أحفاد الفراعنة يقدمون محاكاة لاحتفالات ملوك مصر بعيد «الأوبت» الجميل

رحلة بحث عمرها 72 عاماً لتحرير طريق المواكب الملكية

  طريق الكباش بالاقصر
طريق الكباش بالاقصر

تستعد مدينة «طيبة» الجميلة خلال الأيام القليلة القادمة، لاستقبال عشاقها من جميع أنحاء المعمورة، ليشاركوها احتفالها العالمى المهيب باستعادة وإحياء طريق الكباش الفرعونى، الممتد على طول الطريق بين معبدى الأقصر والكرنك، بعد أن ظل حبيساً منسياً آلاف السنين تحت المبانى وركام العشوائيات.

يشهدون المواكب الاحتفالية على امتداد ضفتى نهر النيل الخالد بينما تبحر زوارق الإله «آمون» فوق صفحات مياه المدينة المنتصرة، مدينة «الأقصر» التى شهدت تاريخ وأمجاد مصر العظيمة وحضارة شعبها هنا فوق أرض مدينة «تا- إبت» سيدة كل المدن تخرج العربات الملكية من قدس الأقداس بمعبد الكرنك، حاملة بين جنباتها ثالوث طيبة «آمون - موت - خنسو»، وتسير باتجاه ساحة الحرم الجنوبى أو «معبد الأقصر»، عبر طريق المواكب الاحتفالية الكبرى «الكباش»، لتعيد على مسامع العالم قصص احتفالات ملوك مصر الفرعونية

.وتجسد صور حضارتها العريقة، وصروحها الشاهقة، وتباهى العالم القديم والحديث بالمعابد والمقاصير والمسلات الضخمة، الشاهدة على بطولات وإنجازات وانتصارات ملوك مصر القديمة.

.ومن قلب سيدة كل المدن يبصر سكان المعمورة، كيف احتضنت المدينة ذات المائة باب، أمجاد الإمبراطورية المصرية العظيمة التى سادت العالم القديم، وكيف احتفل أحفاد الفراعنة بعودة طريق الكباش، واستعادوا الاحتفال الفرعونى بعيد «الأوبت الجميل»، حينما كان نهر النيل يفيض بمياهه العذبة على الأرض السوداء، ويمنحها الرخاء والخصوبة والنماء، ليعرف الجميع كيف ظل نهر النيل شرياناً ومصدراً لحياة المصريين منذ قديم الأزل، وكيف استطاعوا ترويضه وتقديسه ونصبوا له إلهًا للخير والسعادة أسموه «حابي»، وجعلوا من مصر هبة عظيمة منحها له الخالق. 
عاصرت الكشف عن طريق الكباش على مدى ثلاثة عقود، ذلك الطريق الذى طمس تماماً عبر مئات السنين،

ولم يتبق منه سوى أجزاء قليلة ممتدة من جهة معبد الأقصر، منذ أن كانت الأبنية والزراعات والمساكن العشوائية تمثل أكبر عائق أمام استكمال هذا الكشف العظيم، تخفى أسفلها كنوزاً أثرية عظيمة، وأحداثاً تاريخية من حياة قدماء المصريين، شهدها طريق المواكب الاحتفالية الذى أطلق عليه طريق «الكباش»، وكاد الأمل فى استكمال الكشف عن الطريق الممتد بطول 2700 متر يتبخر ويتلاشى لدى علماء المصريات.

 

 أقرا ايضا | طريق الكباش.. موكب عودة السياحة الثقافية لعصرها الذهبي

الفنان محمود مبروك:مصر صانعة تاريخ وحضارة تفوق الخيال

ظل حلم مشروع الكشف عن طريق الكباش يراود الفنان (محمود مبروك) طوال عشرات السنين ولم يغب هذا الحلم عن عقله وقلبه أو يفقد الأمل والحماس رغم المستحيلات التى تقف عائقاً منيعاً لتحقيقه 

وحين اجتمع جميع الأطراف على هدف واحد وجاء من يستطيع تحرير طريق الكباش كان أحد أهم من شاركوا بجهود عظيمة لإنجاز هذا العمل العظيم وسابقوا الزمن لإحياء أقدم طريق مقدس باقٍ فى العالم حتى الآن.

