عندما أهدانى الناشر الكبير محمد رشاد كتاب «مذكرات عزة فهمى أحلام لا تنتهى» لعزة فهمى الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، بدأت أقلب فيه وأتصفح المقدمة، وأقرأ مقتطفات من هنا وهناك، لكى أكون فكرة أولية عن الكتاب ولكننى لم استطع أن اتركه من يدى إلا وقد انتهيت من أغلبه، وانتهيت منه بالكامل فى اليوم التالى، كنت أعتقد أننى أعرف الكثير عن عزة فهمى التى أصبح اسمها نفسه « ماركة مسجلة » و«براند» يكاد يكون وحيدا لمنتج مصرى أصيل يتم تداوله عالميا، فى مجال تصميم وصناعة الحلى، بدأت معرفتى عن قرب، وكنت محظوظا عندما جمعتنى بها سفرة إلى تونس، فى إطار تبادل ثقافى مصرى – تونسى، وكانت هى مسئولة عن الحديث عن تجربتها فى الحرف التراثية وتحديا الحلى، ولكنى وجدت روحا شابة شغوفة بالتعرف على المماثل فى الحرف التراثية التونسية التى كانت قد نجحت – فى رأيى – فى تعظيم قيمة تلك الحرف ووضعها كأحد مفردات السياحة التونسية، كان ذلك قبل ثورات الربيع العربى، المهم أن شغفها استوقفنى، وكنت أعتقد أنها فى ذلك الوقت – وكانت علما فى مجالها – لا تحتاج إلى كل هذا، وعندما بدأت أقلب فى الكتاب وانتقل من صفحة إلى أخرى اكتشفت سرمن أسرار أحلام عزة فهمى المعجونة بتراب مصر، التى استطاعت أن تخط لها طريقا متفردا ونجحت فيما فشل فيه كل وزراء الثقافة فى نصف القرن الأخير، عندما حافظت على مهنة كان طريقها المؤكد إلى اندثار، مثلها مثل كثير من الحرف التراثية التى تركت فى العراء، ولم تصمد أمام غزو الصناعات الصينية، ومع رحيل أغلب الأسطوات تنقرض المهنة.
كتاب «أحلام لا تنتهى»، فى ظاهره عبارة عن سيرة ذاتية لعزة فهمى، تحكى فيه تجربتها بكل ما مرت به من مراحل الإحباط والنجاح إلى اليوم الذى أصبحت فيه عزة فهمى التى أصبحت ملء السمع والبصر فى مجالها، ولكننى قرأت الكتاب باعتباره كتاب تنمية بشرية حقيقيا، وليس تلك الكتب النظرية التى تصدر لك عدة أقوال وقد تبيع لك الوهم الذى يصطدم على أرض الواقع، نحن أمام كتاب ينير لكل من يقرأه الطريق، ويبين كيف تتحول المحن إلى منح، وكيف يقف الإنسان على قدميه من جديد بعد كل عثرة، وكيف، وهذا هو الأهم، يجد الإنسان طريقه الذى يجد فيه نفسه وذاته، وبالتالى يبدع وينجح فيه.. حكت عن تجربتها التى فشلت فيها لتصميم أغلفة لكتب الأطفال، وكيف لم تكتف مثل أية بنت مصرية بأن تكون موظفة فى هيئة الاستعلامات، ولها مرتب منتظم ومضمون، وبعد ذلك تلتفت لتربية بناتها والسلام، كان هناك شىء ما تشعر أنه ينقصها شغف داخلى لا تجد ما يشبعه، حتى جاءتها لحظة الاستنارة أو البصيرة كما اسمتها عندما ذهبت مع زميلاتها إلى جناح ألمانيا فى أول معرض للكتاب تنظمه مصرسنة ٦٩ وبصدفة قدرية – على حد وصفها - مدت يدها وتصفحت كتاب كبير مصور عن فنون الحلى، تتصدره صورة لحلق، كان سعر الكتاب ١٧ جنيها، وكان مرتبها تسعة عشرة جنيها ونصف الجنيه، وهو ما يعنى أنه سيتبقى لكل الشهر اقل من ثلاثة جنيهات، ولكنها، كما ذكرت، لم تترد، ولم تفكر سوى فى اقتناء هذا الكتاب المصور الذى غير مجرى حياتها تغييرا جذريا، وشعرت بأن الدم يتدفق إلى رأسها.
