آمال عثمان تكتب عن: حصاد القاهرة السينمائى فى عامه الثالث والأربعين

جائزة «الهرم البرونزي»
جائزة «الهرم البرونزي»

بين الحين والآخر يطفو على الساحة العربية مهرجان سينمائى، مستقطباً أفلاماً ونجوماً من الغرب والشرق، لإحداث حالة فنية احتفالية يطل بها على عالم فن الصورة السينمائية، ورغم احتفاء وترحيب السينمائيين والنقاد فى الوطن العربى، إلا أن تلك المهرجانات تظل مجرد احتفالات أو محاولات، ليس لديها مقومات البقاء والاستمرارية والديمومة، وسرعان ما تنطفئ أضواؤها، وتتلاشى أصداؤها من دنيا مهرجانات الفن السابع، ويبقى -وحده- مهرجان القاهرة السينمائى الدولى أعرق مهرجانات العالم العربى وإفريقيا راسخاً مكيناً، متجذراً فى أعماق أرض من الإبداع السينمائى، ومستمداً أصالته من صناعة عريقة ممتدة لعقود طويلة من الزمن، ومنفرداً بكونه المهرجان الوحيد فى المنطقة العربية والإفريقية المعتمد من الاتحاد الدولى للمنتجين FIAPF، والمصنف فئة (أ) من بين 15 مهرجاناً دولياً فى العالم.

المهرجان العريق يُفرّط فى موعد انعقاده لصالح البحر الأحمر

لذلك لا يليق بإدارة المهرجان العريق، التنازل بطيب خاطر عن موعد انعقاده الثابت لصالح مهرجان آخر وليد، ينضم لأول مرة إلى خريطة المهرجانات، متنكرة لقيمته وتاريخه ومكانته على الساحة الدولية، ومتعللة بحرصها على تواجد الصحفيين والسينمائيين العرب والأجانب فى المهرجانات المختلفة، لمشاهدة جميع الإنتاجات المتاحة وحضور وتغطية الفعاليات، ولم تدرك الإدارة الموقرة أن مسئولية تغيير الموعد تقع على عاتق المهرجان الجديد، الذى لم يضع ذلك فى اعتباره منذ البداية، وضرب عرض الحائط بموعد انعقاد مهرجان القاهرة السينمائى الراسخ منذ 43 عاماً. 


ويظل السؤال الذى يتردد فى أروقة المهرجان حول الخلط بين الأعمال الدرامية والسينمائية، وهل المهرجان مناسبة ملائمة لتحقيق دعاية لمسلسلات من إنتاج شركات يملكها رئيس المهرجان؟!، وكيف يصبح الاحتفاء بمسلسل الاختيار» الذى جسّد بطولات عظيمة لقواتنا المسلحة والشرطة فى الحرب ضد الإرهاب، هو الباب الخلفى للاحتفاء بمسلسل «بيمبو» وأبطاله، وعرض الحلقة الأولى من عمل إنتاج شركة «دائرة ميم الإبداعية» وشركة «فيلم فاكتوري» لصاحبهما محمد حفظى وشركاه؟!!، وتكتمل شبهات المصالح والمجاملات، بتنظيم احتفالية داخل محفل سينمائى كبير يحمل اسم مصر، لمركز سينمائى خاص مقره لندن، ليعلن جوائزه التى تحمل اسم النقاد العرب للسينما الأوروبية، ويحصل على دعاية ودعم وشرعية تفوق أحلام أصحابه!!


اغتيال البراءة
تربعت المكسيك على عرش جوائز المهرجان بحصولها على الهرم الذهبى بفيلم «الثقب فى السياج» للمخرج «خواكين دل باسو»، الذى صنع شريطاً سينمائياً تتفوق فيه جميع عناصره، وتتألق فيه الصورة على المستوى البصرى بوضوح، إلى جانب الأداء التمثيلى البارع لفريق العمل بما فيهم الأطفال، إلى جانب رسالة الفيلم القوية التى تكشف عن العنصرية والطبقيـة المنتشرة فى المجتمع المكسيكى، والصراعات الدينية، ويسلط الضوء عمن يرتكبون الحماقات والخطايا، ويبيحون كل شيء باسم الدين، يبدأ الفيلم فى أجواء ريفية تبدو ساحرة هادئة جميلة، وسرعان ما نكتشف بداخله عالماً يمزج بين الغموض والإثارة، ومشاعر الخوف والقلق، وتنمر وعنف يصل إلى حد الإيذاء النفسى والبدنى الصادم، وتتطور الأحداث داخل معسكر دينى صيفى منعزل ومراقب فى ريف المكسيك، يذهب إليه طلبة من مدارس أبناء الأثرياء كل عام، تحت إشراف مؤسسات دينية ومدرسين ومشرفين صارمين، للصلاة والاقتراب من الله، وتأهيلهم وإعدادهم دينياً وبدنياً ونفسياً لاجتياز مرحلة الطفولة، والعبور لمرحلة البلوغ والنضج ليصبحوا قادة المستقبل فى النخبة

