يوميات الأخبار

وانتصرت مصر..

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

فى مثل هذه الأيام منذ خمسة وستين عاماً عاشت مصر حدثاً جللاً. تعرضت لعدوان غاشم عرفه التاريخ باسم: العدوان الثلاثى، لاشتراك ثلاث دول فى الاعتداء على مصر، هى انجلترا وفرنسا وإسرائيل

وهذه بعض اللحظات العظيمة والقاسية التى مرت بها مصر فى هذه الفترة.
 دخل الدكتور محمود فوزى، وزير الخارجية، مشدود القامة إلى مكتب سكرتارية الرئيس جمال عبد الناصر. حين رآه السكرتير هب مرحباً. قال له إن الرئيس أمر بدخوله فور وصوله. دخل الدكتور محمود فوزى. سأله الرئيس: دكتور فوزى، منذ مدة أرسلنا خطاباً للبنك الدولى بخصوص تقديم قرض لنا لبناء السد العالى، ماذا تم بخصوص هذا القرض؟
قال فوزى: لم يصلنا منهم أية ردود حتى هذه الساعة يا افندم.

- ألا ترى أن الرد تأخر؟
- هذا صحيح، لكن ربما كانوا يتفاوضون مع بريطانيا وأمريكا اللتين ستضمنان مصر فى هذا القرض، وستساهمان بمنح وقروض لمصر لتتمكن من تمويل عملية البناء.
- من فضلك يا دكتور تابع الموضوع، فالسد العالى هو أهم مشروع يخدم المصالح المصرية، لأنه يتعلق بالنيل، شريان الحياة بالنسبة للمصريين.
- تحت أمرك يا افندم

فى الوقت ذاته كانت اللقاءات والمفاوضات تدور بين دالاس، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، والسيد بلاك رئيس البنك الدولى حول السد. سأل دالاس صاحبه: هل درستم الموضوع جيداً؟
وأمسك السيد بلاك بدراسة ضخمة فى يده، وقال لدالاس: هذه دراسة وافيه للمشروع. إنه فعلاً مشروع ضخم، ستستفيد منه مصر، وسيرفع قيمة ناصر أمام شعبه. يكفى مثلا أن مصر سيكون بوسعها إضافة مليون فدان جديدة للأرض المزروعة، وستحول نظام الزراعة الحالى، المسمى برى الحياض، ولا يسمح بزراعة الأرض سوى مرة واحدة سنوياً إلى الرى الدائم، الذى يسمح بزراعة الأرض أكثر من مرة، بالإضافة إلى أنها ستولد من السد كمية كبيرة من الكهرباء التى تحتاجها.

صمت دالاس قليلاً. لاحظ بلاك هذا. سأله: فيم تفكر؟
 قال: فى مصلحة الولايات المتحدة.
 بدا أن بلاك لم يفهم: هل سترفض الولايات المتحدة تمويل المشروع؟
- لا. لكننا سنتبع سياسة خاصة. سنوصل عبد الناصر لحافة اليأس، ثم نلوح له بالأمل، لكنه سيكون أملاً مشروطاً بشروط تحقق مصلحة الولايات المتحدة، وإما أن يوافق، وإما....
 فهم بلاك الرسالة، وبناء على ذلك إلتزم الصمت.
 فى نهاية مايو 1955 قرر السفير أحمد حسين، سفير مصر فى الولايات المتحدة، أن يأتى فى زيارة سريعة للقاهرة، ليشرح لعبد الناصر الوضع فى أمريكا. طلب هربرت هوفر، مساعد وزير الخارجية الأمريكى أن يلتقى بالسفير قبل المغادرة. والتقى الرجلان. وبدأت أمريكا تعلن شروطها بنعومة. قال هوفر لأحمد حسين: إن مصر يجب أن تقبل بجميع الشروط المالية التى فرضتها أمريكا وبريطانيا.
- وبعد؟
- هناك طلبان محددان يجب أن تنقلهما لناصر.
- ما هما؟
- أولاً: أن تعلن مصر فى بيان رسمى، إمتناعها عن عقد المزيد من الصفقات مع الاتحاد السوفييتى. لأنها إذا اشترت أسلحة لن تجد المال اللازم لدفع نفقات بناء السد، وتسديد القروض.
- والثانى؟
- أن يمارس ناصر نفوذه لعقد صلح بين العرب وإسرائيل.
- حسناً. سأبلغ السيد الرئيس بشروطكم، وله القرار.