ويقول د.(محمود مبروك): مشروع طريق الكباش كان حلماً كبيراً لى شخصياً ولجميع الأثريين بشكل عام 
وهو أهم المشاريع التى قام بها المجلس الأعلى للآثار بعد إنقاذ وترميم تمثال أبو الهول فى الهرم 

ونعلم جميعاً أن مشروع إحياء طريق الاحتفالات الملكية الذى يربط بين معبد الكرنك ومعبد الأقصر، كان حلماً مستحيلاً بسبب التعديات والعشوائيات والإشغالات والمبانى التى كانت مقامة على امتداد الطريق بمسافة 2 كيلو و700 متر

ولم يكن لدينا أدنى أمل فى استكمال الكشف عن هذا الطريق الذى بدأ العمل فيه الأثرى الكبير (زكريا غنيم) عام 1949 لكن الحقيقة أن الظروف أو الأقدار لعبت دوراً كبيراً فى إنجاز هذا العمل العظيم إلى جانب حماس الجميع 
ولا أعنى المسئولين عن الآثار فحسب وإنما حماس الدولة المصرية بكل أجهزتها.

ويضيف د.مبروك: كان لابد من توافر إرادة من الدولة ووجود رؤية على أعلى مستوى من الدولة لأهمية هذا الطريق 
.ولم يكن يتوافر ذلك منذ فترة حكم الرئيس (جمال عبدالناصر) وحتى فترة حكم الرئيس (حسنى مبارك) تقريباً إلا حينما جاء محافظ نشيط شجاع هو اللواء د.(سمير فرج) صاحب الفضل فى تحرير طريق الكباش وخروجه إلى سطح الأرض الكباش 

وحين يجتمع معه فى الوقت نفسه، فنان مثل (فاروق حسنى) برؤيته العالية وعالم مصريات مثل د.(زاهى حواس) بحماسه وصدقه كان لابد أن يتغير الموقف تماماً ويصبح الحلم المستحيل حلماً مستطاعاً يمكن تحقيقه لأن كل الأطراف اجتمعت على هدف واحد فالقضية فى رأيى ليست التمويل 

وإنما مسألة رؤية من الدولة واستشعارها بأهمية مشروع أثرى ضخم يهز العالم ويجعله يدرك مدى روعة وبراعة تفكير المصرى القديم  الذى أقام «طريق مقدس» كأنه معبد ليصل بين الكرنك أضخم المعابد  ومعبد «إيبت رسيت» 
أو الحرم الجنوبي المعروف حالياً بمعبد الأقصر

متى بدأ العمل فى مشروع استكمال الكشف عن الطريق وترميمه؟
بدأ العمل منذ بداية عام 2002 بمنتهى الجدية والحماس صيفاً وشتاءً لإدراكنا مدى أهمية هذا الطريق وحين جلسنا مع د.(سمير فرج) طلبنا منه 19 طلباً منها على سبيل المثال عدم وضع أعمدة على طول الطريق وعدم إقامة أكشاك 

وعدم إنشاء أسوار حول الطريق وغيرها ووافق مشكوراً على كل تلك المطالب وفعلاً اشتغلنا بروح عالية جداً والمحافظ ساعدنا 

وكان يأتى لنا يومياً ويشد من أزرنا إلى أقصى درجة والإزالة كانت سريعة جداً ومعتمدة بقرار من رئيس الجمهورية واستندنا على القانون الذى أصدره الرئيس جمال عبدالناصر.

وهل تحقق الأمل وعثرتم على آثار بالفعل؟
خلال العمل كمجموعة من المجلس الأعلى للآثار مهندسين وأثريين ومرممين كنا نستشعر الاستعجال الشعبي كل يوم يأتى إلينا مواطنون لمتابعة ما تم العثور عليهكذلك كانت هناك رقابة من الدولة 

وقد عثرنا بجانب الطريق على مصانع للنبيذ من أرقى الأنواع التى كانت معروفة فى مصر ومشهورة فى العالم القديم ووجدنا أوانى من الفخار كانت تستخدم فى تقديم الفاكهة والحبوب، وعثرنا على مصانع للطوب الأحمر مختومة بأسماء الملوك 

ومنصات لوضع الأعلام على جانبى هذا الطريق الرسمي والغريب أن البعض كان يتخيل أننا نقوم بتصنيع تماثيل الكباش ونضعها فى الطريق!! هذا مستحيل بالطبع ولا يوجد تمثال واحد «فالصو» كلها تماثيل أصلية، وبحالتها وقت العثور عليها .

