وتطلب مني هذه المجاملات أيضاً أن أتلف أعصابي وأتلف أخلاقي فأتحمل شخصاً كريهاً، واحيي شخصاً أبغضه أو أحتقره. بلادنا كثيرة المجاملات، وهي لذلك كثيرة النفاق والرياء، والامم المستعبدة الذليلة اكثر من غيرها نفاقاً ورياء، وهذا طبيعي ومعقول لأن الضعيف حين يريد أن يستمر ضعفه يجامل القوي، وينافقه ويرائيه، وفي مصر ضعفاء كثيرون، بل الامة كلها ضعيفة، لأن كبراءها وقيادتها يتملقون فيفرضون عليهم الحاكم ويجعلون منه فرعونا واذا دققت النظر قليلاًَ وجدت هذه الظاهرة متغلغلة في جميع مرافق الحياة في مصر، في المصالح والدواوين ودوائر الاعمال الحرة، فالعمدة يجامل المأمور وينافقه لانه يخشاه، واهل البلد يجاملون العمدة وينافقونه لانهم يخشونه، والبلطجي الجبار في القرية يحظي بمجاملات لا يحظي بها رجل طيب مستقيم لأن الدافع علي المجاملة ليس احساس المدنية الرقيق بمشاركة الغير في افراحه وأحزانه، وانما الخوف من البطش واتقاء الغضب. واذا مات ابن ابن اخي الوزير وهو متربع في منصبه نكست الاعلام وجري الناس من كل صوب يقدمون له التعازي، ولكن اذا مات ابنه هو بعد ان يعتزل منصبه تلفت حوله فلا يجد عشر معشار من عزوه في ابن ابن اخيه. ولا يمكن ان نحصر الامثلة علي هذا الخلق فهي كثيرة ويستطيع كل واحد منا أن يجد لها عشرات كل يوم وكل ساعة فهي متغلغلة في حياتنا تغلغلاً عجيباً، وهي كلما ازدادت كانت علامة ضعفنا وريائنا ونفاقنا، وكلما وجدت شخصاً يكثر من المجاملات احكم – دون تردد – أنه منافق وإنه سييء الخلق. تذكر الحوادث التي مرت بك في الحياة، وتذكر الاشخاص الذين تخالطهم تجد أن المخلوق الذي يجيد »‬الاتيكيت» والذي يعرف جيداً أن يحني رأسه امام الرؤساء هو أشر الناس الذين اتصلت بهم. والمجاملات إلي جانب ذلك تكلفنا كثيراً، لأنها رياء ونفاق كما قلت، فقد استقبل في مكتبي رجلاً ثقيلاً، وقد يكون وجوده مسيئاً لي، بل قد يكون اكثر من ذلك، فقد يضيع علي عملي، أعني اني قد اخسر بوجوده مالاً ووقتاًَ، ومع ذلك تمنعني المجاملات أن أطرده والمجاملات تطلب مني ان ادعو المارة من معارفي إلي الجلوس معي علي القهوة مثلاً، وقد يكون بعضهم ثقيلاً فيطلب »‬كازوزة» أو »‬جيلاتي» فأضطر ان ادفع للواحد منهم خمسة جنيهات بينما لا أدفع لنفسي الا جنيهين فقط، والاجنبي لا يفعل ذلك. والمجاملات تقتضيني أن استدين لاقدم لضيوفي اكلاً فاخراً حتي أنجو من ألسنتهم، وتقتضيني أن أجعل في بيتي غرفة او غرفتين وقفاً علي هؤلاء الضيوف، وتقتضيني ان اعطل عملي واقف في الشارع لأصافح شخصا لا أحبه وان ألح في دعوته إلي تناول فنجان من القهوة او كوب من الشاي، وتطلب مني هذه المجاملات أيضاً أن أتلف أعصابي وأتلف أخلاقي فأتحمل شخصاً كريهاً، واحيي شخصاً أبغضه أو أحتقره.. وليس في استطاعتنا أن نلغي هذه المجاملات مرة واحدة لانها ضريبة ندفعها عن ضعفنا وعجزنا، وهي تراث قرون طويلة من الذلة والاستسلام، ولكننا متي حققنا اهداف ثورتنا المجيدة، وخرجنا من الازمة الاقتصادية التي تخنقنا الآن، سنجد هذه المجاملات تضعف من نفسها شيئاً فشيئاً ولكن في بطء. ومتي ألغينا هذه المجاملات التي يدفعنا اليها النفاق والرياء والمخادعة، ستحل محلها مجاملات قليلة يدفعنا اليها سمو في الخلق والشعور، ودقة في الذوق والحضارة والتعاون. حينئذ سيكون كل واحد منا مستقلاً في ذاته، له كرامته وتفكيره.!