أبو العلا البشري.. مشهد من الذاكرة 

مغازي شوقي
مغازي شوقي

بعض البشر كالعمر.. لا يعاد ولا ينسى ولن يتكرر مرة أخرى . وكذا بعض الأعمال الدرامية الخالدة لن تعاد ولم تنسى وبقيت تحيا بداخلنا  ومنها مسلسل رحلة أبو العلا البشري الذي أذيع لأول مرة عام 1986 م . حين اصطحبنا الرائع أسامه أنور عكاشة بريشة مبدعة حد الإشباع . كان البدء مع العبقري محمود مرسي الذي أمسك بيدنا ليجعلنا نتحسس وكأننا نقرأ بطريقة بريل معاني كثيرة سادت ثم بادت في أعقاب ما سمي آنذاك بالإنفتاح  .

 

استطاع بصوته وتعابير وجهه أن ينقل إلينا تجربة  ذلك الرجل الذي قضى ثلاثين عامآ من عمره في احضان الريف ومدينة سخا بكفر الشيخ عاش فيها بين احضان الطيبين و عصير الكتب. حتى تشرب وجدانه وسكنت أعماقه شخصية  دون كيشوت وتصارعت بعقله أفكار عدة عن الحب والضمير والصدق . كان يرى العالم بنظارة من المثالية ويتفحص سلوكيات المحيطين بعدسة الأخلاق والمثل.


 الدنيا مالها ولا إحنا مالنا ..ولا الزمان نسانا إيه جرى لنا..بقينا نحبس في الصدور سؤالنا ..ونحسد الصادق على صدقه..ونقف بين العاشق وبين عشقه ..نهرب من الصافيين إذا بكيوا..ونحسد الباكيين إذا ضحكوا.
كلمات من تتر مقدمة المسلسل...  كانت بمثابة مدخل رائع لعمل درامي كبير  وبأدوات إخراج عادية لم تصلها تكنولوجيا اليوم انتقلنا آنذاك لمتابعة صراع الفضائل التي عاشت في وجداننا وربينا عليها مقابل التغيرات طرأت على المجتمع المصري وحولته إلى جسم غريب  . تصوير رائع بلغة مثقفة وحوار  صيغ بعناية شديدة .

 

مهندس زراعي عاش حياته بين الكتب والبساطه الريفية. رجل حمل بداخله الكثير من المفاهيم الصالحة لحياة تقترب من المدينة الفاضلة، خرج على المعاش بعد حياة قضاها في عمله ولم يغادر فيها سخا، قرر أن يعيش ما تبقى له من العمر في خدمة من عرفهم من أقاربه وبعد ان تبنى ابنة احد اصدقاء العمل رحل الى القاهرة وهناك وجد كل المفاهيم قد تغيرت من الجيد و النفيس الذي عاش بينه في صفحات الكتب  الى الردىء في كل المجالات و قرر أن يثور ويعدل كل ما يراه في محيط العائلة  الأقارب حتى ضجروا وشعروا بأنه يتدخل في شؤنهم الخاصة .تصاعدت الأحداث عندما عرفوا  أنه قد ورث إرثاً كبيرا فسارعوا بالتقرب إليه مره اخرى مع رصد كبير للعديد من التغيرات في شخصيتهم جميعآ.  وبعد مشاكل عدة اكتشف انه كان يحارب طواحين الهواء . 


وحيث انني لست بمقام الناقد للعمل الدرامي . فهذا درب له سالكيه و خبرائه . فقط .. تسرقني البهجة والمتعة حينما أشاهد بعض فقرات هذا العمل الآن .. استوقفني مشهد تحدث فيه ابو العلا البشري ل نجوى احدى شخصيات العمل المحورية .. بالنسبة لي هي بمثابة محاضرة عن الحب بين معنى وألف .. .. (   أنا بتكلم عن الحب المثالي بعذريته برومانسيته بلمسة الطهر اللي فيه بروح الشاعرية اللي جواه.. زمان كنا بنحب زي ما نقرا الشعر أو نسمع مزيكا أو نتفرج على لوحات ناجي وصبري ومحمود سعيد.. كانت لمسة من الايد.. مجرد لمسة تغيبنا عن الوجدان.. كانت نظرة من العين تسهرنا للفجر.. وكانت رعشة الكلمة الحلوة على الشفايف تبكينا..


كانت حلقات مسلسل رحلة السيد أبو العلا البشري .. ملحمة إنسانية قدمت مجموعة من القيم والأخلاق والمكتسبات الثقافية، ناقشت ببراعة التغيرات التى طرأت على الموروثات و الشخصية ومفهومها لمعايير المكسب والخسارة وتناولت الصدام والصراع بين الضمير والمصلحة... تركت بصمة كبيرة وتشكيلا لوعي جيل كامل .. بين ثيربانتيس وأسامه أنور عكاشة ، دون كيشوت وأبو العلا البشري ..  عشنا هذه الصورة وعاشت بداخلنا .