شعبان يوسف يكتب : جابر عصفور التفكير خارج الصندوق

شعبان يوسف يكتب : جابر عصفور التفكير خارج الصندوق
شعبان يوسف يكتب : جابر عصفور التفكير خارج الصندوق

فى ما لا يقل عن ثلاثة أشهر، فقدت الحياة الفكرية والثقافية والأكاديمية المصرية، اثنين من كبار الشخصيات الفكرية، يكاد كل واحد منهما أن يكون طودا شامخا وحده، رغم التباينات التى تصل إلى حد التناقضات.

الأول هو الدكتور والمفكر حسن حنفى، والذى فقدناه فى 21 أكتوبر الماضى، ودكتور جابر عصفور الذى فقدناه بضراوة وقسوة فى 31 ديسمبر، وكأن العام 2021 أصرّ ألا يمضى دون أن  يضع قراره الفاجع بتغييب الناقد والأستاذ الأكاديمى والمفكر والوزير والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة من24 يناير 1993 حتى مارس 2007.

ورغم أن د حسن حنفى، ود جابر عصفور، يختلفان فى الثقافة والتوجه والأداء، إلا أنهما يشتركان فى الأستاذية والتأثير الحىّ، والإخلاص والتفانى فى كل ما يقدمانه من فكر وثقافة ومستوى أكاديمى.

واشتباك حقيقى وفعلى مع الطلّاب والمثقفين وكافة المنشغلين بأمور الفكر والثقافة فى كثير من المجالات، دكتور حسن حنفى ظلّت أدواته خارج المناصب والمسئوليات الحكومية، ولكن الدكتور جابر كان يرى أن التغيير لا بد أن يكون من خلال مؤسسات الدولة، وأزعم أن جابر عصفور أن يطوّع تلك الأدوات المؤسسية إلى ما كان يصبو إليه من فوائد تعود على الثقافة والمثقفين.

وذلك من خلال المجلس الأعلى للثقافة، والذى كنا لا نعرف أين يقع ذلك المجلس، أتحدث عن نفسى، وعن فريق واسع أعرفه وأعرف أن ذلك الفريق كان فاقدا للعلاقة بشكل شبه تام مع المجلس الأعلى للثقافة، وربما مع كافة المؤسسات الرسمية الأخرى، مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب، أو الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأزعم أن قيادة الدكتور جابر عصفور للمجلس، كانت إحدى الخطوات المشجعة والجاذبة للمثقفين والكتّاب والمترجمين.

وأظن أن جابر عصفور قدّم الكثير من المنجزات الثقافية، والتى لا يمكن إدراجها ورصدها بأى تلخيص، فأى اختصار لمنجزاته، سيكون مخلّا بالطبع، لكن يمكن الإشارة إلى بعض الأشياء، فعلى سبيل المثال، مافعله بالنسبة للترجمة، كان مهولا، ولم يسع مسئول من قبل، أن يقنع الدولة بأن الاهتمام بالترجمة، وحل مشكلاتها، لا بد أن يمرّ أساسا بالاهتمام بالمترجم، إذ أنه من بين المهام التى حملها على عاتقه، هى أن يعطى المترجم حقّه بالقدر الذى يليق به.

ويليق بمشروع ترجمة محترم، وعندما أتى جابر إلى المجلس، كانت المؤسسات الحكومية مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب، تعطى مكافأة للمترجم فى غاية الهزال، حيث كان تعطيه ستة مليمات عن الكلمة.

وكان هذا الأمر محزنا للغاية، لذا اقترح آنذاك إنشاء المشروع القومى للترجمة على فاروق حسنى وزير الثقافة آنذاك، وعمل على رفع أجر الترجمة إلى خمسة وعشرين قرشا على الكلمة الواحدة، وهذه كانت خطوة شديدة الأهمية، عملت على جذب مترجمين متخصصين وكبار.

كانوا يعملون لحساب مؤسسات أخرى تعمل على مكافأتهم بشكل يليق بهم.

وبالفعل بدأ المشروع ينهض على قدم وساق، وصدر بالفعل الكتاب الأول عام 1995 عن المشروع، وهو كتاب الناقد الفرنسى الشهير جون كوين، ترجمة الناقد الدكتور أحمد درويش، وفى بداية المشروع كان يموّله صندوق التنمية الثقافية، ولكن بعد صدور ثلاثة كتب.

تقاعس الصندوق لأسباب بيروقراطية عاقت الصندوق من تقديم أى عون، فتبرع عدد من المثقفين الكبار بمبالغ ساعدت فى إنهاض مهمة المشروع، وكان أول المتبرعين الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل، إذ أنه دفع خمسة وعشرين ألف جنيه مصرى، مما دفع المعاونين الأوائل أن يجدّوا فى العمل بشكل قوى، وعلى رأس المعاونين فى إنهاض ذلك المشروع، كان الأستاذ لمعى المطيعى، والدكتورة فاطمة موسى أستاذة الأدب الانجليزى بجامعة القاهرة.

