رفع الناخبون والناخبات في عزبة الهجانة شعار «خد خيره وانتخب غيره»، أعلن الأهالي هذا الشعار في مواجهة عدد من المرشحين والمرشحات للبرلمان، اللذين انفقوا بسخاء في الدعاية البرلمانية، ودفعوا بعض الأشياء العينية للناخبين،وربما المادية، فضلاً عن أنهم وعدوا بأشياء أخري سوف تتحقق بعد الانتخابات.


عزبة الهجانة، تقع في دائرة مدينة نصر، ويتم تصنيفها باعتبارها إحدي المناطق العشوائية، وهي كثيفة السكان، وفي الانتخابات البرلمانية السابقة، كان بعض المرشحين ذوي الثقل المالي ومن ذوي الاتجاهات المضادة لمدنية الدولة، يهونون ويسخرون من رفض أهالي مدينة نصر لهم بأن «الهجانة معهم»، وكان التعبير السائد أنه بأكياس السكر وقنينات الزيت إلي الهجانة سوف تحسم الأمور لهم.


هذه المرة وجدنا في دائرة مدينة نصر بعض المرشحين، تجاوز الإنفاق لديهم السقف الذي حددته اللجنة العليا للإنتخابات، في يوم الجمعة، السابق علي الانتخابات مباشرة، وقبل فترة الصمت الانتخابي بساعات، رأيت سيارات وموتوسيكلات في شارع أبو داوود الظاهري، تدعو لمرشح بعينه، ومن شواهد الأمور أن تكلفة هذه المظاهرة الإنتخابية وحدها، يمكن أن تبتلع كل المبلغ المحدد للدعاية من قبل اللجنة العليا.. وهناك أحاديث تتري الآن من أن أحد المرشحين اقترب انفاقه من حوالي 30 مليون جنية، وأخر اقترب من العشرين، وبغض النظر عن مدي دقة الأرقام، فإن المفاجأة أن أحد من هؤلاء لم ينجح ولم يدخل الإعادة، بل لم يكن حتي من المنافسين، أي لم يحصل أي منهم علي أصوات مبكرة.


أهالي الهجانة، وضعوا مبدأ حاكماً لأنفسهم وللمرشحين، تم صياغته في جملة بليغة ومؤثرة «خد خيره وانتخب غيره»، والمعني أن المواطن قد يكون في حاجة ماسة إلي ما يقدم إليه من المرشح، لكن يكفيه ما يقدم إليه، لا يعني أن يبيع صوته ولا أن يساوم علي ضميره الانتخابي.


نتائج الجولة الأولي من المرحلة الثانية، تجعلنا نتساءل عن كل ما قيل حول دور المال السياسي وتأثيره علي العملية الانتخابية، وحتي هذه اللحظة لا نجد دراسة موثقة في هذا الأمر، وكل ما لدينا هو انطباعات وربما بعض مشاهدات لمواطنين أو زملاء صحفيين، فضلاً عن بعض التحليلات، حول أن بعض الأحزاب استحوذت علي مرشحين بعينهم، وتحملت عنهم كل شيء في العملية الانتخابية، «قيل» أن الصوت الانتخابي وصل في بعض المناطق إلي خمسمائة جنية، «قيل» أن بعض الأحزاب دفعت بسخاء لبعض المرشحين، وهذا كله «أقاويل»، لا نعرف مدي مصداقيتها، غير أن شعار عزبة الهجانة ونتائج انتخابات مدينة نصر تجعلنا نتشكك في كل ما قيل.


أتمني أن يخرج الأمر عن نطاق «الأقاويل» إلي مجال «التوثيق»، باختصار ننتقل مما هو شائع إلي ما هو معلوم ومؤكد، وحتي لا نسرف علي أنفسنا ولا علي المرحلة التي نمر بها، فإن تلك الأقاويل كانت تلازم الانتخابات البرلمانية منذ ثلاثينات القرن الماضي، وأثير الكثير حول الورقة المالية التي تقطع إلي نصفين، يتسلم الناخب نصفها الأول علي باب اللجنة أثناء الدخول ويتبعه من يتأكد من إدلائه بصوته للمرشح المطلوب، ومن ثم يحصل علي نصف الورقة المالية بعد خروجه، أما بعض الخدمات العينية التي يقدمها مرشح ما لأبناء منطقة ما، فهذا ثابت بالفعل، هناك من أسس وحدة صحية أو مسجد أو مدرسة من ماله الخاص داخل إحدي القري أو الأحياء، كان ذلك قبل ثورة سنة 1952، وبعدها فعل كثيرون الشيء نفسه، ولكن من مال الدولة، وفي إطار خططها التنموية، ونسبها كل منهم إلي جهده الخاص.


الأمر مختلف الآن، نحن نتحدث عن مال سياسي، يجب أن يلقي عناية من الباحثين والدارسين، فضلاً عن أجهزة المعلومات المعنية بمتابعة العملية الانتخابية؛ لأنه لا معني للحديث عن الديمقراطية ولا عن حرية التصويت في ظل وجود المال السياسي، ومازلت مصراً علي أن نزاهة العملية الانتخابية أوسع وأعمق كثيراً من منع التزوير المباشر داخل الصناديق الانتخابية. وفي العموم فإن ما جري هذه المرة يدعونا إلي التفاؤل وإلي الثقة الكبيرة في انحياز المواطن البسيط واختياراته، وفي وعيه العام وحسن إدراكه السياسي.


الرهان يجب أن يكون علي المواطن والناخب، وهذا المواطن يعلمنا ويقدم لنا الجديد في كل عملية انتخابية، ويضيف إلي إدراكنا ووعينا الكثير والكثير.