يوميات الأخبار

السيرة المجهولة لمنشآت «حواء»!

عبدالهادي عباس
عبدالهادي عباس

هكذا كنتُ أحمل مصباحى لأبحث عن الحقيقة الغائبة فى مجمع اللغة العربية

لم يكن الانتباه إلى مكانة المرأة فى المجتمع وليد الحداثة التنويرية فى النصف الأول من القرن العشرين حين انفتحت الأعين على الأفكار الغربية الداعية إلى حقوق المرأة، ومن ثم ظهرت كتب قاسم أمين حول تحرير المرأة، وبنت الشاطئ حول نساء النبي، ولا ما كتبته مى زيادة حول باحثة البادية؛ وإنما يمتد الاهتمام بتراجم النساء وذكر مآثرهن إلى البدايات الأولى لفنون كتابة السيرة والترجمة للرسول وصحابته، ومن هذه الكتب «بلاغات النساء وطرائف كلامهن ومُلح نوادرهن وأخبار ذوات الرأى منهن وأشعارهن فى الجاهلية والإسلام»، لأحمد بن أبى طاهر طيفور الخراسانى المتوفى 280هـ، وكتاب «تاريخ النساء» للأبيوردي، و»معجم النسوان» لابن عساكر، و»تاريخ نساء الخلفاء من الحرائر والإماء» للبغدادي، وغيرها من مئات الكتب التى أبرزت دور المرأة طوال التاريخ الإسلامى وكيف كانت مؤثرة فى مجريات هذا التاريخ وليست مجرد ظل للبطل.

ورغم هذا التاريخ الممتد فإن «حواء» لم تنل ما تستحق من دراسات حتى تخرج من نطاق الضمير المستتر تقديره «هي» إلى الفعل الواضح والصريح؛ ومن هنا تأتى حكايات إيهاب الحضري، مدير تحرير الأخبار، والكاتب المعجون بالتراث المصرى بكل عصوره الممتدة حول: «نساء وراء الجدران.. السيرة المجهولة لمنشآت حواء» فى كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. قد تختلف مع الحضرى فى كثير من الأشياء، ولكنك لن تجادل فى عناوينه المبدعة ولا كونه موسوعة أثرية ومرجعا لا غنى عنه فى كامل ملف التاريخ المصري.

يبتعد الحضرى عن المادة التاريخية الجافة ويهتم بحكاية كل امرأة اختارها مادة لكتابه، كاشفا أسرارها وهمسات أنفاسها، وقد بذل فى معايشة كل قصة جهدا كبيرا حين كان يمشى فى قيظ الصيف يوميا، بل وفى بعض أيام رمضان، ليعيش أياما كاملة وسط هذه الأماكن الأثرية المنسوبة إلى النساء، وكأنه يُسائلها عما كان ويناقشها فى تلك المعلومات التاريخية التى تكاد ألا تستقر على رأى واحد حتى تعارضه عشرات الآراء البديلة، لتبقى بعد ذلك فرادة الكتاب الحقيقية فى تعريفنا بعدد كبير من نساء مصر المجهولات، لعلنا ننصف «النصف الحلو» فى مجتمع ذكورى بالفطرة.    

لو أن الفتى حجر!
يبدو الاحتفاء بالموت شائعا عندنا نحن العرب، والمصريين خاصة، رغم أن الأولى بنا أن نحتفى بالحياة ونحترم الموت، ذلك المراوغ القديم والصديق الحميم، أجسادنا سكن له، وآمالنا مهرب منه، وإيماننا باب مفتوح لتغلبنا عليه، غير أنه يتحالف مع القنوط واليأس لكسر علاقتنا بالنور الأزلي، سبيل الفراشات البيضاء نحو التحليق حين تهرب من عتمة القبح وحنادس الأفئدة.