ولماذا توقف العمل؟
توقفنا عند منطقة السنترال لوجود أسلاك كثيرة جداً ومواسير مياه وكان يصعب العمل أيضاً فى منطقة «أبو عصبة»وبعدها قامت ثورة 25 يناير وكنا قد أنجزنا مسافة 2.400 كيلومتر ولم يتبق سوى 300 متر 

وجاء زملاؤنا بعد ذلك، وبدأوا العمل فى هذا الجزء الصعب، من السنترال وحتى الكنيسة، وتمت الإزالة وتنظيف المكان وبدأت الحفائر مرة أخرى وأنا أحترم كل واحد ضحى وعمل بهذا الموقع، مهماً كانت وظيفته وأرى أنه عمل تطوعى من أحفاد المصريين الذين احترموا أجدادهم،ونفذوا هذا المشروع، ليرى العالم طريقاً موجوداً فى مصر منذ القدم، لا يوجد مثله فى الهند أو اليونان أو أى دولة لها حضارة عريقة ربما يقترب منه فى الطول والفخامة سور الصين العظيم، لكنه طريق مقدس لطقوس العبادة والاحتفال بعيد مصرى قديم هو «عيد الأوبت الجميل».
ومتى أدركتم أن الكرنك والأقصر ليسا وحدتين منفصلتين؟
حين بدأ العمل فى القطاع الأول من ناحية معبد الأقصر عام 1949 عثر الأثرى الشهير «زكريا غنيم» على أربعة تماثيل لأبى الهول، بعدها قام الأثرى «محمد عبدالقادر»بحفائرمن عام 1961 إلى 1964 وكشف عن حوالى 46 تمثالاً لأبو الهول بالقرب من معبد الأقصر

وهذا أكبر عدد من التماثيل السليمة تم اكتشافه، مما منح خيالاً يفوق الوصف لأى أثرى فى العالم وأكد أن المعبدين ليسا وحدتين منفصلتين وإنما وحدة معمارية متصلة 

وأن المعمارى القديم ربط بذكاء شديد بين المعبدين لكى يقيم احتفالاً لفيضان نهر النيل وتنتقل «الزوارق» المقدسة الموجودة بالكرنك إلى معبد الأقصرفى احتفالات تستمرإلى حوالى 20 يوماً.

هذا الربط البديع تم خلال الأسرة الـ 18 وربما خلال فترة حكم (الملكة حتشبسوت) التى أقامت 6 مقصورات على امتداد الطريق الذى يناهز 3 كيلو مترات للراحة خلال تلك الرحلة خاصة أن الطريق لم يكن ممهداً بهذا الشكل الذى نراه ولكن مع تعاقب الملوك بدأوا يضعون إضافات للطريق، حيث إن المصرى يعتنق فكرة «بيت أبويا أكبره» 

وأصبح الطريق مقدساً بالفعل ولا يسمح لأحد بالسير فيه إلا للملوك والكهنة والشخصيات المهمة فى الدولة لكن الناس كانوا يتزاحمون للفرجة والابتهاج حول التماثيل حتى إنهم أقاموا سوراً من الطوب اللبن على جانبى الطريق.
 هل حفل الافتتاح يتضمن محاكاة لما كان يحدث فى «عيد الأوبت» فى العصر الفرعوني؟

هذا صحيح إلى حد كبير، ولكن هو انطباع وإثارة للخيال ومعايشة للجو الخيالي لا يقصد به تكرار ما كان يحدث بالضبط ولكنه انطباع وتخيل ومعايشة لنقول للعالم أن هذا الخيال كان موجوداً فى مصر بالفعل وهذا الطريق الاحتفالى المقدس كان يمر عليه الملوك 

وكل ذلك منفذ بشكل رمزى واحتفالى لأن مصر صاحبة ابتكارات فى الخيال ليس عن طريق الحكى أو الشعر أوالغناء ولكن هى عمارة ومسلات وتماثيل، وحفر فى الجبل لتخرج كتلة واحدة فى شكل «مسلة» ترتفع إلى عنان السماء أو تماثيل ضخمة تزن 1000 طن مثل تمثال رمسيس الثاني 

وحفر فى أصعب الصخور صلابة مثل حجر الكوارتز الموجود فى القاهرة ويسيربها عكس النيل من خلال تماثيل تبحر حتى الأقصر، آلاف الأطنان تتنقل من الجبل الأحمر فى العباسية بالقاهرة،وتنتقل فى النيل ليضع تمثالى ممنون الذى يزن كل منهما 500 طن بالبر الغربى بالأقصر، مصر ليست صانعة خيال ولا أحلام،ولكنها صانعة حضارة تفوق الخيال.


