخاصة قراءته الثاقبة لقصيدة الشاعر السورى محمد الماغوط، وتفكيك (أو بالأحرى: تشريح) انتصاف الوقت لدى أحمد عبد المعطى حجازى، وقلق الوجود فى وعى المدينة لدى صلاح عبد الصبور، ورمزية الليل من حيث الأصول والدلالات فى شعر نازك الملائكة.    

 
مهمة الناقد الثانية، من خلال دراسة العمل الأدبى وبعد إنجاز القسط الأعظم والأوفى من واجبات المهمة الأولى، هى أن يفلح فى استنباط أى مقدار من التأسيس النظرى المستوحى من خصائص النصّ وجمالياته.

ولكن ذاك الذى يمكن الاستئناس به أو توظيفه من دون قسر أو تطبيقه من دون سابق تعميم آلى على نصوص أخرى، لا يُشترط فيها أن تكون على صلة بالنصّ الأمّ الذى أتاح للناقد أن يستنبط.

وهذه مهمة أرقى، غنى عن القول، تتجاوز الاكتفاء بدراسة النصّ واقتراح قراءة معمقة فيه، وأشير دائماً إلى نظرية «المعادل الموضوعي» التى اشتقها ت. س. إليوت ضمن مقالة قصيرة تناولت الجانب العاطفى فى شخصية هاملت كما رسمها شكسبير؛ لكنها باتت جوهرية فى دراسة غالبية النصوص ذات المعطيات المماثلة أو المشتركة، سواء أكانت مسرحية أم روائية أم شعرية.

وأياً كان اختلاف المرء أو اتفاقه مع أطروحة عصفور حول «زمن الرواية»، ثمّ تطويرها لاحقاً (ولكن بعد اختمار 20 سنة!) إلى «زمن القصّ» أو «شعر الدنيا الحديثة»، فإنّ الكثير من المهاد النظرية استُجمع بعدئذ من وحى ذلك التنظير؛ ليس على يد عصفور وحده، بل على نطاق أوسع وأكثر تعدداً.

وفى ضوء مناهج أكثر عصرية ورقيّاً حول فرضيات السرد والسرديات، وهنا جانب لا يقلّ أهمية بصدد حيوية مهمة الناقد الثانية.


وفى الوسع اقتباس أمثلة أخرى إضافية، بالطبع، أكثر تنوّعاً وامتداداً من حيث الزمن والأنواع الأدبية والاشتغالات النظرية، حول أمل دنقل ونزار قبانى وسعدى يوسف وأدونيس ومحمود درويش وعبد الوهاب البياتى وشعراء أبولو والإحيائيين والأجيال اللاحقة من شعراء مصر والعالم العربى.

لكنّ المقام هنا لا يسمح إلا بما سبق، مع التشديد على صفة فكرية ذات صلة بفلسفات شتى من حول الأدب، تخصّ سياسة المعنى وإشكاليات الاستقبال وجدليات الثقافة ووطأة التاريخ وسياقات ما بعد الاستعمار وتحديات الناقد المعاصر، وهذه وسواها ظلت على الدوام قرينة كتابات عصفور النقدية، التنظيرية منها والتطبيقية.

وإذا كان كتاب «المرايا المتجاورة: دراسة فى نقد طه حسين»، 1983، هو العمل الفكرى الأبكر الذى اقترحه عصفور على مشهد قراءة عميد الأدب العربى، فإنّ خلفيات الكتاب المعمقة حول التنوير والعقلانية والشكّ والحداثة والمشروع الحضارى لم تتوسل المطارحة السجالية الجسورة، فحسب؛ بل كانت كذلك، وفى الجوهر ربما، تضيف إلى مهمتَى الناقد واحدة ثالثة تضعه فى قلب تجديد الخطابات المختلفة، سواء تلك التى تكلست وجمدت وركدت، أو تلك التى تميّعت وتصَبْيَنت وانفلتت من كلّ عقل وعقال.

اقرأ ايضا | مصطفي الرزاز يكتب : جابرعصفور : رائد‭ ‬تنويرى