ومن بين الطموحات التى سعى الدكتور عصفور إلى تنفيذها، هى إسناد ترجمة كتاب «المثنوى» للشاعر الفارسى العظيم جلال الدين الرومى، للدكتور ابراهيم الدسوقى شتا.

وهذا الطموح لم يكن طموحا فحسب، بل كان حلما لكافة المثقفين المصريين، أن يقرأوا هذا الشاعر والمتصوف الفذ عبر ترجمة صحيحة، يقوم بها واحد من العارفين بأسرار تلك اللغة التى كتبت بها تلك الأشعار.

ومن كان فى ذلك الوقت أكفأ من العلّامة الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا، والذى عكف على الترجمة، وأفنى جهدا عظيما فى تلك الترجمة، والتى صدرت فى ستة مجلدات، وتقاضى عليها أعلى أجر حصل عليه مترجم فى تلك الفترة، وكان ستين ألفا من الجنيهات، مما أذهل الإدارة المالية التى لم تكن تعرف تلك الأرقام على مدى تاريخها، ولولا قوة جابر.

وقدرته على إقناع الجهات العليا بأهمية ذلك الأمر الخاص بالترجمة، ما كان حدث بتلك الطريقة الكريمة والسريعة، وهكذا وجد المترجم نفسه يحصل على حقوقه بذلك الشكل الكريم، وأزعم أن شهادة أى مترجم تعامل مع المجلس الأعلى فى تلك الفترة، سيذكر جهود الدكتور جابر فى هذا الشأن.


وأنا لا أسوق هذه المسألة على سبيل الحصر، بل هى واحدة من مسائل كثيرة أخرى استطاع د جابر بجهوده الجبارة أن يحولها من مجرد أحلام وطموحات وأمنيات، إلى حقائق تتحدث على أرض الواقع، وعلى سبيل المثال _أيضا_ مشروع تفرّغ الكتّاب والمبدعين، ارتفعت مكافأة الكتّاب إلى مبالغ طائلة، واستفاد من تلك المنحة مئات المثقفين المصريين، والذين كانوا يعيشون فى أشكال كثيرة من الضيق، فكانت تلك المنحة التى تأتى دون شروط إحدى الحلول.

والتى لم تكن منحة بالمعنى الفج، بقدر ما كانت حقوقا مشروعة، ومتاحة لكل من لديهم الكفاءة لنيلها، وبالطبع هناك حدثت تجاوزات، لكن جابر عصفور لم يكن مسئولا عنها، بل كان يعمل على تذليل أى عقبات بيروقراطية من أجل خدمة الثقافة والمثقفين، لكن البعض من الكتّاب والفنانين حصلوا على تلك المنحة، دون أن يكونوا محتاجين إليها، وهذا كان شأن اللجان التى كانت ومازالت تتحكم فى تلك الأمور.

والتى لا يستطيع شخص المسئول الأعلى أن يتابعها، ولدىّ شخصيا حكايات عجائبية كان يرتكبها كتّاب ومثقفون خارج السياق الطبيعى.
وعلى المستوى العام استطاع جابر عصفور أن يضع ميزانية كبيرة للمؤتمرات الثقافية الكبرى، فكانت تلك المؤتمرات مناخا ثقافيا كاملا يعنل على إشراك كثير من الكتّاب والباحثين والمبدعين الذين لم يكن لهم أى مجالات للتعبير عن ذواتهم الثقافية والإبداعية، فحدثت مؤتمرات عظيمة للويس عوض وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور وتوفيق الحكيم ومحمد حسن هيكل وغيرهم، فضلا عن مؤتمرى الشعر والرواية اللذين كطان ومازال يشارك فيهما مبدعون ونقاد من مصر، ومن شتى أركان الوطن العربى، بل أيضا من خارج الوطن العربى.


هذه إشارات عامة وعابرة على سبيل المثال، وبالطبع فكل هذه المنجزات على أرض الواقع، كان لا بد أن تنطوى على تجاوزات صغيرة أو كبيرة، وهذه التجاوزات أيضا طبيعية.

وربما فى مناسبة أخرى غير مناسبة الوداع يكون لنا بعض الأحاديث المفصلة، نتلك الأحاديث التى أثرناها فى حياة ذلك الرجل العظيم، والذى كان يتقبلها ويناقشها، ويتفق مع بعضها، ويختلف مع بعضها الآخر، ولكننا نشهد بأنه كان مخلصا إلى حد لا حدود له بدور الثقافة فى تقدم المجتمعات.

وخاصة فى مجتمعاتنا التى تعانى من كثير من الخلل والعبث، فكانت مهامه الأساسية وهى الكتابة والعمل الأكاديمى والفكرى، تقوم بذلك الدور على أكمل وجه.

اقرأ ايضا | د.أحمد مجاهد يكتب : حفيد طة حسين