يوميات الأخبار

اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً!!

سمير الجمل
سمير الجمل

وهى فوق ذلك مدرسة لمن أراد أن يتعلم كتابة السيناريو.. وأن يقول كل ما لديه وما يريد بأرقى الأساليب وأجملها

 فى القرآن الكريم سورة القصص.. لكن المولى سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز يقدم سورة «يوسف» على أنها أحسن القصص وهى كذلك.. لأنها الوحيدة فى كتاب الله التى سردت علينا حكاية الصديق عليه السلام من أولها إلى آخرها.. وهى فوق ذلك مدرسة لمن أراد أن يتعلم كتابة السيناريو.. وأن يقول كل ما لديه وما يريد بأرقى الأساليب وأجملها.. فيها صراع وفيها تمثيل وفيها إغراء وإغواء.. وفيها اقتصاد وفيها حكمة.. وفيها وفيها.. لأولى الألباب والأبصار.. وتلك معجزة القرآن العظيم أنت تقرأ المرة بعد الأخرى.. ثم تكتشف الجديد وتقف أمام آياته مندهشا وكأنها المرة الأولى.. وبما يواكب عصرك وزمانك إلى ما شاء الله حيث يرث الأرض ومن عليها.

«إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ» «٤»
هنا تقديم الشخصيات والفكرة الأساسية التى تدور حولها القصة وهى الرؤية وهذا ما يسمى ببراعة الاستهلال الدرامى.. فما الشمس والقمر سوى الأب والأم.. ثم أحد عشر هم الأخوة.. والسجود هنا فى الرؤية يتحقق فى نهاية السورة.. لأن رؤية الأنبياء «حق».. وعندما تبدأ بنقطة وتنتهى عندها أنت أمام الدراما الدائرية.

ومع أن الأب يحذر يوسف من أن يقص الرؤية على إخوته.. إلا أنهم اجتمعوا وخططوا ودبروا.. بحجة أن هذا الصغير أحب إلى نبى الله يعقوب عليه السلام منهم وقد وصفوا أنفسهم بأنهم عصبة «ومنها عصابة» وهو المسمى الذى ارتبط بجماعات اللصوص والمخربين وأهل الشر وكان الأب يعقوب قد رأى فى منامه أن الذئاب تهم بافتراس يوسف.. لولا أن أحدها دفع عنه الشر.. واكتفى الكل بأن يكون مصير الصبى الإلقاء فى البئر.. بناء على رأى أخيه الأكبر.
ورغم الرؤية للأب ثم الابن إلا أنه بعد التحذير من سرد الأمر على إخوته.. يبشره بأن ربه سوف يجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث وتفسيرها وسوف تتم نعمته عليه كما جرى مع أبويه من قبل إبراهيم واسحاق.. وهنا يكون التحدى العظيم وانظر ماذا ترى؟

ألم يكن الأب بقادر على أن يمنع يوسف من الذهاب مع تلك العصبة وهو يعلم مقدما ما سيحدث له؟ وكيف يخاف عليه منهم وهو من قبل ومن بعد فى حماية ربه الذى يعلم السر وأخفى؟

كان توسلهم إلى إبيهم بأن يوسف سوف يرتع ويلعب ولما جاءوا عشاء يبكون «التمثيل هنا.. أن تظهر أمام غيرك بعكس ما تبطن» ثم كانت الكذبة بأن الذئب قد أكله وهو يجلس عند متاعهم بينما هم يلعبون.. ثم استخدموا ما يسمى بالمكياج فى المفهوم الحديث بوضع الدم على القميص ولكن فاتهم تمزيقه من أثر أنياب الذئب كما يدعون وتلك كذبة أخرى حتى كان جواب يعقوب عليه السلام:
«بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ» «١٨».

«صورة» يوسف
أنا اتفق تماما مع الأزهر الشريف وفلسفته فى منع ظهور الأنبياء على الشاشة.. لأن المسلم يعرف أن رؤية النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى المنام جائزة لا يحصل عليها إلا من كان ذا حظ عظيم.. ثم أننا ندعو الله ليلا ونهارا أن نمتع العين والقلب بطلعته البهية وأن نكون فى صحبته.. ثم من هو الممثل ومع احترامنا للجميع الذى يمكن أن يجسد هذا الدور.. وبعد عرض مسلسل يوسف الصديق فى ذلك الإنتاج الدرامى الضخم أصبحت صورة الممثل مصطفى زمانى الذى تقمص شخصية يوسف هى الراسخة فى أذهان كل من شاهد العمل.. لأننا لم نر يوسف.. ولم تصلنا سوى صورة الممثل.. وهذا هو الخطر.. وهنا نعود إلى فيلم «الرسالة» كيف قدمه المخرج الكبير العالمى مصطفى العقاد بدون ظهور النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، مع ذلك خرج العمل فى أروع صورة وتحول عند عرضه فى أوروبا وأمريكا إلى انفجار هائل.. وكان أفضل «رسالة» عن الإسلام للغرب كله.. وأساس الفن الإيحاء والخيال.
ونعود إلى يوسف عندما وصل إلى مصر حتى بلغ أشده وآتاه ربه حكما وعلما.. ثم تأتى قصة التى راودته فى بيتها عن نفسه.. وقد كبر بين يديها عندما اشتراه زوجها وطلب منها أن تكرم مثواه عسى أن ينفعهما أو يتخذاه ولدا..

