«فندق العالم»: الموت متجولًا فى الأرجاء!

فندق العالم: الموت متجولًا فى الأرجاء!
فندق العالم: الموت متجولًا فى الأرجاء!

تكتب : رضوى الأسود

عن دار العين صدرت هذا العام رواية «فندق العالم» للروائية والصحفية الإنجليزية «آلى سميث»، بترجمة أميمة صبحي.
رواية بطلاتها خمس من النساء، هن: «سارة»، «إلس»، «ليز»، «بيني»، «كلير». تبدو البطلات لأول وهلة وكأن لا رابط بينهن، لكن مع التوغل فى القراءة، نجد كل واحدة منهن وقد ارتبطت بشكل أو بآخر بالفندق، وأن ثمة علاقة مباشرة أو غير مباشرة تربط بعضهن ببعض.
الرواية عبارة عن تساؤلات فلسفية حول الحياة، فى محاولة لفهمها من خلال أسئلة تدور فى معظمها حول الكم والكيف، ووحدات القياس؛ الوقت، الوزن، السرعة،... الخ. حتى أن شبح «سارة ويلبى» لا يكف بطول الرواية عن طرح سؤاله حول ماذا استغرق الجسد من وقت حتى يصل إلى الأرض ويرتطم بها ويصبح جثة هامدة؟ لكن هل سيصل إلى إجابة؟ و-فى حالة الوصول لرد شافٍ- هل سيهدأ أو يقتنع؟ هذا ما سنحاول معرفته فى السطور التالية.


تبدأ الرواية بالشبح الهائم لـ«سارة ويلبى»، فتاة التسعة عشر ربيعًا، بطلة السباحة، والتى كانت تعمل بـ «فندق العالم»، والتى توفيت فى حادث مفجع. يروى لنا شبحها تلك الثوانى التى استغرقها الجسد حين هبط من عليائه -فى مصعد الطعام- نحو الأرض بسرعة قذيفة صاروخية، وكيف اختبر مشاعر جمة اختلطت بالرعب والاندفاع والهبوط والتحليق والظلام. 


يتجول هذا الشبح فى المنزل بين أفراد عائلتها، فنرى ما يتسبب فيه من تباين فى المشاعر؛ ما بين فزع وحيرة للأب والأم، وبين ترحاب واشتياق من شقيقتها الوحيدة «كلير»، بعدها يصيبه الملل، فيقرر الذهاب إلى حيث يرقد الجسد، وهنا تتحول «سارة» إلى شخصيتين أو كيانين منفصلين: واحد يمثل الروح والآخر يمثل الجسد، الكيانان يحيان على الرغم من موت الشخصية الحقيقية، الأول يعيش فوق الأرض، وله القدرة على الانتقال لأى مكان وقتما شاء، أما الثانى فهو مُسجى بلا حراك تحت الأرض!


بعدها يستقبل القارىء البطلة الثانية «إلس»، والتى تعانى من علة صدرية تجعلها -بطول الرواية- تسعل وتقذف بالبلغم المحشور بداخلها نحو الأرض، وكأنها تبصق على العالم. ولا نغفل دلالة الاسم حين نعلم أن «إلس» التى تعنى «آخر»، تشير إلى أن هذه البطلة من الممكن أن تكون أى شخص آخر فى هذا العالم. «إلس» التى تحترف التسول، وتنتقى لممارسته مكانًا قريبًا من مدخل الفندق، تتضايق كثيرًا من الظهور المباغت لفتاة مجهولة بدأت تزاحمها فى المكان، وعطاء الناس وإحسانهم! غير أن الفتاة تبدو غير مكترثة بشيء البتة، ولا حتى بالنقود التى بدأت بالانهمار عليها!


ثم تظهر «ليز» موظفة استقبال الفندق، الشخصية الحنون، المعطاءة، التى ستقوم بتوزيع عطفها بين «إلس» و «كلير» فيما بعد، والتى ستصاب لاحقًا بمرض سوف يجعل جسدها عاجزًا عن الحركة تمامًا وسوف يُقعدها عن العمل.