ولكن ماذا بعد هذا الشغف، لقد وقعت فى هوى الحلى وتشكيلاتها؟ دراستها الجامعية أوجدت لها أرضية، ولكن لا بد من أن تخطو الخطوة الأولى لإرضاء هذا الشغف الذى توقد بداخلها وكانت فى حيرة: كيف تشبعه.. وكانت الخطوة الأولى بأن تتشرب الصنعة من أسطواتها.. عند الأسطى رمضان فى شارع الصاغة، كانت تذهب اليه عقب انتهاء عملها فى هيئة الاستعلامات، لتجلس تتعلم مثل أى صبى، وتتشرب الصنعة وأسرارها، ومن الأسطى رمضان إلى أسطى آخر فى حى خان الخليلى، حيث شكلت القاهرة الفاطمية وجدانها الفنى، وبدأت تجاربها بأول خمسة حلقان وضعت فيهم جنيهات معدودات كانت نواة لأول «البيزنيس »، وبدأت جس السوق بعرضهم للبيع فى جالرى فى حى الزمالك، لتفاجأ بأن القط الخمس قد نفدت.. وهنا بدأت عزة فهمى تروى ظمأها لما أحبت، وما وجدت فيه ذاتها، وراحت تنهل من مناهل العلم، وتدعم تجربتها بالإطلاع والدراسة والقراءة )قالت أن مكتبتها فى صناعة الحلى أفضل وأكمل مما وجدته فى مكتبة الكونجرس)، ومن ورشة صغيرة فى بلكونة صغيرة إلى مصنع كبير الآن فى السادس من أكتوبر وإلى علامة تجارية، كما نظمت أكثر من ٢٠٠ معرض حول العالم، وأصبحت مدرسة فى تصميم المجوهرات المصرية الخالصة.
ميزة الكتاب الأساسية أنه سيبقى تأريخا لمسيرة فنانة كانت ولا تزال علامة من علامات عناصر القوة الثقافية والتراثية الناعمة لمصر، الكتاب أيضا يعتبر تأريخا حقيقيا ليس لمسيرة عزة فهمى بقدر ما هو تأريخا لأحد أهم فروع الحرف التراثية المصرية، فقد استطاعت بذاكرتها البصرية أن ترسم لنا بدقة تحسد عليها كيف كانت مصر فى سوهاج وقت العز وقت أن كان والدها يعمل فى تجارة القطن، وتؤرشف لنا التدهور التدريجى الذى لحق بوكالات القاهرة الفاطمية، وكيف كانت الحرف تنتقل من جيل إلى جيل، إلى أن انتهى بنا الحال إلى محلات تبيع الصينى على أنه صناعة مصرية.. تتذكر كيف كانت تجلس كصبى مع الأسطى تتعلم وتتشرب المهنة، كانوا يتعجبون كيف لجامعية أن تكون مجرد صبى.. وكيف كانت حلوان التى شهدت فيها فترات الصبا.
سعى عزة فهمى وراء حلمها بمعرفة أسرار الصنعة دفعها لتحقيق أحلام أخرى لم تنته إلى يومنا هذا، حلم الحفاظ على المهنة من الاندثار، حلم الانتقال بها من المرحلة المتوارثة إلى مرحلة جديدة تخاطب فيها روح العصر وتقنياته ولكن فى الوقت ذاته بالحفاظ على قدسيته الأثرية، وحلم وضع بصمات جديدة، ظهرت جليا فى رهانها على استثمار امكانيات الخط العربى غير المحدودة فى تصميماتها البديعة التى جعلت من اسمها صفحة وفصلا سيقف أمامه التاريخ بالرصد والتسجيل.
كان اختيار متحف المركبات الملكية لتنظيم الندوة وحفل التوقيع، فكرة عبقرية، لأن قضية الكتاب هى الحفاظ على أحد صور التراث، ورسالة هذا المتحف الفريد ليست إلا الحفاظ على ثروة مصر وتراثها من المركبات الملكية.
لم تسع عزة فهمى فى كتابها «أحلام لا تنتهى» إلى تقديم نفسها ككاتبة ، ولكنها صاحبة رسالة، أرادت أن تصل برسالتها هذه إلى كثيرين، ومن هنا تتأتى أهمية الكتاب الذى أخرجته « المصرية اللبنانية » بما يليق بالمحتوى، وبما يليق بعزة فهمى..
اقرأ ايضا | خبير آثار: بالقاهرة التاريخية مباني أثرية محتفظة بشكلها منذ ألف سنة