والرسالة هنا بليغة وعظيمة لأن التى تربى سواء إن كانت زوجة الأب.. أو المربية.. لن تكون بحال بديلا عن الأم ويجب التعامل معها بالحرص الواجب.
فى المسلسل الإيرانى قدم المخرج فرج الله سلحشور وهو أيضا صاحب السيناريو.. مشهد الإغراء بين امرأة العزيز وسيدنا يوسف.. بكل احتشام.. فهى بكامل ملابسها فقط هناك شمعة ودلال بالعين.. واستخدام الطرحة تتلاعب بها أمامه فى أنوثة.. ويبلغ المشهد ذروته بصوت إغلاق الأبواب واحدا خلف الآخر.. وقد زاد فى عددها بشكل مبالغ حتى يكون التأثير أقوى.. سواء عند دخول يوسف أو محاولاته الإفلات منها حتى جذبته من قميصه.. وهو الجزء الأكشن فى الموضوع.. لأن القميص إذا كان مقطوعا من الأمام فقد كانت تقاوم وتتمنع.. وإذا انقطع أو تمزق من الخلف فقد كانت هى التى تجذبه وتمنعه أن يفلت منها.. وهو دليل براءة يوسف الذى استعصم وحتى صرف عنه ربه السوء والفحشاء.

ومع ذلك تواصل عنادها وإصرارها وقد جاءت بالنسوة لكى يشهدهن هذا الذى شغفها حبا حسب الوصف القرآنى الكريم.. فما كان منهن إلا أن قطعن أيديهن من الانبهار والدهشة وهن يأكلن الفاكهة.. ونرى كيف أن الفراعنة من القديم كانوا يستخدمون السكين فى الأكل بالأسلوب الذى لم تكن تعرفه الدنيا كلها.. إلا بعد ذلك بسنوات.

وقد تأكد الحاكم بنفسه من براءة يوسف بعد اعتراف زليخة الصريح.. هذا ما يخص الأخلاق وهناك الجانب العملى الذى يؤهل يوسف بعد تفسيره لرؤية الثنائى اللذين كانا معه فى السجن.. والدرس هنا أنك فى قمة الأزمة والضيق والحبس يأتيك الفرج من حيث لا تحتسب.. وعندها يمكنك أن تقول بكل ثقة:
«اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ» «٥٥».

يا الله.. ما هو الفخر الذى يجب أن يدركه كل مصرى وهو يقرأ هذا الوصف الإلهى العظيم عن بلاده وقد جاء على لسان الصديق يوسف الذى أدار البلاد بالعلم والحكمة واستثمار كنوزها الموجودة فى البشر والحجر والثمر.

وهو بعد أن وصل إلى هذا المنصب الرفيع لم يفكر فى الانتقام من أخوته وقد جاءوا يطلبون المدد والتموين.. لكنه فقط أراد أن يعلمهم درسا.. عندما رد إليهم بضاعتهم حتى يعودوا ومعهم الأخ الأصغر «بنيامين».. حتى إذا جاء وضع صواع الملك أو الكأس التى كان يشرب فيها فى رحالهم أى بضاعتهم وتحديدا فيما يخص بنيامين حتى يحتجزه وله ما يبرر فعلته والقرآن الكريم يحميه ويؤكد أن فعلة يوسف لم تكن من عنده إلا بوحى من الله سبحانه وتعالى:
«كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ» «٧٦».
وعندما قال الأخوة إن الذى سرق هو «بنيامين» وأنه يمضى على خطى أخيه الذى سرق من قبل وكانوا بذلك يقصدون «يوسف» نفسه.. وأصره يوسف فى نفسه ولم يعقب حتى يأتى الوقت المناسب.

وعندما رجعوا إلى الأب النبى يعقوب عليه السلام يبلغونه أن ابنه قد سرق وتم احتجازه فى مصر وطلبوا منه أن يسأل ويتحرى بنفسه لأنه لا يصدقهم فما كان جوابه إلا هو ذاته الذى قاله لهم عندما جاءوا عشاء يبكون ويخبرونه أن الذئب قد أكل يوسف.
«قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ» «٨٣».

إنه يسبقهم ويأمل ويتمنى ويدرك أن الله سيأتى بهم جميعا.. من بعد ما جرى.. وعندما عادوا إلى يوسف يتوسلون إليه أن يوفى لهم الكيل.. ويعطيهم مما عنده.. وهم فى لحظة ضعف عظيمة ويوسف فى قمة مجده وقوته:
«قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ» «٨٩».

وعرفوا أنه يوسف وأدركوا أن الكراهية والبغضاء مرتبطة بالجهل والغباء.. ولم ينتقم أو يصفى حساباته وهو الأقوى.. لكنه سأل الله أن يغفر لهم وهو ذات المشهد الذى يتكرر بعد ذلك مع المصطفى صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عند فتحها عندما سألوه وهم يرتعشون ماذا أنت فاعل بنا؟ وقد تفننوا فى الأذى المادى والمعنوى إلى أقصى مداه.. فما كان جواب صاحب الخلق العظيم إلا أن قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ويعترف أخوة يوسف بالخطأ ويطلبون الصفح من أبيهم وأن يستغفر لهم الله الغفور الرحيم.. وأجابهم بالموافقة وأنه سيفعل لأن الخلق الرفيع والعفو يمكن أن يفعل المستحيل.. وهو يبرر فعلة أخوته بأنها نزغ من الشيطان والشكر واجب لهذه النعمة الكبرى:
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّى فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ» «١٠١».
وتكون النهاية السعيدة عندما تحولت اللحظات التعيسة وأيام السجن والشقاء.. إلى رئاسة الوزراء فى مصر وجاء أهله من البدو.. وقال: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» «٩٩».