فإذا ماجاءت تحركات ميركل وأولاند استشعاراً لخطورة الأوضاع الأوروبية والدولية في ظل تدخلات الولايات المتحدة الأمريكية، فقد سبقهما عبدالفتاح السيسي و30 يونيو للتنبه لهذه الحقيقة طلبني علي عجل لأتابع ندوة سياسية في البرنامج الثاني للتليفزيون الألماني، منبهاً ألا تفوتني هذه الندوة لأهمية المتحاورين والموضوع المطروح بشأن المشكلة الأوكرانية، وزيارة المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند للكريملين ومقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كان محدثي رئيس جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا والخبير الدولي أستاذ الإدارة د. محمد حسن العزازي. كنت قد غادرت مكتبه في ساعة متأخرة من دوام عمل شاق بمناسبة بدء الفصل الدراسي الثاني بالجامعة، وكنا قد تطرقنا في حوارنا للشأن العام بمناسبة المناورات التي تمارسها مع جامعتنا وزارة الإسكان التي تصر علي مخالفة القانون والإلتفاف علي أحكام القضاء، وكان مما ناقشناه حاجة مصر الملحة لبريسترويكا جديدة بمناسبة زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتقاء الرئيس عبدالفتاح السيسي. كان حوار الندوة ساخناً بين رئيس البرلمان الأوروبي »‬مارتن شولز» وسفير الولايات المتحدة الأمريكية السابق في ألمانيا »‬جون كورنبلوم»، وكلاهما يتحدث الألمانية بطلاقة، إذ وجه شولز كلامه للسفير الأمريكي قائلاً: »‬لا دخل للولايات المتحدة الأمريكية في مشكلة أوكرانيا، إنها مشكلة إقليمية خاصة بالإتحاد الأوروبي وروسيا دولة أوروبية، ونحن في الإتحاد الأوروبي لدينا القدرة لحل مشكلاتنا، ولا نري ما يدعو لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية». هكذا بكل صراحة ووضوح، وربما كان هذا هو نفسه ما دفع ميركل وأولاند لزيارة بوتين في الكريملين والحوار معه منفردين في محاولة لاحتواء الأزمة الأوكرانية الروسية في إطار أوروبي، بعيداً عن استغلال أمريكا الأزمة الأوكرانية لتصفية حساباتها مع روسيا علي حساب المصالح الأوروبية. إجتماع الكريملين وما قاله شولز في الندوة يمكن قراءتهما في سياق بريسترويكا »‬إعادة بناء» جديدة لنظام عالمي جديد تتشكل ملامحه في هدوء بعيداً عن التسخين الأمريكي الذي تحول فيه الولايات المتحدة الأمريكية النظام العالمي الحالي إلي »‬قطة فوق صفيح ساخن» لايتحقق في إطاره إلا المصالح الأمريكية وحدها، بينما تعصف في طريقها بالمصالح الأوروبية التي تتضرر شركاتها ومؤسساتها الاقتصادية جراء العقوبات المفروضة علي روسيا، والتي تضر بشكل بالغ أيضاً بمصالح النظام العربي الذي تتداعي دوله وأحواله بسبب التدخلات والمناورات والسياسات الأمريكية، التي لاتجد في منطقتنا من يتسلح بالشجاعة والمباشرة مثل رئيس البرلمان الأوروبي ليواجهها ويعريها ويفضحها ويوقفها عند حدودها، اللهم إلا مصر التي تمارس علي استحياء محاولات التملص من القيود الأمريكية وتطويق مخاطر سياساتها في المنطقة. ولقد سبق أن كتبت الأسبوع قبل الماضي مقالي في نفس الزاوية بالأخبار »‬اكشفوا الذئاب قبل محاربة الإرهاب»، مطالباً الخارجية المصرية بمواجهة علنية للولايات المتحدة وكشف ألاعيبها في المنطقة، ووضع العالم كله أمام مسئولياته تجاه السياسات الأمريكية الداعمة للإرهاب سراً، رغم ما تدعيه في العلن من محاربة الإرهاب، وهو محض أكاذيب وادعاءات لا تصمد أمام حقائق الواقع الذي يهدد النظام العالمي الحالي ويدفعه للتصدع والتهاوي، ويؤذن بالحاجة لنظام جديد، يخرج من إسار القطبية الأحادية ويعمل علي استعادة التوازن المفقود، والذي تستدعي أوروبا بتحركاتها الجديدة، ومصر بنشاطها