وكيف كان المصرى القديم يحتفل بعيد الأوبت؟

الاحتفال كان يشيرإلى أن نهر النيل يجدد دفع المياه، لكل الأراضى الزراعية فى القطر المصري وكأن هناك تزاوج إلهي، والتاريخ هنا مكتوب ومرسوم كأنه شريط سينمائى يمكن مشاهدته ولكن على الحجر..ففوق جدران معبد الأقصر تُظهر الطقوس وتفاصيل الاحتفال بعيد الأوبت، المراكب يجرها المتطوعون بالأحبال، لتبحر فى نهر النيل وتتنقل من معبد الكرنك حتى وصولها لمعبد الأقصر.. آلاف البشر يجتمعون 

والحرس الملكى والجنود يحافظون على النظام والمتدينون قادمون من المدن المصرية،والمتطوعون يحملون الأعلام المرصوصة على الطريق وترمز لكل دولة، والفرق الموسيقية ترتدى ملابس موحدة تظهر الرشاقة والجمال 

 

(  د. مبروك اثناء متابعة العمل فى «الكباش»)

والذوق والألوان وتنظيم الحركة وفى الوقت نفسه هناك الفرق القادمة من إفريقيا والنوبة للمشاركة فى الاحتفال كل منها تؤدى الرقصات الخاصة بها بملابسهم وألوانهم المختلفة عن مصر وسفراء قادمون من الدول المجاورة 

والذبائح قادمة من ريف مصر لتقديمها قرباناً فى هذا الاحتفال، وكل الشعب يأكل الطعام والفاكهة ويرقص ويغنى ويبتهج وأشياء أخرى عديدة كلها مسجلة على شريط رائع ومتواصل، كأنه شريط سينمائي.


هل هناك لوحات تشرح للزائر تلك التفاصيل؟

وضعنا لوحات توضيحية-لأول مرة-على جانبى الطريق،لكنها لاتحجب الرؤيةولا يؤثر حجمها على جمال الطريق وشكله وهى تشرح وتفسر للجمهور كيف أقام المصريون القدماء هذا الطريق 

وفى كل مكان به مصنع أو كنيسة أو مبنى رومانى أو مقياس نيل أو بئر، نضع لوحة توضيحية لكى يدرك الزائر الواقع الذى كان موجوداً فى ذلك الوقت، منها لوحة 24 متراً تبين تفاصيل احتفال الأوبت والنصوص الخاصة به، واحدة وضعت فى معبد الكرنك والأخرى فى معبد الأقصر.

 

.

  (د. محمود مبروك)

كما وضعنا صوراً حقيقية توثق مراحل الكشف عن الطريق وتوضح الشكل فى كل مرحلة وحصلنا على الصور من مجموعة هائلة جداً محفوظة منذ ما يقرب من 77 عاماً وصوراً أخرى التقطها بعض الهواة وقامت مجموعة بجمع كل الصور التى تخص الحفائر والاكتشافات الأثرية، من شيكاغو هاوس، والمتحف المصري والأقصر، وسقارة 

وتم وضعها بمركز تسجيل الآثار، باعتبارها كنزاً لتاريخ الحفائر، وهذه الصور كنز لا يقدربثمن لأنها تسجل شكل الأثر لحظة الكشف عنه.

وحرصنا علي ألا يضر الرسم بالطريق بصرياً وفى الوقت نفسه لا أحد ينتهك حرمة الطريق ونمنع وصول الناس والحيوانات إليهلذا عملنا تصميماً لسور من الخرسانة القوية يرتفع إلى متر عن الأسفلت بمحازاة الطريق، وغطينا السور بالطوب اللبن من الداخل 

وبالأحجار الرملية المشهورة فى الأقصر وأسوان من الخارج ليتناسق اللون مع طريق الكباش ويشكلان معاً وحدة قائمة بذاتها. وصممنا منحدرات داخل السور على طول الطريق تسمح للزائر بالخروج من الطريق 

ولكن دون بوابات.


أين توجد الرسومات التى اعتمدت عليها الأمريكية «إليزابيث» فى فيلمها عن مولد أبو الحجاج؟
فى معبد الأقصر من الجهة الغربية عند صالة الأعمدة على اليمين والشمال هناك رسومات تصور طقوس احتفالات «عيد الأوبت».