كنوز | صفحات مطوية

جبران خليل جبران
جبران خليل جبران

جبران خليل جبران

فى هذه الغرفة المنفردة الهادئة قد جلست بالأمس المرأة التى أَحَبَّها قلبى.

إلى هذه المساند الوردية الناعمة قد ألقتْ رأسها الجميل. 

ومن هذه الكأس البلورية قد شربَتْ جرعةً ممزوجة بقطرةٍ من العطر.

كل ذلك قد كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود ! أما اليوم فقد ذهبت المرأة التى أحبَّها قلبى إلى أرضٍ بعيدة خالية مقفرة باردة..

تُدعى بلاد الخلو والنسيان.

إن آثار أصابع المرأة التى أحبها قلبى لم تزل ظاهرة على بلور مرآتى، وعطر أنفاسها ما برح متضوعًا بين طيَّات أثوابى، وصدى صوتها لم يضمحلَّ بعد من زوايا منزلى. 

لكن المرأة نفسها - المرأة التى أحبَّها قلبى - قد رحلت إلى مكانٍ قصى يُدعى وادى الهجر والسلوان!

أما آثار أصابعها وعطر لهاثها وأشباح روحها فستبقى فى هذه الغرفة حتى صباح الغد، وعند ذلك أفتح نوافذ منزلى لتدخل أمواج الهواء وتجرف بتيَّارها كل ما تركته لى تلك الساحرة الحسناء.

إن رسم المرأة التى أحبها قلبى لم يزل مُعلَّقًا بجانب مضجعى، ورسائل الحب التى بعثت بها إليَّ ما برحت فى العلبة الفضية المرصعة بالعقيق والمرجان، وذؤابة الشعر الذهبية التى حَبَتْنى بها تذكارًا، لم تخرج قط من الغلاف الحريرى المبطن بالمسك والبخور، جميع هذه الأشياء ستبقى فى أماكنها حتى الصباح.
وعندما يجيء الصباح أفتح نوافذ منزلى ليدخل الهواء ويحملها إلى ظلمة العدم إلى حيث تقطن السكينة الخرساء.

إن المرأة التى أحبَّها قلبى شبيهة بالنساء اللواتى أحبَّتهن قلوبكم أيها الفتيان، هى مخلوقة عجيبة، صنعتها الآلهة من وداعة الحمامة، وتقلبات الأفعى، وتيه الطاوس، وشراسة الذئب، وجمال الوردة البيضاء، وهول الليلة السوداء، مع قبضة من الرماد، وغَرفة من زبد البحر.

وقد عرفت المرأة التى أحبها قلبى أيام الطفولية، فكنتُ أركض وراءها فى الحقول وأتمسَّك بأذيالها فى الشوارع.

وعرفتها أيام الصبا، فكنت أرى خيال وجهها فى وجوه الكتب والأسفار، وأشاهد خطوط قامتها بين غيوم المساء، وأسمع نغمة صوتها متصاعدةً مع خرير السواقى.

وعرفتها أيام الرجولية، فكنت أُجالسها مُحدثًا وأسألها مُستفتيًا، وأقترب منها شاكيًا ما فى قلبى من الأوجاع، باسطًا ما فى روحى من الأسرار، كل ذلك كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود. 

أما اليوم فقد ذهبَتْ تلك المرأة إلى أرضٍ بعيدة خالية مُقفرة باردة، تُدعى بلاد الخلو والنسيان.

أما اسم المرأة التى أحبها قلبى .. فهو « الحياة »، فالحياة امرأة حسناء تستهوى قلوبنا، وتستفدى أرواحنا، وتغمر وجداننا بالوعود، فإن أمطلت أماتت فينا الصبر، وإن أبرَّتْ أيقظَتْ فينا الملل!

الحياة امرأة تستحمُّ بدموع عُشاقها! وتتعطر بدماء قتلاها!

الحياة امرأة ترتدى بالأيام البيضاء المبطنة بالليالى السوداء! 

الحياة امرأة ترضى بالقلب البشرى خليلًا وتأباه حليلًا! 

الحياة امرأة غاوية ولكنها جميلة! ومن يَرَغوايتها يكره جمالها!

من كتاب «الرؤيا»

إقرأ أيضاً | سامية جمال تختار غرام علي أمين.. فما السر؟