الدولي الحازم الرئيس بوتين وروسيا ومعهما الصين لمعادلته. فإذا ماجاءت تحركات ميركل وأولاند استشعاراً لخطورة الأوضاع الأوروبية والدولية في ظل تدخلات الولايات المتحدة الأمريكية، فقد سبقهما عبدالفتاح السيسي و30 يونيو للتنبه لهذه الحقيقة التي بدأت مصر في إطارها لاستدعاء روسيا والصين وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والسعودية والإمارات والكويت والبحرين للمشاركة في وضع آليات عملية جديدة تقلل وتحد ولو نسبياً من آثار السياسات الأمريكية في المنطقة والعالم، وتعمل علي تنويع مصادر السلاح والتعاون الدولي في سياق رؤية استراتيجية لابد أن تؤدي في المستقبل المنظور لتبلور نظام عالمي جديد. ولئن كانت سياسات »‬الجلاسنوست والبريسترويكا» أي المكاشفة وإعادة البناء التي اعتمدهما ميخائيل جورباتشوف قد أديتا مع عوامل أخري إلي تفكك الاتحاد السوفيتي، فلعلهما تساعدان هذه المرة مع السيسي وبوتين إلي تفكيك النظام العالمي الحالي غير المتوازن وتؤديان إلي إقامة بناء عالمي جديد يقوم علي الشفافية والمكاشفة والمصارحة والعدالة والندية، ولعل هذا ما يشارك اليوم رئيسا مصر وروسيا في وضع لبناته ومأسسة آلياته ومتطلباته، ولعله الوقت المناسب الذي تضع فيه مصر رؤيتها البازغة ولمساتها الاستراتيجية للخروج بالعالم العربي من قيود التحكمات والإملاءات الأمريكية التي عملت سنوات طويلة علي ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي علي كل الجيوش العربية مجتمعة، بل قامت بتفكيك الجيشين العراقي والليبي وضرب وإجهاد الجيش السوري، ولاتزال في محاولات دائبة للنيل من الجيش المصري الصامد، ولقد كانت لمبادرات السيسي في تنويع مصادر السلاح مع الصين وروسيا وفرنسا وإيطاليا، أكبر الأثر في التأسيس لبريسترويكا عالمية جديدة يتضاءل فيها فعل ونفوذ وتأثير الولايات المتحدة الأمريكية، التي لاتزال تحركها صدمة 30 يونيو ضد مصر ورئيسها ومشروعاتها وتطلعات ثورتها وآمال وطموحات شعبها. وحين التقي السيسي بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في الأوبرا، ثم دعاه إلي العشاء في برج القاهرة، فكأنهما قطعا المسافة في سويعات قليلة بين مصر الجديدة في ثوبها الثقافي الحديث ومصر التاريخية في عراقة الماضي البعيد القريب، ولعل الإشارة السياسية بالغة الدلالة في العشاء الرئاسي بين السيسي وبوتين في برج القاهرة، أريد بها رسالة ضمنية مدوية، إذ تستدعي من رصيد نضالنا الوطني صفحة سطرها جمال عبد الناصر حين أقام هذا البرج بأموال أمريكية، ليكون شاهداً علي حماقة السياسات الأمريكية التي أرادت رشوة زعيم 23 يوليو بستة ملايين دولار، فانتهز ناصرالفرصة ليوجه صفعة مدوية للمخابرات المركزية الأمريكية والرئيس روزفلت بأن يقيم برجاً علي نيل الزمالك، صمم علي شكل زهرة اللوتس الفرعونية بارتفاع أعلي من الهرم الأكبر، علي قمته مطعم سياحي علي منصة دوارة تطل علي معالم القاهرة، ليكون شوكة ناصر في قلب المخططات الأمريكية وشاهداً علي حماقة السياسات الأمريكية في المنطقة. ولعل السيسي يستحضر من أضابير التاريخ روح النضال والعزة والكرامة، ويوجه هو وبوتين من برج القاهرة صفعته التاريخية لأوباما وسياساته الخرقاء، ويدشنا معاً بريسترويكا جديدة يكون صداها إيذاناً بنظام عالمي جديد تضطلع فيه مصر بدورها الإقليمي والدولي وتؤسس لأمجاد جديدة لطالما تشوق لها المصريون. بعد قليل من تسليم مقالي للأخبار للنشر الأربعاء الماضي، أبلغني الزميل الفاضل أستاذ محمد درويش أنه لاعتبارات فنية تم تأجيل نشره لليوم، لذا لزم التنويه حتي يراعي قارئنا العزيز فروق التوقيت.