اللعبة انكشفت
 فى مصر قال عبد الناصر لأحمد حسين:
- أمريكا ستتملص من تمويل السد. إنهم يضعون شروطاً يعلمون أننا سنرفضها لكى نكون نحن الرافضين.
 بدا فى عينى السفير التساؤل. واصل عبد الناصر:
- لا تندهش هكذا. لقد وصلتنى المحاضر السرية جداً المتعلقة باجتماع وزراء خارجية حلف بغداد الذى انعقد فى مارس فى طهران، ووجدت فيها الإجابة على موقف الولايات المتحدة وبريطانيا.
كان «حلف بغداد» فكرة إنجليزية، ترتب عليها وجود تنظيم يضم كلاً من: العراق، وتركيا، وإيران، وباكستان، وبريطانيا، وحاولوا ضم مصر إليه، لكنها رفضت الانضمام، ورفضت سياسة الأحلاف تماماً، لأنها صورة جديدة من محاولات السيطرة على دول الشرق الأوسط.
 ولكى يناور عبد الناصر فى مواجهة الولايات المتحدة قال لأحمد حسين: حسناً، سأعطيك فرصة لكى تثبت شيئاً من أجلى. عد وقل لدالاس إنك قبلت بجميع شروطه، ثم راقب رد فعله.

وفى طريق العودة أعلن أحمد حسين فى لندن أن مصر تقبل بكل الشروط، ووصل واشنطن وقد سبقته الأخبار، فماذا وجد فى انتظاره؟
 أعلن دالاس يوم 18 يوليو، قبل وصول أحمد حسين، سحب العرض الأمريكى بتمويل السد، وبعده أعلن البنك سحب موافقته على التمويل. وصرح عبد الناصر يومئذ: «سنبنى السد بأنفسنا، وسنفعل كل شيء لجعله حقيقة واقعة»، وجاء الرد الحاسم يوم 26 يوليو بميدان المنشية بالإسكندرية، بعد أسبوع واحد من الموقف الأمريكى: «بتأميم القناة».
انطلق المصريون أثناء الخطاب فاستولوا على مواقع هيئة قناة السويس فى القاهرة ومدن القناة. لكن المعركة لم تنته. قرر المرشدون الأجانب أن ينسحبوا من العمل لكى تفشل مصر فى إدارة القناة.
لكن محاولتهم لم تنجح، فقد انضم المرشدون اليونانيون لمصر، وتمكنوا بالتعاون مع المصريين من سد العجز. ونجحت مصر فى إدارة القناة.

إذن هى الحرب
 لاحظت كلاريسا، زوجة إيدن رئيس وزراء بريطانيا أن زوجها عكر المزاج، شارد الفكر. كانت تعلم أن زوجها يكره ناصر كراهية التحريم، ورغم هذا سألته: فيم تفكر؟ فى ناصر؟
- فعلاً.
- هذا الرجل يجب أن يعاقب. يجب ألا يمر بفعلته. لقد صار ديكتاتوراً لابد من تحجيمه.
- الملعون. إنه لا يكف عن مهاجمة بريطانيا، وبدلاً من أن ينضم إلى حلف بغداد راح يهاجم الحلف ويهاجمنى شخصيا، ولا شك أنه نجح فى مهمته وجعل الدول تبتعد عنه. لكن الأغرب أنه يتحدانى، ويتحدى الولايات المتحدة الأمريكية، تصورى أننا حين رفضنا إمداده بالسلاح حصل على السلاح من الاتحاد السوفييتى، والأكثر غرابة أنه اعترف بالصين الشعبية رغم أنه يعلم أننا نعاديها. والمؤسف أن الصحافة الإنجليزية تهاجمنى بشدة، لأنى أصبر عليه، وتطالبنى بعقابه. والبرلمان يهاجمنى، وحزب العمال المعارض يهاجمنى. هل صار عبد الناصر هو قدرى؟
تفتق ذهنه عن اتفاق مع فرنسا للقيام بحملة مشتركة لاسترداد قناة السويس. كانت فرنسا تكره ناصر لأنه يساند حركات التحرر فى المغرب العربى، خصوصاً الجزائر، كما أن مقر الشركة قبل التأميم كان فى باريس، وصاحب فكرة حفر القناة كان فرنسياً. وعقد الطرفان اجتماعات سرية فى «سيفر»، البعيدة عن الأنظار، وحضر معهما وفد من قادة إسرائيل بقيادة بن جوريون، وزير الدفاع وعضوية موشى ديان وشيمون بيريز. واتفقوا على الخطة. وبدأ تنفيذ الخطة يوم 29 أكتوبر بهجوم من كتيبة مظلات إسرائيلية على سيناء.