علاقة العربى بالموت قديمة وممتدة فى جذور ضميره الجغرافى والتاريخي، تُحاصره فى لحظات أنسه قبل ساعات بؤسه، فتنغلق عليه الحياة من أقطارها، يحفظ قول المتنبي: نحن بنو الموتى فما بالنا* نعاف ما لا بد من شربه، وقول ابن النبيه: الموت نقادٌ على كفه* جواهرٌ يختار منها الجياد؛ فلا يجد أمامه سوى تلك الأمنية العزيزة التى تمناها الشاعر القديم: تميم بن مقبل، حين قال: «لو أن الفتى حجر!»، إذ الشعور بالفقد مؤلم، ولاحتلال روائح الموت للأجواء هيبة الأسد الضارى بين غزالات عجفاء؛ فالموت يقتات على نواح الثكالى ودموع اليتامى، هو الأساس والحياة طارئة عليه، هو رفيق الإنسان منذ ولادته، يجرى فى دمه، ويسكن بيته، ويُشارك فى تفاصيل حياته، حتى إذا أتته أوامر المخاتلة ناشه فى سعادة الظافر المنتصر، ثم انتقل إلى وجبةٍ أخرى؛ غير أن العربى يفهم هذا ويتجاوب معه دونما انكسار لمآسيه أو استسلام لمراميه، وإنما يناوره مناورة الثعالب ويهتبل سويعات حياته فى الاندماج بأشكال الطبيعة من حوله، ينبعث فيها ويتداخل معها، يشتمّ عبيرها ويهبها زفير مواجعه، فتندبه الأرض وتبكى عليه السماء، ثم يسعى لبناء حياة أخرى بعد فناء جسده بالسيرة المنسوجة بالطيبة التى تجعل منه بطلا لحكايات الجدات فى مدينة الخيال الفاضلة؛ وهكذا يصبح الموت حياة كاملة عند ذوى القلوب العامرة بالمحبة لخلق الله، وموتا مبئسا عند أهل النبض الأسود من خدام وساوس الرجيم، فلا يتساويان فى ميزان الحياة ولا ميزان الأحياء، ومن ثم يُصبح الموت انتصارا لأناس وهزيمة لآخرين.. وتُصبح أمنية التحول إلى «حجر» عند الفقد رجاء لا سبيل إلى تحقيقه ولو فى خطرات الأحلام ومزالق الأوهام، إذ الشعور بالألم «نعمة» مغبون فيها كثير من الناس، لأنها جزء من إنسانية الإنسان.

«خناقة» الخالدين!
حين تعيش فى شرنقة الوهم الطوباوى الكاذب، حيث تخدعك نفسك أن بالأرض ملائكة مطهرين، أئمة بلا خطايا، قديسين لا يحتاجون إلى كرسى الاعتراف؛ فهم هالة النور وانبثاقة الفجر، ودفقة الندى فى صحراء اليأس؛ حين تخدعك نفسك بذلك فأنت رهين محبس بقية الخير الإنساني، تلك البقية التى دفعت الفيلسوف الأثينى القديم إلى أن يحمل مصباحا فى يده ويسير بالنهار فى الشوارع، وعندما سألوه عن ذلك، قال: إننى أبحث عن الحقيقة!

