مى السيد
اشتدت المعركة بين اليمين المتطرف الذى يسعى للسيطرة على مقاليد الحكم والتحكم فى زمام الأمور فى فرنسا، وبين التيار المعتدل، الذى يبتعد عن العنصرية والتفرقة بين طبقات المجتمع، ويحاول اليمين المتطرف بشتى الطرق تنفيذ أجندته التى يعتبرها معارضوهم مشتقة من بقايا النازية والفاشية.
ويعتقد اليمين المتطرف أن السلطة السياسية المتمثلة فى الحكومة، يجب التخلص منها والتى طالما عارضت وجودهم كمجموعة بشرية لها أفضلية العيش والاستمرار فى بلدانها الأصلية دون السماح للآخرين والمهاجرين بالتمتع بنفس الحقوق والحريات.
ومن أجل تنفيذ تلك الأجندة يتورط أعضاؤها فى قضايا اغتيال وعنف والتخطيط لإسقاط الحكومات المتعاقبة، بل واغتيال الرئيس الفرنسى ذاته، مما جعل حضورهم على الساحة السياسية والاجتماعية خطرًا يهدد الحياة بشكل عام، ليس فى فرنسا بحسب، بل أوروبا بأكملها مهددة من ذلك الخطر، الذى انشغلت عنه بالأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
لم تأت تلك الاتهامات الحكومية لليمين المتطرف فى فرنسا من فراغ، بل كان إحباط الأجهزة الأمنية للعديد من مخططاتهم على مدار الأعوام الماضية، سببًا كفيلا لجعل الحكومة فى حالة عداء دائم معهم، فمنذ فترة وجه قاضي فرنسى داخل محكمة لمكافحة الإرهاب الاتهام إلى 4 أشخاص لتخطيطهم لسلسلة هجمات بما فى ذلك على مراكز تطعيم ضد كورونا.. وفى إطار التحقيق ذاته ألقت أجهزة الأمن القبض على مجموعة كبيرة من اليمين المتطرف بلغ عددهم 12 شخصًا، تبين أنهم خططوا لسلسلة من الهجمات الدموية على محفل ماسونى وشخصيات بارزة وصحفيين، وهوائيات الإنترنت لشبكة الجيل الخامس.
وأيضا أسقطت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية شبكة من اليمين المتطرف مكونة من 6 أشخاص تتراوح أعمارهم بين42 و 62 عامًا خططوا للهجوم على رئيس البلاد، واعترف المتهمون بالتخطيط للاعتداء على الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، بأنهم أرادوا طعنه بالسكين أثناء مراسم الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى التى حضرها عشرات الزعماء والقادة..
ومنذ أيام قامت وزارة الداخلية الفرنسية بالقبض على 5 من «النازيين الجدد» تتراوح أعمارهم بين 43 و69 عاما، خططوا لتفجيرات إرهابية، والإطاحة بالحكومة الفرنسية، وفى ضربة كبيرة لليمين المتطرفة والمتطرفين أوقفت السلطات الفرنسية منذ أيام قليلة «ريمى داييه « أحد أنصار اليمين المتطرف والمعروف بإطلاق نظريات مؤامرة فى التخطيط لعمليات انقلابية وأعمال عنف.
ولم تكن تلك المرة الأولى التى يتم فيها القبض على ذلك اليمينى المتطرف، ففى شهر 7 الماضى تم القبض عليه بتهمة خطف فتاة صغيرة، حيث اشتبه المحققون أنه قام بتلك العملية بحجة الاعتراض على الأحكام القضائية التى تجرد الآباء من حق حضانة أولادهم.
نواة اليمين المتطرف
ورغم تلك العمليات الأمنية الناجحة والضربات الاستباقية، إلا أن انتعاشة التنظيم داخل البلاد وتمكنه من المشاركة فى الحياة السياسية، بل وتخطيطه للسيطرة على كرسى الحكم، أدى إلى حالة من الجدل داخل وخارج وفرنسا، عن السبب الحقيقى وراء استمراره فى الصعود سياسيًا رغم المجازر التى يحاول القيام بها، فحزب مارى لوبين بات القوة الثالثة فى البلاد وحصلت هى على خمس الأصوات فى الانتخابات الأخيرة، بل اعتبرت أيضا بنشاطها اليمينى أول امرأة تحظى بشعبية فى فرنسا.
وإذا أردنا معرفة أسباب انتعاشة اليمين المتطرف علينا العودة إلى البدايات قليلا، حيث تعود جذور اليمين المتطرف فى فرنسا إلى الجمهورية الفرنسية الثالثة منذ عام 1880، حيث بدأت النواة الأساسية لليمين المتطرف عندما تم تشكيل المنظمة الأممية الاشتراكية فى مؤتمر باريس، الذى فرض المذهب المحافظ على الاشتراكيين، والذى يهدف إلى الانصياع لحركة العمال الدولية على حساب الأمة.. وهنا حدث انقسام كبير بين القوى الاشتراكية، والرافضون للتخلى عن الأمة والانصياع لحركة العمال الدولية، هم النواة الحقيقية لليمين المتطرف، الذى مع مرور الوقت أعيد تشكيله وتحول إلى شكل من أشكال القومية المعادى للسامية والماسونية وكره الأجانب.
