طالب الهندسة مات حزنًا على وفاة والده بالشرقية

الضحية
الضحية

إسلام عبدالخالق

يرى الجميع أن الموت آفة ومصيبة، لكن وحده كان يرى الموت نعمة وغاية. يهرب الجميع من الموت خوفًا وفزعًا، لكن وحده كان يقترب منه أملًا وهدفًا، المستقبل فى نظره بعض فتات لا قيمة لها، والعمر بالنسبة له محض كذبة لا يريد أن يكملها.

وصل مهندس الشرقية لهذه الفلسفه بعد وفاة والده. وكثيرًا ما قال: «موت أبويا قصم ضهري».. وهذا ما جعل الكثيرون يقولون أن «أحمد» لن يستطيع تجاوز هذه المرحلة أبدا.. وهو ما كان.

يأتي الإنسان إلى الدنيا لا يعرف سندًا غير والده، وعلى الرغم من شقاء الأم وتعبها في الحمل والولادة والتربية إلا أن الأب يظل السند الدائم والدعم اللا نهائي لابنائه، يزود عنهم بكل ما يملك من طاقة في العمل وقدرة على التحمل ليظلوا سُعداء، لكن أحمد، ذاك الفتى الذي تخطت أعوامه العشرين ربيعًا، كان ممن ابتلاهم الله بخسارة الأب وهوَّ لا يزال يافعًا بالكاد أتم ربيعه السابع عشر وقت موت والده، ليدخل الفتى نفقًا مظلمًا من الحزن والاكتئاب حتى لحق بمن كان سببًا في مجيئه الدنيا بنطفةٍ من صُلبه.

إن سألته عن حياته قبل وفاة والده وبعد وفاته، سيقول لك بملء فمه أن الفرق بينهما كبير، قبل وفاة والده كان السند حاضرًا، والأمل موجود، والأحلام تنفذ قبل أن يحلم بها، لكن بعد وفاته لم يبق السند، وانتهى الأمل إلى غير رجعة، ودخلت النفس في غياهب مظلمة لا تستطيع فيها أن تحلم من الأساس.

هذا الإحساس الذي شعر به «أحمد»، البالغ من العمر واحد وعشرين عامًا، لم يكن إحساسًا جديدًا على من فارقه والده، لكن «أحمد» على وجه الخصوص لم يستطع الخروج من هذا النفق المظلم سالمًا، بل أنه خرج منه محمولًا على أربع، ميتًا.

عامان

تلك الرحلة بكل ما تحملها من آلام وتلقبات وعذاب عاشها «أحمد» طوال أربع سنوات، حاول فيها بكل الطرق أن يتجاوزها معلنًا بدايته الجديدة، لكنه كان يسقط فى كل محاولاته فور تذكر موقف بينه وبين والده، وكأنه كان يقف بين شعورين، أحدهما التغلب على أحزانه والأخر الاستسلام لعذابه، وبعد أربع سنوات كاملة من هذا الصراع استسلم لعذابه، ورحل.

وسط بندر مركز ومدينة أبو كبير بمحافظة الشرقية، وبينما انتصفت ساعات نهار الأحد الماضي، كان الشاب أحمد عاطف بدوي، يجلس في غرفته وحيدًا والحزن يكسو ملامحه؛ يجتر كل ما عاشه من آلام وأوجاع منذ رحيل والده قبل أربع سنوات، يحفظ عن ظهر قلب ما عاناه من وحشة ووحدة لم يؤنسه خلالها بني البشر أجمعين. وهوَّ بينهم يئن وتشكو روحه من الحزن واليأس والهم، يتيمًا لا يجد من يكفُل شعوره الواهن، صاحت نفسه تأمره بالخلاص من العذاب والحيرة والاكتئاب والآلام بالموت. وتمناه كما لو أنه لم يتمنى غيره قط، حتى صدقت نفسه تلك الأمنية دون غيرها، واستسلم قلبه استسلامه الأخير،  معلنًا نهاية ما يقاسيه الفتى.

لحظات مرت كالدهر ما بين الموت والتفكير طويلًا فيما سبق، سرح الفتى ليتذكر كيف كانت الحياة قبل سنواتٍ أربع، عاد شريط اليوم الأخير لوالده يمر عليه قبل أن يفارق الأب الحياة ويرحل تاركًا له دنيا لا تروي ظمأ روحه أو يجد فيها من يريحه ويسكن إليه ويشكو إليه همه وآلامه، وذهب بالذاكرة إلى طريقين عاشهما معًا رغم اختلافهما كليًا، طريق بلغ خلاله من التفوق والتميز مبلغًا في درجات تحصيل العلم واستذكار الدروس بالمرحلة الثانوية في العامين التاليين لوفاة والده، حتى حصد مجموع درجات آهله بجدارة ليحتل الصفوف الأولى بين طلاب كلية الهندسة جامعة الزقازيق، لكن لعامين متتالين كذلك رفض وامتنع عن دخول الامتحانات، وبين هذا وذاك سنواتٍ عجاف لم يعرف فيها طعم الفرح أو الراحة، وزادت خلالها نوبات الاكتئاب حتى أطفأت روحه قبل أن ينطفيء عداد أنفاسه جراء ما فكر فيه، وقراره بينه وبين ذاته رضوخًا لصوت داخلي أخذ يعيث في عقله الباطن حتى دفعه للموت دفع البارود لطلقات النار.

النهاية

رضخ الشاب لما تأمره به نفسه واقترب بخطواتٍ حثيثة نحو نهايته،  تلك النهاية التي تمناها ونالها، خفتت أنفاسه شيئًا فشيئًا، ولم يفلح إسعافها قبل أن يلفظ ما تبقى منها، بعدما التف حوله أهل المنطقة يستفسرون قبل أي يحوقل الجميع ويدعو له بالرحمة.

رحل الفتى عن الدنيا ومن فيها ليلحق بوالده، لكن شتان الفارق بين وفاةٍ ووفاة، إلا أن النهاية كانت كما تمناها الفتى ولو بلسان حاله؛ إذ دُفن إلى جوار والده وجمع بينهما قبرًا واحدًا كما لو كانت غاية الشاب في ذلك، ظنًا بأن القبر أهون بكثير والموت من الحياة، تاركًا سيرة يشهد له فيها الجميع بعدم اقترافه أي خطأ في حق أحد.

هل هناك أهم من الأب؟ كان هذا السؤال يراود مهندس الشرقية صباح مساء، ويسأله للكثير، والجميع كان يجيبه بالنفي، تلك الإجابة فعلا مقنعة، ولا يوجد ما هو أهم من الأب، لكن كانت تلك الإجابة تزيد من قناعات أحمد، بل رأى فيها صحيح الطريق وصواب الفكرة، وتلاقى هدفه مع فكرة الرحيل، لأن رحيله معناه آمران لا ثالث لهما، أولهما الخروج من دنيا لا يريدها، ثانيهما لقاء والده الذي يتمنى لقياه، وكلا الأمرين كانا بالنسبة له غاية. حتى أن في آخر أيامه استسلم لفكرة الموت استسلاما نهائيا، آثر ذلك على حياته تأثيرًا جعله يدخل في نفق مظلم بإرادته، ويوم أن خرج، خرج محمولاً على أربع .. ميتا.