كان السفير المصرى فى لندن «سامى أبو الفتوح» يتوقع السوء منذ لحظة التأميم. وفى يوم 30 أكتوبر، اليوم التالى للعدوان الإسرائيلى، جاءه استدعاء عاجل من وزارة الخارجية البريطانية. ذهب لمقر الوزارة. دخل على الوكيل الدائم للوزارة (السير إيفون كير باتريك)، فلم يمهله ليجلس، وتلا عليه البيان:
- يجب وقف كل الأعمال الحربية فوراً، فى البر والبحر والجو.
- تنسحب قوات الدولتين (مصر وإسرائيل) مسافة عشرة كيلومترات شرق وغرب القناة.
- تقبل مصر باحتلال مدن القناة بواسطة القوات الإنجليزية والفرنسية المشتركة.
- إذا لم تتم الموافقة على ذلك خلال إثنتى عشرة ساعة فسوف تتدخل الدولتان لتنفيذ هذه الشروط بالقوة المسلحة.
رفض عبد الناصر الإنذار. وبدأ العدوان الإنجليزى الفرنسى فى اليوم التالى مباشرة،31 أكتوبر 1956 على مدينة القاهرة، والإسكندرية، ومدن القناة، لتدمير القوة الجوية لمصر. ثم هاجمت قوات الدولتين مدينة بورسعيد. وتوجه المتطوعون المصريون من كل مكان إلى المدينة الباسلة ـ واشتعلت المقاومة. وقام الرجال بأعمال تفوق الخيال: خطفوا مور هاوس، ضابط المخابرات وقريب الملكة إليزابيث، وهاجموا المعسكرات الإنجليزية، ونسفوا تمثال ديليسبس، واستمر القتال بلا هوادة، رغم عدم تكافؤ القوى.

ردود الفعل
- وجه الاتحاد السوفييتى إنذاراً للدول المعتدية، وهدد بأنه إذا لم يتوقف العدوان فسيضرب لندن بالصواريخ.
- هددت الهند بالانسحاب من الكومنولث.
- أدانت الصين العدوان، وأرسلت لمصر هدية مقدارها 20 مليون فرنك سويسرى هدية.
- رفضت الولايات المتحدة العدوان.  
- طالبت الأمم المتحدة الدول المعتدية بوقف العدوان والانسحاب.
- كان الموقف العربى عظيماً، ويكفى أن نعرف أن السوريين قطعوا خط البترول القادم من العراق إلى أوروبا، فعرفت أوروبا معنى نقص الطاقة فى برد الشتاء.

وتوقف العدوان، وأنزل العلم البريطانى من فوق مبنى هيئة قناة السويس فى بورسعيد يوم 19 ديسمبر، وانسحبت القوات يوم 22 ديسمبر، وتسلمت مصر المدينة يوم 23 ديسمبر، وهو يوم العيد القومى لبورسعيد.
 أما إسرائيل فقد عادت لقواعدها وتركت كل الأراضى التى احتلتها فى مارس 1957.
 إنها صفحة مجيدة من صفحات التاريخ. بعدها صار عبد الناصر زعيماً عالمياً، وصارت مصر قائدة لحركات التحرر، وتراجعت بريطانيا من الدولة التى لا تغيب الشمس عن مستعمراتها إلى دولة من الدرجة الثانية.