النخبة البديلة
فى البداية لابد أن نعرف الفرق بين اليمين المعتدل والآخر المتطرف، فاليمين المعتدل يرى بأن المجتمع لابد أن يسلك مسلك كائن حى مكتمل ومنظم ومتجانس، أما اليمين المتطرف فيرغب بشدة فى التعبير عن الفوارق بين الأمم والأعراق والأفراد والثقافات بصورة مطلقة نظرًا إلى أنها تحول دون أحلامهم.. حيث يرى أنصار اليمين المتطرف أن مجتمعاتهم فى حالة اضمحلال متواصل بسبب النخبة الحاكمة، ويصورون أنفسهم على أنهم يشكلون النخبة البديلة التى تتحلى بالرصانة والعقلانية دونا عن غيرهم، والمهمة التى يكرسون لها حياتهم هى إنقاذ المجتمع من الهلاك المنتظر، ويرون أنه لابد من التخلى عن النظام السياسى الحالى أو تطهيره من القذارة حتى ينجو «المجتمع الفدائى» من الكارثة.
ومن ناحيته يرى الدكتور بسام الطحان أستاذ الجغرافيا السياسية المقيم بباريس أن الفترة الأخيرة ارتفعت وتيرة التحريض على العنف والأقليات فى السنوات الاخيرة بشكل كبير، ويرجع هذا الأمر لوسائل الاتصال المتطورة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى التى أصبحت قادرة اليوم على توحيد الأفراد الغاضبين، وأصبحت منصة لتصريف أعمال العنف الخبيثة وتسهم فى الترويج لهذه الأفكار وإقناع العديد من الشباب بجدوى التغيير عن طريق العنف بدل استخدام الوسائل السلمية والحضارية.
وأضاف أن التطرف الغربى وتطرف الإسلام السياسى، هما وجهان لعملة واحدة، حيث إن الحد من أحدهما سيقلل من فعالية ودينامكية وخطورة الآخر بشكل كبير، وكلا التيارين يتشابهان فى العديد من الجوانب الهامة كتمجيد الذات واستخدام العنف لإقصاء الآخر المختلف، ويتغذى خطاب كل واحد منهما من خطاب الآخر، واستخدام نهج سياسة التفرقة والتمييز فى تعاطيهما مع الاختلافات المجتمعية التى تتواجد داخل المجتمعات عبر بوابة الصراعات الدينية وإثارة النزاعات لتحقيق أجندته.
المتهم الرئيسى
وعن دور السوشيال ميديا فى تأجيج الصراع أكد الدكتور بسام الطحان أن كل هذه المؤسسات الغنية الرأسمالية الواسعة الانتشار بدأت تستأثر بالسلطة نوعًا ما وتحرم الدولة والمؤسسات من قدرات وهيمنة وسلطة على الشعب وفى العلاقات الخارجية، فمثلا أن تكون مؤسسة تملك المليارات، كالفيس بوك والماسينجر وغيرها وكلها مؤسسات تتبع لمالك واحد، أن يكون لها هذا السلطان على العالم فهذا بالطبع يضرب فى مصداقية الدولة، والتغلغل فى كل منزل وفى كل أسرة تجعل منها قوة رهيبة تستطيع أن تلتف حتى على كل سلطات الدولة.. وهذا بالطبع له تأثير على المجتمع وعلى حياة الفرد وعلى التربية فاليوم الطالب أو التلميذ يتعلم أكثر بكثير عن طريق النت والشبكة العنكبوتية من المدرسة والمشكلة قائمة فى كل دول العالم، وفى فرنسا تسعى الدولة الآن إلى الحد من تغلغل هذه الوسائل الإلكترونية التى دخلت فى حياة الفرد، وتعيد تشكيل وجدانهم، وتجعل من السهل السيطرة على أى شخص وجذبه لأيدلوجية معينة، بجانب عدم وجود محاسبة على الدعوات التحريضية لكل الكيانات التى تسعى للعنف.
وتابع الطحان» بات من الواجب واللازم والضرورى أن تنظر كل مؤسسات الدولة إلى سلطان هذه المواقع الاجتماعية والتى تتخطى حدود التربية التقليدية فيجب أن تكون هناك نصوص جديدة فى البرلمان، وقوانين جديدة تنظم كل هذه الثورة المعلوماتية التى قد تخلق مجتمعًا جديدًا لا علاقة له بالمثل العليا التى تنزع أو تصبو إليها مجتمعات معينة فى هذا العالم.