«بيني» الصحفية، والبطلة الرابعة التى تشترك مع «ليز» فى حُسن النية، والتى تبدو وكأن بها قدرا من السذاجة، والمقيمة بالفندق لإنجاز مهمة، يصيبها الضجر، فتخرج من غرفتها لتجد فتاة من عاملات الفندق تقوم بشيء ما، فتعرض عليها المساعدة، وحين تفشل، تأتى لها بدعم من امرأة أخرى كانت تمر بالمصادفة، وفى النهاية تتسبب الفتاة (عاملة الفندق) فى هدم الجدار، ثم تقذف بداخله ساعة ونقودا معدنية، وتتأملهما وهما يسقطان فى الفراع الأدهم، ثم تنهار فى البكاء، وبعدها تتسلل المرأة (التى كانت تمر بالمصادفة) بمصاحبة «بيني» إلى خارج الفندق حيث تمارس هوايتها الغريبة فى التلصص على الناس فى منازلهم!


وأخيرًا نأتى لـ «كلير» شقيقة سارة التى تتآكل من الحزن والاكتئاب بسبب وفاة أختها، وعدم تقبُّلها لتلك الوفاة المفاجئة.
تحمل النهاية عدة مفاجآت، فنكتشف أن المرأة غريبة الأطوار هى «إلس»، التى عرضت عليها «ليز» المبيت فى الفندق لليلة واحدة، حيث كان الجو بالخارج متجمدا وسنكتشف أيضًا أن «ليز» (قبل أن تمرض) ساعدت «كلير» على التشافى، حين منحتها فرصة الدخول إلى الفندق والحديث مع «دنكان» زميل شقيقتها، والشاهد الوحيد على الوفاة، وأن الفتاة المتسولة التى كانت تجلس فى الجهة المقابلة لـ«إلس» ما كانت سوى «كلير» التى كانت تجلس فقط لتأمل المكان الذى كانت تعمل به شقيقتها، ومحاولة تَصَوُّر ما حدث فى آخر لحظات عمرها، وأنها هى أيضًا الفتاة التى هدَّمَت الجدار، فى محاولة منها لمعرفة إجابة للسؤال الذى سنتأكد أنه لم يتردد فقط فى ذهن روح سارة، ولكن فى ذهن أختها أيضًا، وهو: كم استغرق زمن السقوط؟! 

مصعد الطعام فى حقيقته يجسد رحلة الإنسان فى الحياة، وسرعة وقوعه دلالة على قِصَر تلك الرحلة، أما وقوعه بهذه السهولة جراء حشر سارة لجسدها المرن بداخله فى محاولة منها لكسب رهان اتفقت عليه مع زميلها فى العمل، فدلالة على عبثية الحياة وهزليتها. تُشَبِّه «بيني» الممر الطويل المظلم الذى يسير فيه ذلك المصعد والذى يمتد بطول الفندق، بالعمود الفقرى، ذلك العمود الذى حين أطَلَّت لترى ما بداخله وجدته فارغًا، مظلمًا، مخيفًا كالحياة، لم تعثر على شيء، فقط خواء ودُهمة، كما توق الإنسان الدائم لمعرفة الحقيقة والسعى وراءها، ثم العودة حاملًا خيبته وروعه. كما نلاحظ أن حَدَث الموت (وليس الحياة) هو ما يربط أبطال الرواية، وكأن الروائية تؤكد على أن الموت هو الحقيقة الوحيدة، وأى سعى نحو معرفة ملابساته أو وقته أو سببه، هو جهد بلا طائل.


قدَّمَت الروائية أشكالًا سردية شديدة التعقيد؛ فالسرد فى الفصل الأول يأتى على لسان شبح «سارة ويلبي» مستخدمًا ضمير المتكلم، والذى يعتبر أيضًا الراوى العليم، كما يُعَد فى ذات الآن الراوى غير الموثوق به، نظرًا لأنه ينسى أجزاءً مهمة فى سرده! أما فى الفصول 2 و3 و4، أتى السرد بشكل أساسيّ بضمير الغائب، مع احتوائه على عناصر من ضمير المتكلم، مما يسمح للسرد بالانتقال بحرية فى أفكار الشخصيات.