المكسيكية الكاثوليكية.
ويحيط بالمعسكر سور من الحديد ممنوع اجتيازه، وتحذيرات بما يمكن أن يواجهه الأطفال من مخاطر خارج ذلك السور، وما يمكن أن يتعرضوا له من جرائم على أيادى أهالى القرية الفقيرة المجاورة، ولكننا سرعان ما ندرك أن السياج ليس موجودًا لحماية الأطفال، وإنما لاغتيال براءتهم.


رحلة فى عالم العزلة
داخل عالم تتسارع وتيرته، ويزداد فيه تفكك العلاقات والاغتراب والوحدة، نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، اختارت المخرجة والمؤلفة «هونج سونج يون» خوض تجربتها الروائية الطويلة الأولى، من خلال فيلم «انطوائيون» أحد أجمل أفلام مسابقة هذا العام، وتوجت لجنة تحكيم المسابقة الرسمية الفيلم بمنحه جائزة الهرم البرونزى، واستطاعت المخرجة ان تتربع على قائمة عرش الجوائز بفيلمها الإنسانى البديع، مؤكدة على براعة «كوريا الجنوبية» فى تقديم سينما متميزة ومغايرة، وإبهار العالم بموضوعات إنسانية تمس قلوب البشر فى كل مكان.


الشابة «جينا» بطلة فيلم «إنطوائيون» هى إحدى الشخصيات التى فرضت على نفسها العيش متقوقعة داخل شرنقة من العزلة والوحدة والاغتراب، ترفض الاندماج والتواصل مع محيط الأسرة والعمل والأصدقاء، مكتفية بحالة التوحد مع الذات والتواصل مع العالم الخارجى عبر الأجهزة الالكترونية الحديثة، سواء من داخل غرفتها الصغيرة القاتمة المظلمة التى لا تعرف أشعة الشمس لها طريقاً، أو من أمام مكتبها الضئيل، الذى تجلس به وحيدة ساعات طويلة، تستقبل التليفونات للرد على شكاوى العملاء، بمركز اتصالات خدمة عملاء البطاقات الائتمانية، ولا يختلف الأمر حين تزداد حالة مرض والدتها سوءًا وترحل عنها، حيث تكتفى الابنة بوضع كاميرات داخل شقتها لمراقبتها والاطمئنان عليها، تعبيراً عن غضبها من عودة الأم لوالدها بعد طلاق دام 22 عاماً!!


ترفض جينا محاولات اقتراب «الموظفة الشابة» التى أجبرت على أن تدربها، والاستجابة لسعيها لكسر حاجز عزلتها، ومشاركتها وجبة الغداء أثناء الراحة، وتعاملها بقسوة شديدة، تجعلها تترك العمل بعد مكالمة من شخص، يطلب منحه بطاقة ائتمان يستخدمها خلال سفره عبر الزمن إلى عام 2002، وحين تسأله عن السبب يبلغها بأنه العام الذى أقيم فيه كأس العالم لأول مرة فى كوريا الجنوبية واليابان، بتنظيم مشترك بين الدولتين، وقت أن كانت الجماهير تحتفل فى الشوارع، وتملأ الملاعب بهجة وسعادة، يتعانقون ويفرحون ويتحدثون وتوحدهم مشاعر حب وتقارب إنسانى جميل، وبدلاً من إنهاء المكالمة مع الشخص بهدوء باعتباره مختلاً عقلياً، تبلغه الموظفة الشابة برغبتها فى أن تصحبه فى رحلته الزمنية بحثاً عن الدفء الإنسانى. 