هكذا كنتُ أحمل مصباحى لأبحث عن الحقيقة الغائبة فى مجمع اللغة العربية، أبحث عن الحقيقة فى غير مكانها وبغير وسائلها، إذ تذبل زهرات الخالدين وردة إثر أخرى، وأصابت معظم الأعضاء سهام الضعف الثانى وأضحوا أسارى الشيبة الخانقة، تلك هى سُنة الله فى خلقه، ولكن الخالدين يأبون إلا التمسك بحقهم فى كرسى عضوية رهينة محبس الزمن، فذبل المجمع بذبولهم وانتكس بنكستهم؛ وتكلس إلى ذلك المكان الوقور، الهادئ، المستكين فى صمته الأزلى بجوار نيل الزمالك، المتلفع بالعجز العلمى والاستنامة العقلية، المرتكن إلى اليأس، إحدى الراحتين؛ ومع هذا الصمت القبورى يندفع موج كالجبال تحت ملساء السطح، يحمل زبد الصراع على كرسى الإدارة: إدارة المجمع، وإدارة اتحاد المجامع؛ ينقسم الأعضاء والباحثون إلى نهرين، ثم إلى قنوات فرعية، ويتسع البرزخ الفاصل بالاستقواء بالوزارة من جانب، وبالقانون من جانب آخر؛ كلٌّ يغنى على ليلاه، وليلى ترجو شابا مستطيعا بنفسه، لا بغيره، يعرف كيف يسوس شوارد اللغة فيلزمها أوابد المعاجم، فتزهر حقولنا اللغوية التى ضرب التصحر أطنابها، وتنفجر ينابيع المعانى زمزمًا، فنعلو بتاريخنا ونغلب بحاضرنا، نتأبط شرا كرَّة أخرى، فقد سئم الخير منا، نسابق الشنفرى، ونعجب بلهو طرفة وكبريائه القاتلة، نصيح مع عنترة صيحة الفارس المفتون ببارق ثغر حبيبته، نبكى مع الشماخ بن ضرار قوسه، ونحن نعالج ونطعم «أم عامر» وننسى أنها وحش سيفترسنا حين يقوى؛ قرارات الإصلاح لا بد أن تنبع من الأعضاء، أو من شباب الأعضاء، أهل السبعين، مع البدء بتمحيص قانون الثلاثينيات وعضوية مدى الحياة، وكل هذه المواد التى تجاوزها قطار الحياة؛ وإلا فإن: «الخطايا ينادى بعضها بعضا»، كما يقول الإمام ابن القيم.

«مرسولة» عباس
عندما تتصارع الأفكار وتتنابذ يتخلق الأدب وينمو ثم ينفطم ويشب ويقوى فتقوى معه الجوانب الأخرى للحياة؛ ولكن هذه القوة الأدبية المتنامية لا تلبث حتى تُعكر صفوها «الأغراض»، والأغراض أمراض، التى تأبى الاختلاف الفكرى وتخشاه، إذ يفرز تعددًا فى وجهات النظر وتناميًا فى الحرية الفردية التى ترفض روح القطيع التى انسلت إلى روحنا المصرية من فريقين: اليسار بتوجهاته المختلفة والجماعات الدينية والسلفية بأفكارها الوبيلة على الشخصية المصرية؛ فى ظل هذه الأمواج المتلاطمة من الأفكار التى تدعى المدافعة عن روح هذا الوطن تأتى رواية «مرسولة» للصديق المبدع أحمد عباس، لتغسل عنا أوضار الكسل العقلى واليأس القانط وتبث فى نفوسنا الأمل من جديد فى رؤية أعمال إبداعية تحفر فى عمق الروح بعيدا عن الرتوش الزائفة للشكل، تثق فى قدرة الفتاة المصرية على التحدى والانعتاق: تحدى الأوضاع السياسية الفاسدة، والانعتاق من أسر العادات الاجتماعية البالية، فتنتصر «ذات» الكاتب حين تنتصر «مرسولة»، تلك الحكاية المصرية الآتية من الجنوب، حيث لا يزال النيل صافيا لم يتلوث بعد بعكارة القاهرة.
أثق أن «مرسولة» ليست العمل الأول لعباس، فلا شك أن هناك أعمالا قبلها لم تر النور، ولا شك أيضا أن هناك أعمالا أخرى كثيرة لا تزال تملأ جعبة الحاوى المترع بالحكايات، سينتظرها القارئ فى لهفة الصحراء إلى المطر.       
ختامه مسك
قال تعالى: «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين، واجعلنى من ورثة جنة النعيم».. (الشعراء: 84-85).