تلعب الروائية بالزمن كما اللغة؛ فتتقاطع الأزمنة بطول الرواية (حاضر وماض)، فنجد أحداثًا تبدأ بعد وفاة سارة مباشرة، وأحيانًا بعد مرور شهور من تلك الوفاة، وأخيرًا بعد مرور سنة كاملة على الحادث، يتم السرد من خلال تلك الأزمنة الثلاثة بشكل لا يتبع نسقًا كرونولوجيًا خطيًّا. كما أنها تمنح لفصولها عناوين زمنية مثل «حاضر - حاضر ماض - مستقبل مشروط - مستقبل فى الماضي)، أما فيما يخص اللغة، فنستطيع أن نقول بكل ثقة إن اللغة فى هذه الرواية هى البطل الحقيقيّ، فقد لعبت الكاتبة بعلامات الترقيم، حيث أن هناك فصلًا كاملًا بدون هذه العلامات! ليس هذا فحسب بل كان هناك بعض الفراغات، تركتها للقارىء ربما ليملأها هو بنفسه بالكلمات المناسبة والتى قد توافق فهمه أو رؤيته أو خياله! تَلَهَت الروائية -حتى الثمالة- بالمجاز، لعبت بذكاء حاد وقريحة متفردة بكلمات تحمل للمعنى وجهين، وبذلك قد أوقعت القارىء فى شراك الرواية، حين أضافت لحريته الأساسية، والممثلة فى اختياره الرواية -بإرادته- ليقرأها، حرية أخرى، هى حرية الفكر والتحليق عاليًا بعقله، ومن هنا سوف يكون حرًا فى قبول معنى أو رفضه، فى أيهما يجده الأقرب للمعنى، وأيهما الأبعد، فالروائية تقول: «هناك طريقتان لقراءة هذه الرواية، لكنك فى النهاية ستقرأ فقط بإحداها»! وقد أشفقت حقيقة على المترجمة من صعوبة وثِقل المهمة التى اختارتها حين قررت القيام بترجمة هذه الرواية، والتى نجد فيها العديد من الهوامش التى تحوى معنيان للكلمة الواحدة، مع الشرح اللازم.


فندق العالم هو صورة مصغرة من العالم الذى نعيشه؛ العالم العبثى، اللاهث، التَعِس، غير المنصف. الذى ما إن يمنحنا فرصة للعيش، إلا وتكون هى ذاتها فرصة للموت! الفندق الذى يُعَد فرعًا فى سلسلة فنادق عالمية، والذى يقع فى مدينة بريطانية غير مُسماة (يُلَمَّح فى خاتمة الكتاب إلى أنها تقع شمال الحدود الاسكتلندية)، والذى يبلغ ارتفاعه أربعة طوابق بالإضافة إلى قبو، هو الهيكل الموحد لأحداث هذه الرواية، حيث يجمع الفندق موظفيه (سارة، ليز، دنكان)، والعميلة أو الزبونة (بيني)، والمارة (إلس، كلير). 

تقع الأحداث الرئيسية داخل الفندق فى أربعة أماكن صغيرة: 1- ممر الطابق الرابع، حيث صعدت سارة إلى زميلها «دنكان» ثم سقطت ميتة، وحيث تقابل كل من «بيني» و«إلس» و«كلير»، 2- استقبال الفندق حيث تعمل «ليز»، 3- الغرفة 12 حيث تقيم «إلس» لفترة وجيزة، 4- الغرفة 34 حيث تقيم «بيني»، وهناك أيضًا أماكن ثانوية مثل ذلك الذى يقع خلف الغرف، والذى يختبىء فيه «دنكان» أثناء نوبات عمله، وكذلك الطابق السفلى (القبو).


الرواية التى تعد ثيمتها الأساسية «الموت»، والتى تبدأ بحادثة وفاة، والتى يُعَد راويها العليم محض شبح، لم تنس فى نهايتها تقديم رؤية باسمة، تحمل قدرًا من التفاؤل، فتقوم بوصف رومانسى لمشاهد من الحياة اليومية لا يزال فيها عشق، وطيور، وشيء من بهجة، لتؤكد على استمرارية الحياة رغم كل شيء، مستشهدة فى سطرها الأخير بتلك العبارة: «تذكر لا بد أن تعيش، تذكر لا بد أن تحب، تذكر لا بد من الرحيل».

 

أقرا ايضا | منال عيسي بطلة «دفاتر مايا»: أحب فن الحياة وأخاف من دراسة التمثيل