 

 بطلة الفيلم الإيطالى «جسد ضئيل» الحاصل على الهرم الفضى


يتزامن ترك المتدربة العمل مع موت جار «جينا» فى المجمع السكنى، وتظل جثته أسبوعاً حتى تخرج من الغرفة رائحة كريهة، ويأتى شاب آخر يسير على عكازين ليسكن فى الغرفة نفسها، لكنه يحرص على التواصل مع الأصدقاء وترك باب غرفته مفتوحاً دائماً، مما يدفعها إلى إعادة النظر فى حياتها، والخروج من عزلتها والنظر للعالم الخارجى بشكل مختلف، وتختزل المخرجة رأيها فى الحياة الحديثة التى تسحق إنسانية البشر، من خلال جملة ترددها «بطلة» الفيلم للجار الجديد: إشعال السجائر بالكبريت يعطى لها مذاقاً أفضل من إشعالها بالقداحة». 


مذكرات مراهقة فى زمن الحرب
حصل الفيلم اللبنانى «أوراق مايا» على جائزة أفضل فيلم عربى فى المسابقة، للمخرجة جوانا حاجى توماس والمخرج خليل جوريج، وهو عمل سينمائى شديد النعومة والجمال على المستويين البصرى والسردى، وتجربة شخصية لمخرجته تجسد بنعومة وبساطة وعمق، مشاعر الحب والصداقة، والعلاقات الإنسانية فى زمن الحرب الأهلية اللبنانية، وتروى ملامح من فترة الصبا والبراءة والمعاناة، والألم التى عاشتها بعد فقدان الأخ وانتحار الأب، وهروب الصديقة مع أسرتها خارج البلاد خلال حرب مجنونة، خسر فيها كل الأطراف وطنهم. 

 

 الفيلم الكورى «انطوائيون» الحاصل على الهرم الذهبى


ويبدأ الفيلم بوصول صندوق كبير مشحون من بيروت إلى مونتريال، بداخله رسائل وصور وتسجيلات، احتفظت بها الأم منذ فترة المراهقة، قبل أن تهاجر مع أمها إلى مونتريال، وتستعيد المخرجة الماضى بشاعرية ونعومة من خلال محاولات الابنة المراهقة اكتشاف حياة أمها الغامضة، وبعد مواجهة بينهما تقرر الأم اصطحاب ابنتها لرحلة إلى بيروت لتستعيد معها ذكرياتها وصداقتها وحبها وشمس الوطن. 


امرأة تبحث لابنتها عن اسم
رحلة أم بحثاً عن استقرار روح ابنتها التى خرجت من جسدها فاقدة الحياة، منحت الفيلم الإيطالى «جسد ضئيل» جائزة الهرم الفضى، الفيلم إخراج لورا سامانى فى أول عمل روائى طويل، وتدور أحداثه فى القرن التاسع عشر حيث كان شائعاً فى العقيدة المسيحية لفترة طويلة، أن الأطفال الذين يولدون من رحم الأم أمواتاً وقبل تعميدهم، تصعد أرواحهم إلى «المتاهـة» وتظل معلقة بين الجنة والنار! وحينما تسمع عن راهب فى كنيسة بأحد الجبال، يعيد الأطفال إلى الحياة لمرة واحدة فقط لتسميتهم وتعميدهم، تستخرج جسد المولودة الضئيل من القبر، وتحمله على ظهرها داخل صندوق خشبى صغير، وتصحب المخرجة المشاهد مع بطلتها فى رحلة بصرية ممتعة، أقرب للرحلات الأسطورية، المليئة بالمغامرات والمخاطر، رحلة تمتزج فيها الفانتازيا بمشاعر الأمومة، رحلة امرأة تبحث لابنتها عن اسما تتذكرها به فى الحياة. 


أما فيلم «107 أمهات» فحائز على جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو، وهو يمزج فى طريقة سرده للأحداث بين العمل الروائى والوثائقى، حيث تضفى العناصر الوثائقيـة على الأحداث الدرامية الخيالية مصداقيـة كبيرة، وهذا يشكل نقطة قوة الفيلم، إحدى حيثيات منحه جائزة السيناريو، ويسرد الفيلم تجربـة عـدد مـن السجينات، يحتفظن بأبنائهن الذين أنجبنهن داخل الإصلاحية حتى يبلغوا الثلاثة أعـوام، ويستخدم المخرج السلوفاكى «بيتر كيريكس» النظرة الموضوعية فى تصويره لحديث الشخصيات الرئيسية، ليجعل تلك الشخصيات تتحدث إلى المشاهد بطريقة مباشرة، وكأنه يجلس معها فى المكان نفسه.

الشخصيات تتحدث إلى المشاهد بطريقة مباشرة، وكأنه يجلس معها فى المكان نفسه.

 

أقرا ايضا | في ختام مهرجان القاهرة..«نوع خاص من الهدوء» يفوز بجائزة «الهرم البرونزي» بالمناصفة مع «الحائط الرابع»